انتهت التكهنات واستبعدت آسيا جبار وغيرها من قائمة المرشحين بنوبل الأدب لصالح ماريو فارغاس لوسا، الإسباني البيروفي، الذي شغل الساحة الأدبية العالمية بمواقفه المثيرة للجدل في كتاباته الأدبية، مقالاته الصحفية واختياراته السياسية· فالكاتب بات يشكل عن حق ما أصبح يعرف بالمواطن الكوني الذي يشارك في كل النقاشات المثارة عبر العالم، هو الذي يستمر في الاعتقاد أن الحرية والمواطنة حقوق مكتسبة للفرد لا بد من الدفاع عنها، بقدر ما أثارت مواقفه المنتفضة على اليسار الذي اعتقد به في مرحلة ما من مساره، جاءت مواقفه المعتقدة بالليبرالية مثيرة للجدل· من خلال مقالات وآخر حوار له نقدم لمحة عن الفائز بنوبل الأدب لاعتقادنا أن الحدث مهم ولا بد من وقفة مع أهم شخصية أدبية للسنة المنتهية، شخصية حجزت لنفسها مقعدا في عالم الخالدين· ------------------------------------------------------------------------ عاشق الحياة والحرية بكثير من التواضع أكد أن فوزه بجائزة نوبل إنما هو في الواقع تكريم لأدب أمريكا اللاتينية· والحق أن اسم ماريو فارغاس لوسا لا يختلف كثيرا عن بقية أسماء عمالقة أدب أمريكا اللاتينية من أمثال بابلو نيرودا، غابريال ماركيز، أوكتافيو باز أو غيرهم ممن خلقوا عوالم أدبية وجدت متسعا لها في الأدب العالمي، تماما كما لم يختلف عالم لوسا عن زملائه الروائيين اللاتينيين الذين لم يجدوا غير الأدب للتعبير عن ذواتهم والأهم التعبير عن الأوضاع السياسية التي رهنت مصير قارة كاملة في حكم الديكتاتوريات، فما أن تتخلص من واحدة إلا وينقلب عليها من حررها على عرض الحكم المستبد· والحال أن البيرو لم يكن مصيره أفضل حالا، فبين الحلم بغد أفضل وانكسار الوعود كان ماريو فارغاس شاهدا على احتضار آمال مواطنيه من الأنظمة الاشتراكية التي تحولت إلى ديكتاتوريات مقنعة· هكذا وجد ماريو فارغاس لوسا نفسه يطلق اليسار الذي اعتقد به لفترة، بعدما وجد النظام في كوبا يجسد كل مخاوفه ويتنكر لكل ما دافع عنه· الثورة الكوبية التي كانت الحد الفاصل ونقطة اللارجوع في معتقدات بات يكفر بها ويجهر بكفره على الملأ، فبعد أن كان مناصرا ومدافعا عن مبادئ الاشتراكية انتقل إلى النقيض، حيث بات من رواد الليبرالية، ولا عجب أن يرى النقاد أن هذه المرحلة شكلت الهوة بينه وبين غابريال غارسيا ماركيز، الذي لم يتخل عن اعتقاده بالاشتراكية ولا بالثورة الكوبية، بالرغم من تعاقب السنوات والعقود· من جهته، كان التغير في حياة ومعتقدات ماريو فارغاس لوسا على قدر خيبة أمله، التي ظل يقول بشأنها أنه سئم من رؤية أمريكا اللاتينية غارقة في التخلف بسبب ثلة من المغامرين والمستهترين· العارفون للرجل أكدوا أن مواقفه وليدة سلسلة من الخيبات المتكررة على مدار السنوات، تعود لنشأته نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، حيث تعاقبت الثورات وتعاقب الدكتاتوريون دون أن تتمكن الشعوب من تحقيق التنمية· وما زاد من خيبة الروائي اعتقاده أن القارة تملك من الثروات والإمكانيات ما يسمح لها بأن تتبوأ المكانة المتقدمة· هذه الأوضاع جعلت من لوسا من أكثر الروائيين المهتمين بالشأن السياسي ليس من باب التنظير وطرح الأفكار فحسب، إنما من خلال المشاركة الفعلية في الحياة السياسية· فقد سبق له أن شارك في الانتخابات الرئاسية بالبيرو، بالرغم من الاخفاق إلا أنه لم يتوقف عن الاهتمام بما يدور من حوله عبر العالم· فقد اتخذ من جريدة ''الباييس'' الإسبانية منبرا له يعبر فيه عن مواقفه، تلك المواقف التي اعتبرها الكثيرون، سيما من رفاقه القدامى أنها ليبرالية متطرفة· من تلك المواقف رفضه للإسلام السياسي واستهجانه لحركة المناهضين للعولمة· فالجدير بالذكر أن لوسا يعتقد أن الليبرالية وحدها قادرة على احترام الفرد وعدم دجه ضمن الحشود والجماعة، التي يرى أنها تتعارض وازدهار الفرد· من هذا المنطلق يستمر لوسا في اعتبار أن حكام أمريكا اللاتينية، بمن فيهم من يدعون للوقوف في وجه العولمة، إنما هم مجموعة من ''الأشخاص عديمي الكفاءة''، وهي العبارة التي نعت بها الرئيس الفنزويلي، هوغو شافيز، الذي يرى أنه يهدر طاقات أغنى دول أمريكا اللاتينية· هذه المواقف التي كشفت عن سخط لوسا على واقع أمريكا اللاتينية السياسي، جعلته يهتم بالقضايا العالمية، فقد أصبح مواطنا كونيا، هو الذي تحصل على الجنسية الإسبانية وتحصل على أكثر من أربعين شهادة دكتوراه شرفية من كل بقاع العالم عرفانا لمساهمته في النقاشات الفكرية وإسهاماته الأدبية· فعالم فارغاس لوسا لم يقتصر على جدالاته السياسية ومواقفه المثيرة، تماما مثلما لم يقتصر على أدبه الذي سار في خط الأدب اللاتيني الذي حظي بقسط وافر من الاهتمام بفعل خيالاته وإبداعه التصويري المتطرق لوضع قارة وجدت نفسها رهينة السياسة، بعيدا عن كل ذلك باتت مواقف أشهر روائيي البيرو تمتد إلى انتقاده للثقافة المروجة عبر وسائل الاعلام والتي تتعامل مع الحشود، هذه الثقافة الجديدة التي يعتبرها فارغاس أكبر خطر يهدد الشعوب، على اعتبار أنها تستخف به وتجعل منه تابعا غير قادر على التفكير المستقل· هذه الخلفية جعلت ماريو فارغاس لوسا من مثقفي العصر العابرين للحدود، على اعتبار أنهم باتوا يشكلون مرجعيات فكرية يستشهد بها· ومع حصوله على نوبل للأدب، الجائزة التي سبق له أن انتقدها على أساس أنها تخضع لمعايير أخرى غير القيمة في حد ذاتها، كرس ماريو فارغاس لوسا مكانته في عالم المثقفين المدافعين عن حق المواطنة وحرية الفرد· جاءت الجائزة لتؤكد تصريحات لوسا على أنه روائي ومبدع قبل أن يكون مهتما بالشأن السياسي ومواطن كوني·