أحدث ماريو فارغاس يوسا في سبعينيات القرن العشرين قطيعة على مستوى منهجه الفكري، بعد أن قرأ شهادات المثقفين المنشقين عن النظام السوفياتي، وتأثره بفلسفة ألبير كامي حول التمرد· انفصل نهائيا عن سارتر بعد أن أبدى صاحب ''الغثيان'' تعاطفا غير مفهوما مع الأفكار الماوية في الصين الشعبية، دون أن يعطي لنفسه عناء فضح تجاوزات الثورة الثقافية، وجوانبها غير الإنسانية· انتقل يوسا من اليسار إلى اليمين، ولم يعد يثق في الأفكار اليسارية والاشتراكية· وفي نفس الوقت جرت قطيعة أخرى، على مستوى علاقته بجماعة ''البُوم اللاتينو- أمريكي'' (وهي جماعة متكونة من ماركيز، كورتاثار، وفوينتيس)، إذ تدهورت علاقته مع صديقه غابرييل غارسيا ماركيز لأسباب ظلت مجهولة إلى اليوم· بقي ئماركيز وفيا لفيدال كاسترو، وسانده كل من فوينتيس وكورتاثار، بينما أصبح يوسا يتحدث عن التجربة الكوبية بالسوء، ويصفها كإحدى الديكتاتوريات الفظيعة في أمريكا اللاتينية· وقد ساهمت فترة الحياة التي قضاها في باريس، والتي قال عنها لاحقا ''بأنها السنوات الحاسمة في حياته'' بين 1956 و1966، واكتشافه لمؤلفات غوستاف فلوبير، وبالأخص لرواية ''مدام بوفاري''، في حدوث ذلك الانتقال المفاجئ من اليمين إلى اليسار· ونعثر على موضوع ارتداد المثقف اليساري في رواية ''قصة مايتا'' (1947، وهي من أجمل روايات فارغاس يوسا على الإطلاق· وبواسطتها يعيدنا الكاتب إلى البيرو، وبالضبط إلى جبال الأنديز، حيث يتعقب الراوي أثار صديق طفولته، التروتسكي مايتا· وعبر هذه الرحلة في أدغال بيرو، نعيد اكتشاف عوالم العنف والإرهاب التي طغت على البيرو· كما أحدث يوسا تحولا في مساره الروائي لما نشر سنة 1968 رواية ''حرب نهاية العالم''، بحيث تخلى عن موطنه البيرو كفضاء روائي، وكتب عن أحداث واقعية جرت في البرازيل عند نهاية القرن التاسع عشر· وتصور الرواية قيام ثورة تبشيرية يقودها رجل دين في صحراء ''نورديستي''، تدعو لنظام عادل فيسير معه كل المنبوذين والعاهرات والفقراء والخارجون عن القانون، ويسعون رفقته لإسقاط النظام الجمهوري وإنشاء نظام عادل لا يقوم على الاقتصاد· وفي خضم تجربة سياسية فاشلة، اثر مشاركته في انتخابات الرئاسة سنة 1990 باسم تجمع ''ليبرتاد''، وهو تجمع للقوى الديمقراطية المعادية للماركسية، تحمل شعار ''التحرر الاقتصادي والسياسي''، نشر يوسا رواية ''مديح زوجة الأب'' (1977)، فصنفها النقاد في خانة الرواية الإيروسية، وهي احتفاء بالجسد، بحيث يتزوج العجوز ''دون رودريغو'' فتاة تصغره بكثير، فيغرق معها في مباهج الجنس· وأصدر يوسا تتمة لهذه الرواية بعنوان ''دفاتر دون ريغوبرتو''، وركز على تيمة الحبّ المحرم لشاب يدعى فوفونا، يريد الزواج من دونا لوكريثيا· وفي عام 2000 عاد إلى موضوعه المفضل وهو تجربة الديكتاتور، فنشر رواية ''حفلة التيس''، وهي رواية عن جنون ديكتاتور جمهورية الدومينيكان، تروخيو الذي حكم مدة تفوق الثلاثين عاما، من 1930 إلى غاية .1971 قضى يوسا سنوات طويلة في جمهورية الدومينيكان قبل الشروع في كتابة هذه الرواية ذات الشعرية المتأنقة، والتي جاءت مليئة بالصور الفظيعة عن جمهورية يتحكم فيها طاغية مجنون يملك كل شيء حتى حق فض بكرة الفتيات· وأوجد تروخيو نظاما اجتماعيا يقوم على قيم مزيفة يستشفها القارئ من خلال ما جاء على لسانه ''في السلم الاجتماعي، وحسب ترتيب الجدارة، يحتل العسكريون المقام الأول، فهم يؤدون الواجب، وقلما يتآمرون، ولا يضيعون الوقت· وبعدهم يأتي الفلاحون، في منشآت تكرير السكر وفي أكواخ القرى، ففي مصانع السكر تجد ناس هذه البلاد الأصحاء، الشغيلين، والشرفاء· وبعد ذلك الموظفون، فالمقاولون، فالتجار· أما المتأدبون والمثقفون فهم الأخيرون، بل إنهم وراء رجال الدين''· وقد تشعبت هذه الرواية عبر عدة مسارات بدءا من مسار أورانيا وهي تحكي مأساة اغتصابها المريع من قبل الديكتاتور تروخيو، ثم مسار الديكتاتور تروخيو وكيفية صعوده إلى سدة الحكم بمعية الأمريكان، وصولا إلى اغتياله من قبل جماعة من العسكر والمثقفين ورجال القصر الجمهوري الذين أمطروه بوابل من الرصاص، ثم وقوع هؤلاء تحت سطوة رجال الاستخبارات وابن تروخيو، لتبقى السلطة في دائرة مغلقة متوحشة· بعد ''حفلة التيس''، كتب يوسا رواية تسبح في الجمال والرقة، وهي '' الفردوس على الناصية الأخرى''، وهي رواية عن اليوتوبيا والجنس والفن، حيث يتناوب بين فصولها حياة كل من الرسام الشهير بول غوغان الذي غادر باريس إلى تاهيتي سنة 1890 بحث عن سعادة الحياة البدائية وإيقاعها الحسي، ليدرك في النهاية أنه أضاع عمره بحثا عن الفردوس · ثم يلي الفصل التالي ومعه قصة جدته فلورا تريستان المناضلة العمالية التي كانت ترافع من أجل الدفاع عن المرأة في مجتمع رأسمالي برجوازي خلال القرن التاسع عشر· طرح يوسا في هذه الرواية مشكلة الخيال باعتباره ضرورة حيوية للروائي ليس فقط من أجل جماليات الرواية، وإنما لكونه يفسح المجال لنسج حيوات خيالية تعلن رفضها للحياة الواقعية وانتقادها لها، أي رفض الكاتب لظروف الواقع، ورغبته في استبدالها عن طريق المخيلة التي تتيح له تشكيل الحياة وفق طموحاته، فيبدو التخيل تعويضاً عن بؤس الواقع، الذي بدأ الكاتب يعيشه بطريقة غير مباشرة أقرب إلى الذاتية، أي إلى حياة الأحلام والتخيلات· هذه الفكرة نجدها حاضرة بقوة في رواية لاحقة بعنوان ''شيطانات الطفلة الخبيثة''، حيث نقف أمام قراءة متخيلة لمسار التاريخ من زاوية الحب وعلاقة الرجل بالمرأة· وتبدأ الرواية سنة 1950 وتنتهي أواخر ثمانينات القرن العشرين، بطلها شاب يدعى ريكاردو سوموكوثيو، يرفض واقعه ويقاوم الاستسلام لفكرة العيش في مسقط رأسه البيرو، لينتقل مثل بول غوغان عبر عواصم العالم بحثا عن الحب والسعادة، وسط تحولات العالم الأكثر عنفا وراديكالية·