من بين المثقفين العرب الذين اعتززت بمعرفتهم واستنرت بأفكارهم، مثقف عربي ليبي مارأيت مثله مثقفا عربيا معجونا من عروبة ومصنوعا من دماثة، يذكرك حين يحدثك بلهجته البدوية الليبية بأولئك الذين صنعوا مجد العقل العربي في القرون الخوالي، وكأنه قطعة منهم وجدت طريقها إلى هذا الزمان· عرفته أول ما عرفته في سبعينيات القرن الماضي·· كنت قادما إلى دمشق من بغداد مع عدد من الصحفيين العراقيين لحضور المؤتمر الصحفي الذي عقدته محكمة الشعب العربي للنظر في القضية رقم 1 وهي قضيةئذهابئالرئيس المصري أنور السادات من وراء ظهر حركة التحرر العربي وبعض الأنظمة العربية إلى إسرائيل· حدث في مطار دمشق إشكال بروتوكولي للطائرة لم يحل إلا حين جاء هذا الرجل الذي كان يشغل منصب أمين مؤتمر الشعب العربي في ليبيا، فأعجبتني كياسته ولباقته ونحن في قاعة المطار يتجاوز ذلك الإشكال·· ثم أعجبتني طريقة إدارته لذلك المؤتمر الصحفي الذي حضره أكثر من ألف صحفي من مختلف أنحاء العالم· ومضت السنوات فإذا بالرجل على رأس المجلس القومي للثقافة العربية ومقره في الرباط ويصدر مجلة مرموقةئ هي مجلة الوحدة، فأبعث له مع صديق مشتركئدراستين إحداهما عن الوضع الإجتماعي للطفل العربي، والثانية عن دور جزائريي الشام في حركة التحرر القومي، فينشرهما باهتمام· وبعد ذلك تعددت اللقاءات السريعة بيننا، كان بعضها في الجزائر· ذلك هو عمر خليفة الحامدي الذي كان من أوائل المتعلمين في قبيلته الحوامد التي تسكن على بعد 100كيلو متر من الحدود التونسية، ولأن الكثير من القراءئاليوم لا يعرفون تاريخ القبائل العربية في المشرق والمغرب على حد سواء، عليّ أن أقول لهم إن قبيلة الحوامد هذه التي تمتد في عدة دول مغاربيةئولها امتدادات في دول مشرقية، كانت واحدة من القبائل التي ثارت مرارا ضد الاستبداد الطوراني العثماني، فأُهملت·· لكنها واصلت الكفاح ضد الإحتلال الإيطالي فزادها إهمالا، لذلك لم تعرف المدرسة الحكومية إلا في خمسينيات القرن العشرين وكان عمر من أوائل المتعلمين فيها، ثم التحق بطرابلس حيث معهد المعلمين ثم التحق بدراسة القانون، وعمل في الصحافة· كان المثقف والدبلوماسي الليبي، ولا يزال يقدر المثقفين والمفكرين العرب ويعايش ويتفهم همومهم، ويشكلون شبكة علاقاته وصداقاته، وهي صفة تصل إلى حد الميزة، فنحن لا نجدها عند السياسيين العرب الذين يحصرون علاقاتهم بالمثقفين في حدود المجلة، وإن تعدوها فتكون لأسباب إعلامية تتعلق بتلميع صورتهم·· لذلك لا نجد الحامدي نجما إعلاميا رغم أنه اشتغل في الصحافة والإعلام· لا نجده ضيفا دائما على القنوات الإعلامية المرئية أو المكتوبة أو المسموعة، كما يفعل ساستنا ودبلوماسيينا العرب،ئ فيتوسع الإعلام بالحديث عنهم بقدر ما تتوسع مجهولاتهم· لكننا نجد الحامدي خلية لا تتوقف عن العمل في الوسط الثقافي وفي الوسط الجدي، لذلك ينتدبه قائد الثورة للعمل في المواقع التي لا تحتمل سوى العمل الجدي كما هو حال سفارته في الجزائر، ثم في السودان وقبلهما في المجلس القومي للثقافة وفي مؤتمر الشعب وغيرها من المواقع الجدية· ورغم هذه الجدية الكبيرة في العمل، إلا أن الحامدي صاحب نكتة ظريفة وقفشات لطيفة يلطف بها جلساته العملية الجادة· وقد زرته ذات يوم من عام 2003 في مكتبه فلاطفني قائلا: إنك يا سهيل مثالا للمواطن العربي المغبون، فأنت في المغرب والمشرق في وقت واحد تعيش الوحدة العربية لوحدك، وتعيش عذابات المواطن العربي وحدك وتعاني وحدك من قهر المثقف العربي·· والحامدي فيه الكثير من الفراسة ودقة التوصيف حتى ظننته أنه أحد علماء الفراسة الذين قرأنا عنهم في التراث·· فكم من مرة يخبرني عن صفات أجهلها في هذا الشخص أو ذاك، ولكن ما إن تمر أسابيع حتى أقع على صدق فراسته ودقة تقييمه للأفكار والأفراد· ورأيت في الصديق عمر صفة الأفكار، إنه من بين كثير من الدبلوماسيين والمثقفين الذين عرفت، وهي بإيمانه القوي بأفكار قائد الثورة الليبية في الوحدةئالعربية والسياسة والإقتصاد وعلاقات الشعوب، فلا تحس وهو يحدثك عن هذه الأفكار أنه حديث مجاملة أو دبلوماسية أو أنه حديث وظيفة كما تحس هذا الأمر عند كثير من المثقفين والدبلوماسيين الذين يغيّرونه مع تغيّر الرئيس أو الوزير·· ويبدو أن ذلك طبيعة فيه، فهو شديد المودة لأصدقائه، فقد كتب عنه مثقف عربي ''ليس سفيرا وداعية تواصل ولكنه قبل ذلك أخو إخوان، مهموم بالعمل القومي والأجندة القومية وصاحب مبادرات''· قبيل انعقاد القمة الأخيرة في الجماهيرية كنت قد كتبت في صحيفة ''أويا'' الليبية بتاريخ 27/8/2009 مقالة طالبت فيها بعقد قمة عربية خاصة تهتم بمستقبلنا الثقافي حيث قلت: ''أو لا يستحق مستقبلنا الثقافي والحالة هذه قمة خاصة·· أم أنه لم يعد يهم أي أحد منا·· كما لم يعد يهم الذين أنتجوا الدورة الحضارية التي داهمتنا''، وواصلت الحديث في موضوعات أخرى حول الثقافة العربية وضرورة اهتمام الساسة العرب بها· بل تمنيت في مقال آخر أن يعود المجلس القومي للثقافة العربية الذي كان يرأسه الصديق الحامدي، بل وطالبت بعودة مجلة الوحدة إذ قلت: ''·· ما أحوجنا اليوم إلى هيئة تلملم ثقافتنا القومية وتمنعها من الانحدار، إننا نرفع أيدينا إلى السماء بعودة المجلس القومي للثقافة العربية ومجلته الوحدة، فثقافة الأمة بحاجة اليوم بل في هذه اللحظة وليس في اللحظة القادمة، لمن يوقظها من الوهدة ··''· ورغم أنني خصصت هذه الحلقات عن ذكرياتي مع المثقفين والأدباء الذين أناروا لي جزءا أو أكثر من طريقي، ومنهم أخي الأستاذ عمر الحامدي، إلا أنني لا أستطع منع نفسي عن التعبير عن سعادتها حين علمت أن هذا الصديق الجاد والرزين عاد إلى المجلس القومي للثقافة العربية في طرابلس، وهو من الذين يعدون أوراق القمة العربية القادمة في سرت والخاصة بالثقافة العربية ومستقبلها· وأنا أعتقد أن الذين اختاروا الحامدي لهذه المهمة في هذا الوقت بالذات قد أحسنوا الاختيار· فمثل هذا الصديق من استوعب ديناميكية الثقافة العربية ماضيها وحاضرها، وليس فيه بلادة الأكاديميين التي نعرف ولا تهويم الفلاسفة والمنظرين، وليس فيه لحظوية السياسيين ولا تسرع الصحافيين، بل فيه عروبة رزينة لا تمنع الحماسة، وفيه حماسة لا تغشي البصر، وهي صفة حاولت أن أتعلمها منه لكني كنت تلميذا غير نجيب· وفقك الله أخي الحامدي في هذه المهمة الثقافية وأنت في ليبيا الشقيقة التي أنجبت ابن منظور الذي حفظ لسان العرب، شكرا لرزانتك، شكرا لحماستك·