ناقش كل من شفيق مصباح ضابط سام في الجيش سابقا، والرائد لخضر بورقعة، أحد القادة السابقين للولاية الرابعة والمؤرخ عبد المجيد مرداسي في فضاء النقاش ''ألف نيوز ونيوز''، الخميس الماضي موضوع ''الوطنية الجزائرية''، حيث حاولت الجلسة تعرية المفهوم تارة بالعودة إلى تاريخ الثورة، وتارة بالرجوع إلى المقاييس والمعايير الموجودة حاليا، فكان هذا النقاش·· كانت نوعية الحضور مختلفة ككل مرة، تتراوح بين الأدباء والروائيين والأكاديميين، لكنهم كلهم مهتمين على اختلاف تخصصاتهم بالوطنية كمفهوم يبحث عن حدود بدايته ونهايته في جزائر مكتظة بالأحداث التاريخية والحديثة خاصة السياسية منها التي تتأثر وتؤثر في الوطنية كصفة وكمسار· الكاتب والمحلل شفيق مصباح: ''ليست لدي عقدة من القول أنا جزائري وطني'' كان أول من تناول الكلمة، الضابط المتقاعد الذي تفرغ إلى الكتابة والتحليل، شفيق مصباح صاحب، مؤلف ''الجزائر بين نهوض وركود''، حيث عاد بمفهوم ''الوطنية الجزائرية'' إلى عهد الثورة الجزائرية كنقطة ارتكاز أو إحدى البدايات التي يمكن أن ينطلق منها تحديد مفهومها استنادا أيضا إلى بعض الأحداث والوقائع التاريخية· واعتبر المتدخل أن موضوعا من هذا النوع وسط مشهد وحركة ثقافية مشلولة تماما، يعتبر إنجازا وتحديا يستحقان التنويه، حيث عرج مباشرة بعد ذلك إلى تاريخ الحركة الوطنية ودخل بابها من تحميل كامل المسؤولية لمتابعة تداعيات الاستقلال للجيل الجديد، معارضا فكرة أن يبقى جيل الثورة صاحب المبادرة في كل شيء· وقال مصباح إن الحديث عن الوطنية ''لابد أن يكون من منطلق تاريخي خلال اجتماع بين أكاديميين وميدانيين، وهو ما لم نهتم به للأسف الشديد''· وذكر مصباح أنه اطلع على كتابات عن الحركة الوطنية ككتاب الفرنسي ''ريمي مادوي'' الذي يعطي الانطباع فيه عن الرائد لخضر بورقعة، والعقيد حسان (يوسف الخطيب) بأنهما ''مجرمان علينا ذبحهما لكن مسيرتهما الثورية هي واقع آخر''· وليس بعيد عن الوطنية كإحساس قال مصباح إنه كلما قرأنا تاريخنا على يد كتاب من الغرب تتمزق قلوبنا، ''مما يعيد إلى ذهني التساؤل حول تخلفنا عن الكتابة· ولم ينف المتحدث وجود إرادات لا يروقها هذا النوع من الكتابات، ''وموقفهم مبرر بالتناول السلبي وغير المؤسس لبعض الحقائق التي تكون فيما بعد منطلق يحكم من خلاله على وطنيتهم''· ثم يتجه مصباح في هذا الصدد صوب مركز الإشكالية ويحصرها في وجوب التوفيق بين النظرة الأكاديمية، والواقع التاريخي للحقائق· وذهب المتحدث نفسه بعيدا في الحركة الوطنية عندما كشف بأنه كانت تراوده شكوك حول مجموعة ال 22 الثورية ''التي تم فيها تخوين جماعة قسنطينة بعد انسحابهم، وهذه تساؤلات لها علاقة بالوطنية كمسار وكحركة''· وعلى ضوء هذا الواقع، اعتبر مصباح المنظومة الجامعية مستقيلة من مهامها في مجال الكتابة التاريخية والبحث فيها، وأعطى مثالا على ما يمكن تناوله على هذا المستوى كاختلاف النظرات حول الرئيس هواري بومدين، واستدل باختلاف الرؤية بينه وبين الرائد بورقعة حول هذا الراحل المرحوم· وتطرق الرجل أيضا في سياق ذاته إلى الردود التي وقف بها ضد رئيس المجلس الأعلى للدولة علي كافي عند تناوله قضية عبان رمضان ''وقلت له إن في الدول المتطورة والتي تحترم نفسها نقاشات من هذا النوع تدور داخل الجامعات وليس في المحاكم''· وختم مصباح بقوله: ''أنا ليست لدي أي عقدة بأن أقول أنا جزائري وطني''· الباحث في التاريخ عبد المجيد مرداسي: قوة الطابوهات والمناعات تمنع النقاش حول الوطنية'' استهل عبد المجيد مرداسي مداخلته مباشرة من تحديد الإشكالية قبل تناول الموضوع· أكاديميا بالنسبة لمرداسي هناك مناعات وطابوهات تمنع من تناول الوطنية بالمنهجية العلمية· فلم يطل الباحث في الاستدلال على طرحه، وقال ''هناك من السياسيين من يرفضون إدماج الحزب الشيوعي في مسار الحركة الوطنية، وهذا إشكال عويص يقف في وجه دراسة مفهوم ''الأمة الوطنية'' أو ''الوطن''· ورجع المتدخل بالإشكال إلى مابعد الاستقلال مباشرة، وقال إن الخطوط الحمراء والحدود وضعت منذ ذلك الحين، خاصة وأن ''فكرة تحديد مفهوم الوطنية بحسب المعطيات يستحيل التنظير لها خلال الثورة لضبابية الأحداث والوقائع''· وتطرق مرداسي إلى تباين المفاهيم بين نشطاء الكتابة التاريخية ''فبالنسبة لمحمد حربي لا توجد أمة جزائرية قبل الاحتلال، وإذا رجعنا إلى تاريخ الحركة الوطنية نجد قول فرحات عباس·· لقد بحثت عند الأموات وعند الأحياء عن الوطنية، لا أحد منحني الإجابة، وهذا موقف كبير من حيث الأحكام لكل فيه رأيه، وعندما نتطرق إلى قول عبد الحميد بن باديس·· شعب الجزائر مسلم·· نجدها أنها جاءت ردا على من نفوا صفة الوطنية عن الجزائريين''· واعتبر مرداسي هذه الأحداث تأريخا للوطنية حتى بالتطرق لأزمة حزب الشعب وحركة الانتصار من أجل الحريات والأزمة البربرية التي عرفت أهم فصولها حينما ركزت الفدرالية الفرنسية على البعد الأمازيغي ''ما أدى إلى حملة من تصفية الحسابات''· ويقول عبد المجيد مرداسي أيضا إنه من بين الأمور التي صنعت الوطنية كمسار كبريات الأحداث التي أثرت في مفهوم الوطنية مستدلا بأحداث 8 ماي ,45 وقال بأنها غيّرت المفاهيم حولها مقارنة بما كان سائدا عن الوطنية قبل ذلك· ثم جاء الاستقلال أيضا ليكرس نوعا آخر لمفهوم الوطنية كحركة إصلاح وثقافة· لكن قبل ذلك يشير هنا إلى نقطة مهمة قبل الاستقلال تخص العنف الثوري كأسلوب اعتمدته نخبة المنظمة الخاصة للوصول إلى الاستقلال، ''هو الآخر شكل مناعات مطلقة وخليط من المواقف أسس للدولة الوطنية حسب مفهوم تيار جديد فرض نفسه وقتها''· وهنا أثار مرداسي مسألة الشعبوية، وقال بأن الوطنية الجزائرية أصبحت مطبوعة بهذا النمط'' الذي يمنع نضج الأطروحات العلمية التي تتطلب إعادة التفكير''· وقال الباحث مرداسي في تشخيص القضية ''هناك تفكك في روابط الوطنية والمشكل هناك ما يبرر هذا التفكك وهو انتشار التفكير بالعصبية والقبلية التي هي مضادة تماما لأسس الوطنية''· ومن بين ما أفرزه تصدع ''الوطنية'' -حسب مرداسي- هو انتشار ازدواجية الجنسية ''وهي قضية يطبعها كتمان مخيف علينا أن نبحث في أسبابه والابتعاد عن العمل مع الوطنية بالأساليب العاطفية· وكان المتحدث يرجع في كل مرة إلى الاستدلال في تحليله على وقائع من الثورة، وقال هذه المرة عن بيان نوفمبر بأنه ''لم يكن حاملا لمشروع ثوري بقدر ما كان يهدف لتأسيس دولة وطنية تضع أسلوب السلاح كخيار أو وسيلة للوصول إلى مفاوضات· بورقعة: المواطنة اليوم أصبحت وظيفة وليست صفة من جهته، كان لتدخل الرائد لخضر بورقعة وقع إيجابي في إثراء النقاش، حيث قال إن هناك من يعتقد أن الوطن أو الوطنية تدخل في إطار الأمن القومي وتعني عند بعض الدول كثرة الشرطة والسجون، لكنها في الواقع هي تكوين الفرد واحترامه، وأنتم تعرفون اليوم الوضع الذي آلت إليه المواطنة التي أضحت وظيفة وليس صفة رغم امتلاك هذا العصر مزايا كثيرة، في إشارة إلى وقوع أحداث عديدة لم يعد في وسع أحد أن يخفيها عن الجزائريين الذين أصبحوا -حسبه- يستشعرون عن بُعد المستقبل· وفي تعريفه للوطنية، قال بورقعة: ''هي ليست مرسوما أو قرار ينزل على صفحات الجريدة الرسمية بل نستطيع الإحساس بالوطنية في إجماع عام بين الجزائريين حول قانون أو مشروع ما يجمع مصلحتهم العامة''· وبالنسبة لضابط جيش التحرير، فإن الأفكار والنقاش حول الوطنية لا ينبغي أن يجمع مجمل الناس بل شخص النخبة فقط التي تقود الرأي العام لتفادي النقاشات الخاطئة· وعندما عرج نحو الحركة الوطنية قال الرجل إن الثورة كمفهوم تختلف عنه كحرب مثلما هو شائع ''فالثورة لها بداية ولا تعرف لها نهاية بينما الحرب محددة زمنيا، لها خطة مسبقة تنقسم فيها الأدوار بين اقتصاديين، واجتماعيين وعسكريين''· ومن هذا المنطلق، قال بورقعة إن الثورة لم تكن طريقا مفروشا بالورود والبساط الأحمر بل كانت فيها إخفاقات وانتكاسات وأخطاء، وهي طبيعة الثورة التي علينا أن نملك الشجاعة لمناقشتها· وفي عبارة قوية قال المتحدث إنه ''يتعين التجاوز على كل من يشكك في تاريخ الثورة لأنهم لم يجدوا مصادر موثوقة· وشدّ بورقعة قول فرحات عباس حول فقدانه للوطنية في الجزائر، وقال ردا على ذلك ''عندما قرّر رواد الثورة تفجيرها انتظر فرحات عباس مليا لكنه رجع وقال لقد اتخذتم قراركم وأصبح واقعكم مفروضا، فها أنا أعود إليكم وتحت تصرفكم، فما كان أمام أذكياء الثورة الوطنيين الذين حافظوا على لحمة الصف إلا أن يضعوه رئيسا لأول حكومة جزائرية''· واعتبر يورقعة أن أهم فترة ضبابية مرت بها الثورة كانت ما بين 54 و56 بسبب فقدان التنسيق وقيادة موحدة وغرقنا بين أخلاقيات القانون وأخلاقيات الواجب التي نتجت عنها الغلطات، فلم تكن معايير واضحة للتفريق بين الخطأ والصحيح· ودائما حول تلك الفترة قال إن فرنسا أيقنت بعد وثيقة الصومام أن الجزائر وضعت مشروعا للاستقلال، فبدأت تتخلى عن مستعمراتها للتركيز على الجزائر، ''ولما فلت الأمر بين يديها اهتدت إلى فكرة وضع أذنابها في الداخل لزعزعة الاستقرار''· كما حذّر الرجل عند عودته للحديث عن الوطنية إلى استحداث دارفور جديدة بالجزائر، بتبني السلطات أسلوبا عقابيا تجاه كل من يرتكب خطأ مسؤولية وتحويله إلى الصحراء، وإعطاء الانطباع بأن الصحراء فيها ظروف قاسية ''ليكن في علمكم بأن الصحراء الجزائرية قادتنا إلى إطالة أمد الثورة إلى 3 سنوات أخرى وأن 80 بالمائة من الشهداء سقطوا خلال فترة الدفاع عن الصحراء''، ليختم قبل النقاش بأنه ليس للاستقلال معنى ما لم نحدد الاستقلال عن من؟ ومن من؟ ''وأنتم تعرفون محيطنا جيدا''· النقاش يبحث عن مفهوم عندما فتح المجال أمام الحضور لمناقشة مضامين التدخلات كان الانشغال مركزيا·· ماهي الأسباب المؤدية إلى فشل مشروع إقامة وطنية متجانسة وماهي الحلول؟ وهل نحن اليوم بحاجة إلى إعطاء مفهوم جديد للوطنية· واستند مدير جريدة ''الجزائر نيوز''، احميدة عياشي، في الانشغال الأول على مداخلة عبد المجيد مرداسي الذي أعطى حوصلة حول بعض الأسباب التي تحكمت في مفهوم الوطنية، واثار استاذ الفلسفة بوزيد بومدين اشكالية الهواجس المتقاطعة في الذاكرة، والتي تتمرجع كما قال عن الوطنية كتاريخ، إما بانجامان ستورا ومحمد حربي، وإما بتوفيق المدني أو أبو القاسم سعد الله، '' كما أن العقل الجزائري حول موضوع التاريخ أصبح مرهون بتقنية الرد والشكوك كما هو حاصل بين الجماهير الرياضية المصرية والجزائرية''، وراح عمر أزراج إلى طرح إشكالية إهمال الأبطال التارخيين من البسطاء، واقتصار التأريخ على الأسماء الثقيلة بينما صنعت الساكنة في القرى والمداشر ملاحم بأساليب المقاومة، '' حيث كانت تقوم المرأة الجزائرية بحماية شرفها بالوشم وروث البهائم من الفرنسيين، وقد استعمل البريطانيون تقنية كتابة التاريخ من المنطلق المحلي''·