كلما تذكرت الأستاذ عبد الله شريط فكرت في محنته· وقد ارتفعت درجتها عندي لدى نعيه إلى المثقفين في الجزائر وفي البلدان العربية، التي تعرفه جامعاتها وأوساطها الفلسفية والفكرية أكثر ما عرفته جامعتنا وكثير من مثقفيها ومؤسسات دولتنا ومسئولوها، في فكره وإسهاماته وجدالاته الصحفية ومحاوراته الإذاعية وفي معركة مفاهيمه، لا في شخصه تحديدا· إنه لشيء درامي أن يعيد الموت إلى ذهن النخبة الجزائرية، معربيها خاصة، أنه عاش بينهم مثقف وكاتب ومفكر اسمه عبد الله شريط؛ لأنها نخبة ظل هو ذاته غير واثق من قدرتها على التجمع حول مشروع نهضوي؛ نظرا إلى تركيبتها النازعة إلى ''أصولية ثقافية'' ارتبطت دائما بالديني كمحرك لنواياها وكعاصم من احتمالات انزياحها إلى الطروحات العلمانية· فإنه طالما ناظر غيره، من رموز النظام الفكرية أنفسهم، في أن الثقافة العربية في الجزائر ولغتها وتعليمها لها كلها من مقومات الوجود والتأثير والنهوض بالفرد وبالمجتمع من أجل بناء فكر عصري ما لثقافة (الآخر) ولغته وتعليمه برغم فارق تقدم هذا (الآخر) التقني والفني والاقتصادي والمادي؛ يكفي أن تتدخل الإرادة السياسية لوضع ذلك على سكة مشروع الجزائر الديمقراطية الاجتماعية· غير أن ذلك ما لم يتم، كما كان ينتظر كمفكر، فشكل بالنسبة إليه أحد عوامل تلك المحنة التي ظهرت بوادرها في صيغ تشاؤمية رددها في حواراته الإعلامية خاصة حول ما يمكن اعتباره استحالة لبناء نظام ديمقراطي في ظل غياب أحزاب لا تكتفي بالنقد بل تطرح البدائل ولها من النية ومن القدرة ما يجعلها تؤدي دور المعارضة الساعية إلى التداول· وحول الاستكانة الغريبة للشعب الجزائري لقدرية مصيره على يد سلطة دولته التي لم تمكنه من الانعتاق· وحول فشل الأخلاق موضوعة فكره الأساسية في بناء دولة قائمة على العدل؛ أساس كل ملك· أتحدث عن الأستاذ عبد الله شريط بصيغة المحنة؛ لأني تصورته دائما ذلك المثقف المنتمي عضويا إلى حزب حاكم، سعى جهده أن يدخل من رؤى المفكر غير السياسي ما يلطف من جموديته كما هي صفة أيديولوجيات الأحزاب الأحادية كلها· فالذين كانوا من جيلي شبابا في متصف السبعينيات يتابعون مقالاته في أسبوعية ''المجاهد'' الناطقة باسم جبهة التحرير، يتذكرون ذلك الحماس الذي يبلغ حدود النخوة حين يمنح نفسه حق المفكر فيتكلم في ما لا يستطيع غيره من كوادر الحزب أنفسهم التكلم فيه؛ بالنظر إلى مستوى التنظير من وجهة نظر تقاطعت غالبا مع التنظيرات العروبية والقومية، وذلك ما تمت مقابلته بالتحفظ والتوجس وبالرفض أيضا لدى الأوساط ''غير العروبية'' النافذة في الحزب نفسه كما في دواليب الدولة· بل ولم يهضمها التيار المعرب ذاته لكونها نابعة من مفكر وتلك درجة أخرى من محنته · إنه مآل لا بد من وصفه بأنه درامي· فقد تحول جهده المتراكم بالنسبة إليه حاجزا دون بلوغه أي درجة من درجات سدة الحكم؛ ذلك أن جبهة التحرير نفسها لم تدفع به، مقابل ''خدماته الفكرية'' كما توقع دائما إلى أن يستوزر مثلا، كما حدث الشأن بالنسبة لزملاء له في العضوية وفي الاختصاص الأكاديمي· أو أن تفتح له بابا في هيئة نيابة، ليس ليحظى بتقاعد مريح، ولكن ليضع أفكاره الفلسفية على محك السلطة وتشريعاتها· لعل السبب، وهذا ما أدركه مؤخرا لا محالة، يكمن في أن ملمحه الذي شكلته مواقفه الفكرية والفلسفية وإن كان مهادنا سياسيا لحسابات أظهرت الأيام أنها لم تكن مجدية لم يكن يستجيب لتوجه سياسي خشي دائما إقحام ''المثقفين جدا'' في دواليب الحكم· وهي نزعة لها جذورها في تاريخ حرب التحرير؛ استمرت تنمو ولا تزال تتفرع في ظل الزمر المتداولة على السلطة· من هنا، في تقديري، تفاقم محنته في أعوامه الأخيرة لشعوره أنه سيغادر مجحودا من غير مجد؛ كم عاش يتصور أن الكتابة والفكر كفيلان بتحقيقه، إن لم يكن التاريخ النضالي لعائلته· ولكن لكونه مثقفا فإنه يكون قد بقي، إلى آخر نفس، مثشبثا بأمله في أن التاريخ سينصفه يوما· وها قد بدأ ذلك· فإن الذين جحدوا الأستاذ عبد الله شريط وأنكروه وولوا عنه هم الذين غادروا ويغادرون بلا مجد، إن لم يكن الريع هو الذي أعطاهم من سراب الجاه· أما هو فإنه سيظل، من خلال مؤلفاته وكتبه خاصة المؤسسة منها مثل (الفكر الأخلاقي عند ابن خلدون)، حاضرا في المشهد الفكري والفلسفي والثقافي والأدبي الذي تطوره أجيال الجزائر المتعاقبة·