بكثير من التشاؤم والحسرة، تحدث الفنان الشعبي صاحب رائعة ''يا دزاير يا العاصمة'' عن الوضع المشحون الذي آلت إليه الأغنية الجزائرية، مبرزا المكانة غير اللائقة التي وصل إليها الفنان، مناشدا بذلك الفنانين أنه آن الأوان للنهوض وتغيير الأوضاع· حققت نجاحا كبيرا على صعيد الأغنية الشعبية وفرضت حضورك بشكل ملفت، ودليل ذلك ارتباط اسمك بأغنية ''يا دزاير يا العاصمة''، أين مسكود من هذا الغياب؟ أعيش حالة انتظار كغيري من الفنانين الجزائريين، لعل وعسى الوضع الفني بالبلاد يشهد انتفاضة للفنانين من نوع آخر تعمل على استرجاع حقوقنا الضائعة، فالفن بالجزائر أصبح يعيش في الوقت الراهن حالة خطيرة لم يسبق لها أن حدثت من قبل عبر تاريخ الفن بالجزائر، كيف نفسر وضع فنان أفنى عمره في خدمة الفن يجد نفسه في رمشة عين يعيش في دوامة حرب نفسية سببها الإقصاء والتهميش، وكيف بربك لفنان أفنى عمره في خدمة الفن الأصيل يجد نفسه يعيش فوضى عارمة أحدثها بعض المنتجين وأشباه الفنانين، بصراحة الشيخ مسكود لا يمكنه أن يتأقلم داخل جوّ مشحون بالعبث والتردي في حق الأغنية الجزائرية، لكن بصفتي حامل لرسالة الفن السامية، فإنني مطالب بالتحلي بالصبر حتى تعود المياه إلى مجاريها، كما أنني على يقين بأن وضع الفن بالجزائر سيتغير يوما وستطلع عليه شمس الحق، وبما أن الفن الجيد يمتلك خصوصيات عن غيره، أعتقد أنه سيعود الشباب يوما للبحث عن أصالتهم وتقاليدهم بعيدا عن التعفن والرداءة، وإذا عدنا للحديث عن غيابي في الوسط الفني، فإنني أعيش بقاعة الانتظار· حسب ما صرح به بعض الفنانين فإنهم توجهوا إلى تونس للغناء في الملاهي الليلية والمطاعم بسبب الخوف من الجوع والفقر؟ أجل هذا صحيح، فالفنان بالجزائر يعيش أوضاعا مؤسفة لا تليق بمقامه ولا بمستواه الثقافي، وأعتقد أنه لابد من إعادة النظر في ذلك، أما عن هروب البعض للغناء في أماكن لا علاقة لها لا بالفن ولا بالثقافة، فذلك هروب لتحقيق ضروريات الحياة، ثم أنه من غير اللائق أن يبقى مكتوف الأيدي وينتظر صدقات الغير لإعالة العائلة. أكثر ما يحزنني هو أن الكثير من الفنانين يملكون حسا فنيا راقيا، غير أن الحاجة دفعتهم للغناء في الكباريهات، وعليه لا يمكنني إلقاء اللوم عليهم، لكن أناشدهم الاتحاد من أجل وضع حد لهذه المهزلة، وأن يعملوا على التغيير ورد الاعتبار للفنان الجزائري· عاصرت أكثر من جيل في المشهد الثقافي الجزائري، كيف تنظر لتطور المشهد الثقافي والأغنية الجزائرية؟ المشهد الثقافي بالجزائر مريض جدا ويحتاج إلى تشخيص دقيق للكشف عن الداء من طرف مختصين، وأرجع تدهور حالته إلى اهتزاز الركائز الأساسية في المشهد الثقافي على جميع الأصعدة، فإذا تكلمنا مثلا عن المسرح اليوم بالمقارنة مع الماضي، نجد ذلك الغياب في طرح القضايا المرتبطة بأوجاع المجتمع، وبالتالي أصبحت مواضيعها تطرح قضايا بعيدة كل البعد عن تقاليدنا وعاداتنا، والشيء نفسه ينطبق على عالم الموسيقى والأغنية الجزائرية التراثية التي تخللتها إيقاعات أجنبية عملت على تشويهها، وأزالت الملامح الأصلية لذلك، فمثلا الأغنية الشاوية النابعة من عمق الأوراس شوهت إيقاعاتها لمسات ''الربوتيك'' وأغنية الراي هي الأخرى شوهتها الأيادي الدخيلة للمنتجين وبعض أشباه الفنانين، اليوم الكل يفكر في الربح التجاري، كل الأنواع الموسيقية الموجودة في الجزائر أصبحت تركز على الأفراح والأعراس من أجل الربح، أما الهاجس الثقافي والفني فذلك آخر ما يفكر فيه مثل هؤلاء المغنيين· أغنية الشعبي كان لها حضور قوي عند العائلات العاصمية ''القعدات''، غير أنها اليوم أصبحت مرتبطة فقط بالأعراس، ما تفسيرك لذلك؟ بالفعل هذا صحيح، أغنية الشعبي في الماضي كانت تملك نكهة خاصة، وكثيرا ما كانت العائلة العاصمية تحيي سهراتها دون أن يكون لها ارتباط بمناسبة معينة، ولعل المتعة والحميمية التي كانت تخلقها بين الأسر الدافع إلى ذلك، أما اليوم فما يهم هو الربح المادي، للأسف هناك أنواع وطبوع في الغناء الشعبي لم يعد لها ذات الرواج لأنها ببساطة لا تؤدى في الأعراس، من منّا اليوم يقدم المديح الديني والقصائد الدينية في المواسم والأعراس، الكل يركز على الإيقاع السريع الذي يتماشى مع الأعراس ولا عجب أن يغني الكل نفس الأغاني التي تكرر لحد الملل· على عكس الطرب الأندلسي الذي لقي اهتماما عمليا من خلال تدوين القصائد والنوبات، يظل الشعبي بعيدا عن التدوين والاهتمام العلمي به؟ بما أن طابع الشعبي مشتق من المدرسة الأندلسية، فلا خلل في ذلك وما سيطبق من دراسات حديثة على الطابع الأندلسي سيطبق بالتمام على الشعبي، لكن ما أتمناه للحفاظ على تراثنا الغنائي هو أن يدعم البرنامج التربوي بالمؤسسات التربوية الجزائرية عن طريق تلقين أطفالنا الموسيقى الأندلسية، وبالتالي ندربهم نفسيا على التعامل مع الفن الراقي الجزائري بدلا من تلقينهم قواعد الموسيقى العالمية مع كل احتراماتي لها· كنت ضيف شرف بمهرجان الأغنية الأمازيغية بتمنراست، ما هو تقيمك لذلك؟ خلال تواجدي في المهرجان، شعرت أن الأغنية الأمازيغية فقدت حضورها الذي تعودنا عليه وأصبحت هي الأخرى تهتم بالإيقاع الراقص أكثر من اهتمامها بالكلمة، لكل من الأغنية القبائلية، الشاوية والميزابية إيقاعات الآلات العصرية، القيتار الكهربائي، الربوتيك وغيرها، كل هذه الرغبة في عصرنة الأغنية أفقدتها خصوصيتها وأصالتها، مع ذلك ما أعجبني في أمازيغ التوارق أنهم حافظوا على كل شيء له علاقة بالأغنية الترقية سواء في الغناء أو اللباس· يغنى الشعبي في كل من الجزائر والمغرب بطرق مختلفة وإن كانت القصائد المتداولة من نظم شيوخ من المغرب، ما الفرق بين المدرستين؟ في الواقع ليس هناك فرق كبير في تأدية الأغاني الشعبية من حيث أن القصائد متداولة بين الدولتين، بحكم التقارب ليس الجغرافي فقط وإنما في اللهجة وفي العادات والتقاليد، ومع ذلك فإن العارفين بالطابع الشعبي يدركون أن الفرق في طريقة النطق وفي وتيرة الموسيقى، حيث تتسارع وتتباطأ أحيانا، كما أن الآلات الموسيقية تختلف من منطقة لأخرى، ففي الجزائر يكون العزف إما بالبانجو أو المندولين· معظم القصائد التي يؤديها فنانو الشعبي أصلها قصائد مغربية، ما السر وراء ذلك؟ بالفعل هذا صحيح، لكن الشيء الذي يجهله الكثيرون، هو أن معظم الشعراء المغاربة المنظمين لقصائد الشعبي ينحدرون من أصول جزائرية، غير أن هجرتهم إلى المغرب الأقصى عملت على تغيير انتمائهم الأصلي، والدليل على ذلك العربي المكناسي، شاعر مغربي لكن ينحدر من عين البيضاءالجزائرية· أين الشيخ مسكود من الحفلات الرسمية، وهل ستشارك بتظاهرة تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية؟ كما سبق لي الحديث، فأنا بقاعة الانتظار أترقب خفية هدوء الفوضى العارمة التي تشهدها الساحة الفنية فيما يخص غيابي عن الحفلات الرسمية، فإن الأمر بيد المسؤولين ''إذا عرضونا نروح وإذا كان العكس فإننا قاعدين''، أما عن تظاهرة تلمسان، فأتمنى من كل أعماقي أن يعطوها حقها في تمثيل الجزائر بأحسن وجه·