اقترفها ومضى·· الحياة كذلك شيء يقترف·· شغل النقاد والناس ومضى·· هل كان يبحث عن الخلود··؟! كان يريد أن يجعل من مسألة الموت فاصلة مفتوحة على فواصل وأقواس حية·· كنت جالسا مع الكاتب المؤرخ مجيد مرداسي يتقاسم طاولتنا في محل زيدي دائما الطفل العائد أبدا بمعنى نيتشه صاحب ''نجمة''، قلت لمجيد، ''تصور حتى وهو غائب في ضريحه يفتح أمامك أبوابا كنت نسيتها، للتعرف عليه من جديد من خلال الطرق المتجددة''·· أجل في حالة الكتابة حتى عن من نعتقد أننا عرفناهم بمجرد معاشرتنا إياهم بما يمكن أن نتصور أنه كفاية، نكتشف أننا لا نعرفهم كفاية عندما لا نطرق الباب مجددا··· أن نطرق الأبواب ونعيد طرقها هو الطريق المؤدي إلى اكتشاف من يقودنا بعد أن يفتح الباب مجددا إلى الجديد في قلب اللحظة الذابلة والعتيقة··· لم أكن أفكر بطرق أبواب ياسين بالكثير من الإلحاح والوعي اليقظ عندما كنت أسير إلى جنبه في غابة ابن عكنون·· كانت أسئلتي بحثا عن طريق نور إلى عالم الكتابة·· والحياة؟! لم أكن أفكر بوجودها أصلا وهي تنبض·· في تلك اللحظة من تلك الأيام لم أكن أتصور مطلقا أنني سأجدني في ظل لحظة مثل هذه، داخل غرفة منزل عائلتي في قلب هذه القمة المبللة بالأضواء الشاحبة في الخارج أحاول أن أستعيد ما تشظى من زمن وصور وكلمات ساعيا من أجل بناء جديد [أو متجدد؟] للحظة الشاردة والضائعة نفسها في أدغال المتاهة·· الموت، الغياب الكلي والشامل لمن كانوا بالأمس من عالمنا هو القادر على استفزازنا وتحريضنا على تحقيق الرغبة التي كانت بالأمس نائمة وها هي اليوم ملحاحة وجامحة إلى إعادة بناء اللحظة، وبين اللحظة المعاشة واللحظة المرغوب إعادة بنائها واسترجاعها ثمة ثقوب وفواصل سائلة ورمل متسرب من بين الأصابع لا يتحقق إلا كتحقق المحاولة المجنونة لتحويل ما عشناه فعلا في الأحلام إلى زمن معاد ومقبوض عليه في الزمن الحقيقي، زمن اليقظة·· هو نفسه لم يكن يقوم بالجهد الكافي حتى يخلد حياة الآخرين الذين أحبهم وكرههم باستثناء ذاك الفيض الذي جرفه عندما كتب نجمة·· كان يتكلم، يروي، يحكي وفي ذلك لذة كبرى أكثر مما كان يكتب·· كان له طقس للكتابة، وطقس للحياة والكلام·· كان طقس الكتابة قد أفرغ في زمن وجيز ومبكر عندما كتب نجمة وملاحقها، ثم تفرغ الوقت كله للعيش مع وفي حياة الآخرين، كصحفي وراوية متجول، كمتسكع ومغامر ومشاجر ورحالة·· كان يروي كل ذلك بغبطة ولذة وعبقرية·· وعندما يسأل، لماذا لا تكتب كل ما ترويه يا ياسين، كان يتضايق ويتحجج بضيق الوقت·· كان مسكونا بالعود الأبدي إلى العرين الحي، رمز الخلق والحياة، الشعب·· وكان هذا الشعب، مثلا، العم طلحة الذي تعرفت عليه بدوري في سيدي بلعباس·· كان يشتغل موظفا بالمكتبة البلدية المحاذية لمبنى المسرح الجهوي للمدينة، تعرف عليه ياسين عندما جاء مديرا إلى سيدي بلعباس·· انعقدت صداقة كبيرة بينهما·· كان طلحة في الستينيات من عمره، يلبس رداء تقليديا ويضع على رأسه عمامة صفراء·· متدينا وضليعا في اللغة العربية، قوي البنية وعتيد الصوت، وجهه محفور بإمارات صارمة لكنها تخفي في أحيان كثيرة، طفلا مليئا بالحنان داخله، كان ياسين ينزل إلى المكتبة البلدية من مكتبه، وكان يتصفح الصحافة والكتب القديمة والعتيدة التي خلفتها وراءها فرنسا·· كان يجلس الساعات الطوال وهو يتحدث أو يصغي إلى العم طلحة، الذي كان مناضلا في حزب الشعب، ثم في الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية لمصالي الحاج·· وكان يروي على مسمعه مغامراته في المنطقة الغربية، وأذكر حكاية رواها لي، وعرفت أنه رواها لياسين من قبل، عندما تمكن فصيله من القبض على أحد المتعاونين مع الجيش الفرنسي.. لقد قام طلحة بقطع أنفه، ثم أذنيه، ثم أشفاره ورموشه·· ثم يواصل بأنه سلمه إلى الشباب الذي كان حديث بجيش التحرير مكتوف الأيدي·· ويقول طلحة أن المتعاون، تمكن من فك الحبل الذي كان مربوطا به وتمكن من الهروب·· ويومها كان العقاب شديدا الذي ألحق بذلك الشباب المنضمين حديثا إلى جيش التحرير·· كنت مفزوعا من الصورة، وعندما أعدت روايتها لياسين سنوات من بعد، ضحك ياسين، وقال، ''هؤلاء هم الرجال، ولولا هم، ما تمكنت الثورة من أن تكون ثورة عظيمة···'' وكان الشعب عند ياسين·· هو أيضا ذلك الرجل المسن، ذا القامة الطويلة والوجه العظمي البارز عمي مروان، الذي كان يجلس معه يشربان الشاي حتى أن يثملا بالحكايات التي لا تنتهي·· كان الشعب عند ياسين، أولئك الذين يعرفون كيف يكتبون لحظات عيشهم بسواعدهم، وبنزقهم وشجاعتهم وصدقهم ومهاتراتهم وشجاراتهم واندفاعاتهم أمام أهوال الأخطار·· لكن كذلك برجولتهم التي كانت تعني البساطة والتواضع وقدرة الصبر وتحمل للألم·· وكان هذا الشعب هو الذي حلم به ياسين عندما أعلن التخلي عن الكتابة أن يصنع له فرحته، يكتشف من خلاله ملامحه وصورته وحياته واللحظات التي تساعده على التفكير لتغيير حياته وراهنه وغده بنفسه··· وكانت الاستعارات التي كان يفتض بها ياسين بكارة لغتة الأدبية كلها مستقاة من هذا العرين المقدس·· الذي اسمه ''الشعب''·