يا لها من مصادفة···! في الوقت الذي كنت أناقش فيه مع المترجم لوضع اللمسات الأخيرة لترجمة كتاب حول المناضل والفيلسوف فرانسيس جنسون الذي ألفته الباحثة الفرنسية الشابة ماري - بيار أولا تحت عنوان ''فرانسيس جنسون من المثقف المنشق إلى المناصر لثورة الجزائر'' والذي قام بترجمته الصديق مسعود حاج مسعود· رنّ هاتفي النقال وأبلغني المتكلم: ''ألو··· السيد ماضي نبلغكم أن السيد فرانسيس جنسون يعيش لحظاته الأخيرة وأننا كلفنا بالاتصال بكم لتبلغوا بدوركم صديقه الأستاذ علي هارون وإن كان في إمكانكم أيضا الاتصال برفيقه السيد عمر بوداود··· وشكرا''· فور انتهاء المكالمة، كلمت الأستاذ علي هارون الذي لم يتردد وسافر على الفور باتجاه فرنسا، غير أنني لم أتمكن من الاتصال بسي عمار بوداود· بعد صدور الكتاب المذكور باللغة الفرنسية، اتصلت بداية هذا العام بالسيد فرانسيس بخصوص الترجمة راجيا منه وضع تقديم للقارئ الجزائري المعرّب· اعتذر في بداية الأمر لأنه كان يصارع الموت ولا يستطيع الكتابة دون متطوع يكتب له· وبعد أسبوع التجأ إلى صديق جاء لزيارته وراح يملي عليه تقديما في عشرة سطور لينشر مع الطبعة العربية (بمساهمة مركز البحوث التاريخية حول الحركة الوطنية وثورة 54)· كانت أمنية فرانسيس جنسون أن يرى كتاب الباحثة ماري-بيار أولا الذي كتبته حول سيرته وأعماله، ينشر في الجزائر باللغتين· تحققت الأمنية في نصفها الأول حيث داعب جونسون صفحات الكتاب باللغة الفرنسية خلال شهر مارس الماضي عندما زرته فرنسا خلال معرض الكتاب وأبلغناه أننا بصدد إنجاز الترجمة العربية المبرمجة خلال معرض الجزائر الدولي (نوفمبر 2009)· وتشاء الصدف أن أبلغ هاتفيا لحظة الانتهاء من الترجمة بأن فرانسيس مشرف على الموت وهو يعيش اللحظات الأخيرة··· الأعمار بيد الله··· هذا ما فكرت فيه يوم قررت نقل الكتاب المذكور إلى العربية كتكريم وعرفان بالجميل لهذا الرجل الذي قدّم الكثير للجزائر، وأقل ما يمكن عمله قبل رحيله هو نشر الكتاب باللغتين··· ولكن الأعمار بيد الله··· شاء القدر أن يرحل الفيلسوف، المناضل قبل نشر الطبعة العربية·· جيل بكامله من الأجانب الأحرار المساندين للثورة الجزائرية بدأ في الرحيل، بل في الانقراض· رحل ميشال رابتيس المدعو بابلو منذ حوالي أربع سنوات وهو الذي قدم الدعم المالي والمساندة التقنية للراحل عبد الحفيظ بوصوف لإقامة مصانع السلاح بالأراضي المغربية لجيش التحرير الوطني (في جنازة هذا المناضل لم يحضر سوى محمد حربي·· الحضور كان باسم الصداقة والنضال المشترك) ورحل المناضل هنري كوريال المناصر والمساند للثورتين الجزائرية وبعدها الفلسطينية، بل والذي تبرع بفيلته الفخمة الكائنة بحي الزمالك في القاهرة للدولة الجزائرية فور الاستقلال (··· نعم هذا ما فعله كوريال) الذي اغتالته الموصاد مثلما اغتالت محمد بوديا لنفس الأسباب· قلت في نفسي ماذا يمكن عمله عرفانا لفرنسيس جنسون واعترافا له بالجميل لما قدمه لنا نحن الجزائريين بفضل شبكته، شبكة حملة الحقائب· أحسن ما نقدمه في هذه اللحظات، ونحن انتهينا من ترجمة الكتاب، نقدم بعض المقتطفات للقارئ الجزائري: ''(···) إن نشاط حَمَلَة الحقائب يبقى غامضا وغير معروف· والدليل على هذا أن صوتهم مُغيَّبٌ في النقاش الذي ما فتئ يهز الرأي العام، منذ صيف 2000، والذي ما فتئت تغذيه الأنتلجانسيا وشتى الدوائر السياسية والإعلامية الفرنسية· إن أسباب هذا الإقصاء للمعنيين بالأمر إنما هو لغزٌ يجب البحث عن حله؛ وإنه لأمرٌ مُفارق أن يكون هؤلاء الرجال والنساء من أوائل الذين رفضوا كلا من الحرب الاستعمارية والتعذيب في آن واحد· هذا الرفض، بالتحديد، هو الذي أطلق عنان المناضلين المناهضين للاستعمار لكي يندفعوا لمؤازرة الجزائريين· إن مشاعر النقمة جراء كشف الستار عن حقيقة التعذيب وإدانة الجلادين الذين مارسوه في الجزائر بدون عقاب، بل باسم فرنسا، هو الذي حرَّض عددا من المناضلين على الالتجاء إلى العمل السري ودفعهم لأن يصيروا حَمَلةَ حقائب، وهذا باسم فرنسا أيضا، فما السر إذن وراء هذا التعتيم الإعلامي بعد أربعين سنة من نهاية الحرب؟ الواقع أن لا أحد من الفاعلين في الحرب قد نسي حملة الحقائب؛ عِلمًا بأنهم احتلوا واجهة الساحة الوطنية في خريف .''1960 تُرى لماذا يتم تغييب فرنسيس جنسون عن شاشات التلفزيون واستوديوهات الإذاعة؟ لماذا تحجم كبريات الصحف الوطنية عن محاورته بمناسبة انبعاث النقاش حول التعذيب وحول الحرب الاستعمارية· سبق لجريدة ''لوموند'' وأن أجرت مقابلة مع جنسون في نوفمبر 2000، عقب صدور تصريحات الجنرال أوساريس، ولكنها لم تنشر نص المقابلة إلا في شهر ماي 2001؛ إنه الخوف الرسمي وربما حتى اليساري، أم لأن جنسون يمثل فئة معينة من المثقفين الذين اتهموا الحكومة الفرنسية بالتواطؤ في جريمة حرب ضد الإنسانية في الجزائر؟ أم لأنه صوت رافض لأي توبة جماعية أو تكفير عن الذنب قد يصدر عن فرنسا الرسمية إزاء حرب الجزائر؛ الأكيد أن فرانسيس جنسون كما كتبت عنه ماري-بيار أولا: ''صوت لا يطالب بإدانة التعذيب، فحسب، وإنما يطالب قبل كل شيء بإدانة حرب الجزائر وجميع الحروب الاستعمارية التي شُنَّت باسم فرنسا؟ أم لأنه كان صوتا منعزلا، خلال حرب الجزائر، وما انفك منذئذ يبلور شعور اليسار بتأنيب الضمير التاريخي؟ (···) وهكذا فإن جنسون، حامل الحقائب، يبرز أيضا كحامل للذاكرة؛ بل هو رهان الذاكرة، غير أن فرنسيس جنسون شاهد مربك ومصدر إزعاج لهذا اليسار بسبب موقفه إزاء حرب الجزائر· إن جنسون مثقف مزعج، بصفة أخص، للحزب الشيوعي الذي يبدو اليوم وكأنه يريد شراء عذريته؛ وخصوصا لأنه صار، منذ خريف 2000، رأس حربة النضال في سبيل إدانة التعذيب بل يذهب إلى حد المطالبة بإنشاء لجنة تحقيق برلمانية ''واتخاذ إجراءات تعويضية''؛ أو كما يقول بنيامين سطورة عن هذا اليسار: ''يسعى ليخلق لنفسه ماضيا يُظهره كرافض لحرب الجزائر''· من هو فرانسيس جنسون؟ هو رمزٌ للتاريخ؛ ومن وراء هذه الرمزية القوية التي يمثلها اسمه ومن وراء هذين اللقبين المشحونين بذكريات مرحلة أليمة كانت فرنسا أثناءها تتخاصم· في تلك الأثناء ظهر هذا الرجل (من مواليد 1922). وانطلق في مساره الفكري والسياسي قبل اندلاع حرب الجزائر ثم واصله بعدها· هرب سنة 1943 من فرنسا ليدخل في كنف العمل السري، لأول مرة، واعتُقل وهو في ربيع شبابه، حيث أرسل إلى معتقل (ميراندا دي إبرو) أشهر معتقلات إسبانيا الفرانكاوية· وعندما أطلق سراحه انخرط في صفوف المقاومة السرية الفرنسية بشمال إفريقيا وأصبح من الأنصار المتحمسين للديغولية· وفي 1952؛ تزعّم جنسون طليعة الجدل الإيديولوجي الذي آل إلى قطيعة تامة بين إثنين من أبرز مفكري مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وهما: جون بول سارتر و(ألبير كامي)· وبعد سنة 1955 ضحى جنسون بكل ما يضمن له السلامة والأمان ليكرس نفسه كليا لمساندة الكفاح الجزائري ويلقي بنفسه، مرة أخرى، في أتون العمل السري· لم تكن مواقف فرنسيس جنسون، المتعاقبة، نتيجة حتمية أو قدرية لأن موقفه الملتزم إزاء القضية الجزائرية لم ينشأ من العدم: فانتقاله من الديغولية المناوئة للنازية ولنظام حكم (فيشي) ثم تحوُّله، بعد ذلك، إلى مناهض لموقف الديغولية من حرب الجزائر؛ وكذلك مسارُه من سجون إسبانيا إلى القطيعة مع سارتر وكامو؛ ومن العمل السري، أثناء حرب الجزائر، إلى المساهمة في تأسيس دور الثقافة التي أنشأها (أندري مالرو)··· كل ذلك ينم عن مواقف ملتزمة وإن تعددت وجوهها· تحت عنوان ''أعراس الجزائر''، كتبت ماري-بيار أولا:'' ليست هذه المرة الأولى التي يعلن فيها فرنسيس جنسون عصيانه المدني؛ بل سبق له أن فعل ذلك منذ عشر سنوات خلت، أي في سنة 1943، حين لبى نداء الجنرال ديغول فاختار حياة المنفى بدل الخضوع لحكومة (فيشي) وللاحتلال الألماني· وإثر إطلاق سراحه من السجون الإسبانية، في ديسمبر ,1943 اكتشف الجزائر وأقام فيها عاما كاملا إلى غاية التحاقه بجبهة الحرب في مقاطعة (ألزاس) في ديسمبر .''1944 لم يغب عن ذهن جنسون أن أوروبيي الجزائر كانوا، في أغلبيتهم، مناصرين لحكومة (فيشي) وكان معظمهم ''من أنصار سياسة التعاون مع العدو (ألمانيا) حتى بعد مرور ما يربو عن سنة على نزول القوات الأمريكية في شمال إفريقيا، ذلك أن الرأي العام الفرنسي، في الجزائر، لم يكن يساند تمرد الجنرال ديغول· إن الجزائر التي تعرَّف عليها جنسون، في سنة ,1943 هي ''جزائر ذلك الظرف المتميز'' · جاء جنسون إلى الجزائر للإقامة فيها، من سبتمبر 1948 إلى ماي ,1949 إثر زواجه ب كوليت جنسون، في جوان ,1948 وكان سارتر شاهدا في عقد قرانهما· كان الزوجان يزمعان الإقامة في بيروت حيث سيتولى فرنسيس جنسون منصب الأستاذية؛ غير أن أسبابا عائلية محضة جعلتهما يفضِّلان الإقامة قريبا من فرنسا لقضاء شهر عسل أطول من المألوف· تميزت حياتهما الزوجية، في الجزائر، بِرقَّة الحال وكان عليهما أن يتحايلا لتدبير قوتهما اليومي· كان فرنسيس يحاضر عن الفلسفة السارترية ويعطي دروسا خاصة· كانت له صلات وثيقة مع السكان المحليين وشرع الشاب في التعرُّف على حقيقة أوضاع الجزائريين وعلى آمالهم المستقبلية، كما أتاحت له مناقشاته ولقاءاته المتكررة مع الوطنيين المعتدلين· استُقبل سنة 1949 بكثير من الأبهة وعومل كشخصية رسمية بالرغم من أنه كان في ذلك الوقت شابا نكرة· وبعد احتكاكه، عن كثب، ببؤس المعيشة اليومية لدى الجزائريين وجد نفسه، مرغما، على أن يعيش حياة البذخ من خلال الاستقبالات الفاخرة التي خصصها له المستوطنون· لم يندهش جنسون من موقف كبار المستوطنين، فحسب، بل بدا له تصرُّف الإدارة الفرنسية، نفسها، تصرفا شائنا ومخزيا· كتب يقول بخصوص صدمته عن سلوك المستوطنين: ''لقد استُقبلت في سكنات فاخرة وسمعت منهم كلاما في غاية الفظاظة يحمل إيحاءات مبطَّنة أحيانا، وصريحة أحيانا أخرى، [...] لقد بلغوا منتهى التعفن والغطرسة واستحكمت العنصرية في قلوبهم إلى درجة أنهم كانوا يتعجبون ممن يشمئز من موقفهم ذاك· وإذا سألتهم عن حظ الجزائريين في كل هذا؟ يردون عليك بقولهم آه·· نلتقي بهم على قارعة الطريق دائما إنهم قومٌ طيبون· أما إن سألتهم عن وجود شعب جزائري فتلك، في نظرهم، مزاعم باطلة· كم كانت صدمتي كبيرة حين تعرَّفتُ على هذه الأوساط المترفة جدا والتي تبدر عنها كل هذه المشاعر اللاإنسانية في وقت قصير· ثم ذهبتُ إلى سطيف حيث تكفَّل رئيس الدائرة باستقبالي واصطحبني في نزهة عبر مدينته· ولما وقفنا أمام كومة من الجير، كانت تتوسط إحدى الساحات العمومية، قال لي وهو يمسك بذراعي: ''ها انظر: هذا هو المكان'' : كان يتحدث عن أعمال الشغب التي وقعت في ذلك المكان يوم 8 ماي .1945 ثم أكمل حديثه بلهجة كبرياء: ''هل تتذكرون؟ لقد أراد العرب التمكُّن منا! ولكننا نحن الذين تمكَّنا منهم في النهاية: ألف قتيل منهم مقابل قتيل واحد منا، أجل يا سيدي، ألف بواحد''· إن تلك الكومة من الجير هي ركام الجثث التي أُحرقت هنا وتفحمت· [...] أصبح الأمر، بالنسبة لي، مسألة محسومة: ربما كان هذا الرجل يعتبرني متواطئا معه· ولقد كان، في كل كلمة تفوَّه بها، يتحدث باسم فرنسا ولم يدُر في خلَده، قط، أن تصريحاته يمكن أن تصدمني· في ذلك اليوم، بالذات، تحولت مشاعرُ الاشمئزاز في أعماقي إلى قناعة تامة بضرورة التمرُّد''· نعم ضرورة التمرد والانتفاضة··· وهذا ما حدث بالفعل· وما كان على جونسون وزوجته كوليت سوى الاتصال ببعض قادة الجنة الثورية للوحدة والعمل عبر اندري مندوز وبيار شولي للتعرف عن الواقع المعيش وإرهاصات الثورة· عن هذا تقول كوليت زوجة ورفيفة جنسون: ''حللتُ بمدينة الجزائر في شهر فيفري .1955 قابلتُ، في بداية الأمر، صديقين لي من المناضلين في صفوف الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري وهما: علي بومنجل والدكتور فرنسيس· وكان موقفُهما ينم عن كثير من الاحتراس إزاء اندلاع الانتفاضة المسلحة· ثم التقيتُ ببعض مناضلي حركة انتصار الحريات الديمقراطية فاستفسروا مني، بلهجة فيها الكثير من الصرامة، عن غرضي من وراء مقابلة أعضاء اللجنة الثورية للوحدة والعمل الذين كانوا، حسب تقديرهم، مُقدِمين على عمل انتحاري· وفي الأخير قررت الاتصال هاتفيا بالأستاذ (مندوز) فأرسل لي طبيبا شابا، هو (بيار شولي)، ليكون دليلي إلى أحد الأحياء القصديرية بضواحي مدينة الجزائر· وهناك اكتشفتُ مناضلين حقيقيين وأدركت للتو أن اللجنة الثورية للوحدة والعمل تتمتع بسمعة (شعبية) حقيقية· وفي آخر المطاف، أي عشية مغادرتي الجزائر، قابلت صالح لوانشي الذي كان مطلوبا من طرف مصالح الأمن منذ الإعلان عن حظر حركة انتصار الحريات الديمقراطية· كان مختبئا عند القس (سكوتو) أحد أصدقاء مندوز· وبالرغم من اعتدال مواقف لوانشي إلا أنه كان يبدو أقل تحفظا من بقية رفاقه المركزيين إزاء اللجنة الثورية للوحدة والعمل· قال لي: ''قد تكون هذه الانتفاضة عملية انتحارية ولكن من يدري فربما تكون، أيضا، بداية مسار (تحرري)''· قفلت راجعة إلى باريس وهناك عرضتُ على فرنسيس ما استقر عندي من قناعات فقلت له: إن ما حدث في ليلة عيد القديسين ليس مجرد حادث عارض''· وفي فرنسا أصبح جنسون وزوجته، منذ سنة 1955، يلتقيان مرارا بالجزائريين الأعضاء في جبهة التحرير الوطني الذين جاءوا إلى باريس لأداء مهام إعلامية· وكانت تلك اللقاءات مناسبة لإثراء فكرهما ثم قرَّرا، انطلاقا من الشهادات التي جمعتها (كوليت)، الكتابة عن الجزائر ''على الساخن'' وبدون انتظار فصدر كتابهما الذي أحدث ضجة كبيرة بسبب عنوانه المثير: ''الجزائر الخارجة عن القانون''· وكتابا ثانيا سنة 1960 كان عنوانه مثيرا للغاية ''حربنا''··· اعتقل في نفس السنة وتزامنت محاكمته بتوقيع العريضة الشهيرة··· عريضة ال 211 الموقعة من قبل أحرار فرنسا المناصرين للثورة الجزائرية· اتصل جنسون بقيادة فدرالية جبهة التحرير الوطني التي كان يرأسها صالح لوانشي ثم عمر بوداود وعلي هارون ويؤسس شبكة الدعم والمساندة: شبكة حملة الحقائب التي كانت تضمن التنقل والإيواء وتهريب الأموال والمناضلين وتزوير جوازات السفر وبطاقات الهوية للمناضلين الجزائريين··· الخ· وأحسن ما نختم به هذه الكلمات هو ما جاء في خلاصة الكتاب المذكور: ''إن مقاضاة التاريخ والذاكرة قد أسفرت عن إدانة مسؤولية الجمهورية الفرنسية في حرب تحرير الجزائر: تلك المسؤولية التي بادر جنسون إلى إدانتها منذ الساعات الأولى من اندلاع الحرب التحريرية· ومن غريب الصدف أن مقاضاة التاريخ والذاكرة هي التي أدخلت هذا الفيلسوف إلى ذاكرة التاريخ، من الباب الواسع، بفضل محاكمة الشبكة التي تحمل اسمه· غير أن قضية الذاكرة قد تم إثبات شرعيتها ببراعة كبيرة من طرف جنسون، نفسه، باعتبار أن شبكته شرعت، منذ اندلاع حرب التحرير الجزائرية، في العمل وفق منظور استمرارية العلاقات الجزائرية الفرنسية بعد الحرب وبهذا يندرج نضاله تماما ضمن منهج بناء الذاكرة المستقبلية· عندما أبدى جنسون ذلك الحرص الشديد على صون العلاقات الفرنسية الجزائرية فإنه يكون قد قام بعملية إسقاط الماضي والحاضر على المستقبل حتى لا تنسى الأجيال الجزائريةالشابة وكذا الأجيال التي عاشت الحرب، ولو بعد مرور عشرة أو عشرين أو أربعين سنة على نهاية الحرب، بأن ثمة فرنسا أخرى كانت موجودة: فرنسا صديقة ومسانِدة للجزائريين ورافضة لأنصاف الحلول ولأي شكل من التواطؤ مع فرنسا التي باشرت أعمال القمع الأعمى والتعذيب؛ فرنسا التي أسفرت عن وجهها البشع في صورة جنرالات معركة الجزائر· هؤلاء الذين أصبحوا، بعد مرور أربعين سنة، يعترفون بممارسة التعذيب المؤسساتي؛ فمنهم من اعترف من أجل الإعلان عن ندامته، من أمثال (ماسو)، ومنهم من اعترف من قبيل الفخر والاعتزاز بما اقترف أمثال (أوساريس)· أما جنسون فلقد جسَّد وجها آخر لفرنسا من أجل الجزائر ومن أجل فرنسا معا· ذلك أنه حين آثر، منذ بداية النزاع، أن يتصور العلاقات الجزائرية الفرنسية وفق منظور طويل المدى فإنه انتهج سياسة قائمة على ترسيخ الذاكرة عن قصد· ولئن تصرَّف عبر نضاله باسم الذاكرة الجزائرية فذلك من أجل صون شرف فرنسا بالرغم من أن البعض كانوا يعتبرون أنه لوَّث شرف فرنسا بسبب مساندته لجبهة التحرير الوطني؛ في حين أن أعضاء شبكة جنسون، ومعهم اليسار الفرنسي برمته، كانوا يعتبرون أن الذين لطخوا شرف فرنسا هم الطبقة الحاكمة التي كانت ممسكة بمقاليد السلطة آنئذ· إن حلقة جنسون في حرب التحرير الجزائرية رمزٌ لعدم خمود الذاكرة الجماعية (···) ولقد ذهب جنسون إلى أبعد من مجرد إدانة التعذيب لأن أمنيته هي أن تعترف الجمهورية الفرنسية بأن الحرب التي خاضتها في الجزائر لم تكن حربا عادلة· هذا ما قالته ماري- بيار أولا، الباحثة الشابة التي لم تعش حرب الجزائر، بل عاشتها بفضل أفكار فرانسيس جنسون الذي كان يؤمن بالذاكرة الجماعية المستقبلية· وسوف يسجل التاريخ دوره البارز في زعزعة يقين الفكر اليساري خلال حرب التحرير الجزائرية· ولئن تصرَّف عبر نضاله باسم الذاكرة الجزائرية فذلك من أجل صون شرف فرنسا بالرغم من أن البعض كانوا يعتبرون أنه لوَّث شرف فرنسا بسبب مساندته لجبهة التحرير الوطني؛ في حين أن أعضاء شبكة جنسون، ومعهم اليسار الفرنسي برمته، كانوا يعتبرون أن الذين لطخوا شرف فرنسا هم الطبقة الحاكمة التي كانت ممسكة بمقاليد السلطة آنئذ· إن حلقة جنسون في حرب التحرير الجزائرية رمزٌ لعدم خمود الذاكرة الجماعية· من مناقب هذا الفيلسوف أنه يتفانى، قولا وعملا، في سبيل القضايا التي يساندها ويضع قلمه في خدمة المثل الأعلى· ولئن كان سارتر هو صانع أسطورة المثقف الملتزم، بدون منازع، فإن جنسون هو الذي يُجسِّد تلك الأسطورة في ميدان التطبيق العملي· لقد جسَّد جنسون، ببراعة فائقة، شخصية المثقف المنشق والثائر دوما ضد النظام القائمولقد ذهب الى ابعد من ذلك حين عارض مُعسكره السياسي ذاته، أي اليسار الفرنسي، بل انشق حتى عن شبكته حين رفض الاغتراب إلى الجزائر بعد انتهاء الحرب· فليجد جنسون في هذه الكلمات المتواضعة عرفانا وعرفان جزائريين من مثقفين ومجاهدين، يحملونه في قلوبهم وكل ما نرجوه ونتمناه هو أن تنتبه بلادنا وتستيقظ للاعتراف بجميل جونسون وكل الذين ساندونا لنعرف بأسمائهم وأعمالهم وأسس فلسفتهم عن طريق التدريس الثانوي والجامعي··· فهل يعقل أن يبقى أولادنا في الجامعة يجهلون عمل وفكر أمثال فرانز فانون وفرانسيس جونسون وفرانسوا ماسبيرو···و···و·· مصطفى ماضي -مختص في علم الإجتماع