عند استنطاقنا لحضارات الأمم، نجد أن الحكم الدكتاتوري غبي لا يعترف بعجزه ولا بانحرافه إلا عندما تهزه انتفاضة شعب مغلوب على أمره، والمهضومة حقوقه·· لأنها ستكون انتفاضة تأكل الأخضر واليابس، وإن عرفت متى انطلقت، فإنها لا تستطيع أن تعرف متى ستتوقف·· لأنه لم يعد لها شيئا تخسره غير حياتها وهي حياة ذهبت قيمتها بعدما ذهبت كرامتها وإنسانيتها····؟؟ الحاكم الدكتاتوري الذي ينسى سبب وجوده في الحكم، وسبب بقائه في الحكم، والذي يرجع أسباب فشله إلى تغليط حاشيته له، حاشية المنتفعين والمستشارين، بعد أن يكون قد أغمض عينه عن المصادر الأخرى المناقضة، لذلك ما أن يثور الشعب عليه حتى يبدأ بالتضحية بهؤلاء المقربين كسبا لرضا الشعب، وإيهاما له بالتجدد ولِمَ لا، ربما بالأمل في الاستمرارية والبقاء في الحكم إن استطاع لذلك سبيلا··؟ من كان يصدق ما حدث ويحدث الآن في الشارع التونسي، من كان يصدق هذه الانتفاضة العارمة التي حصدت في طريقها الأخضر واليابس، وفندت مقولة ''الشعب التونسي شعب مسالم ومستسلم''، من كان يصدق أن ما جرى، سواء كانت أحداثا مدبرة أو عشوائية، هو يقظة جديدة في الساحة العربية انطلقت من تونس·· فوضعت الشعب التونسي ضمن خارطة بقية شعوب العالم التي تثور وتطالب وتكسر وتنهب، وإلى آخره من الصفات الإنسانية والواقعية التي توصف بها كل الشعوب الناقمة المحرومة والمهانة··؟ لكنها تثبت وحتى بتمثل تجارب سابقة، بأن الديكتاتورية التي ترفض مطالب الشعوب المشروعة، ستقبلها ذات يوم وهي مجبورة··؟ إن تواتر الأحداث في تونس وسرعتها وتطور مطالبها، تجعلنا نستغرب فجائيتها وكيفية تطور مطالبها، استغرابا يجد جوابه في خطاب الرئيس بن علي الأخير، الذي كان وبكل صراحة خطابا يدعو إلى الدهشة، وكلاما يدعو إلى الاستهجان·· رئيس يحكم وحده دون معارضة أو رقابة لما يقارب ربع قرن، يقول قد غلطت من طرف الحاشية والمستشارين، ربّ عذر أقبح من ذنب··؟ فهو أغلق المنافذ أمام المعارضة، وكبل صوت الرأي الآخر·· إعلاما وشعبا·· فلا صوت يسمع إلا صوت المحيطين المطأطئين·· حقيقة أن الكرسي يعمي، وصحيح أن صحبة السوء تلعب دورها على كل المستويات·· لكن هل يجب أن يتخلى الرئيس عن شعبه في أعوص فترة من مسيرته وهو الذي كان يدعي أنه يحكم باسمه ولصالحه·· هل إن الاحتجاجات التي امتدت إلى كل محافظات الوطن وسقوط أكثر من 09 قتيلا هي التي أسقطت نظام بن علي، أم أن النظام قد سقط من ذاته لأنه كان فارغا من الداخل، فارغا من العدالة مع شعبه وفارغا من المصداقية في حكمه·· كم يلزم لأنظمة متهالكة كهذه من ضحايا وحرق وتدمير كي تنفذ الوعود··؟ وكي تضرب من حديد على الوصوليين الانتهازيين المفسدين المرتشين الذين عندما تشتد قبضة الشارع على النظام يفتقدهم الحكم وهم أول من يهرب ويختفي··؟ إن قتل الشعب من أجل البقاء على كرسي الحكم، هو غباء من الحاكم الذي لا يتعظ من دروس الآخرين·· ولا من دروس التاريخ·· لأن ارتباطه بذلك الكرسي الساحر، يجعله يعتقد بأنه الوحيد الذي يحب الوطن، أما الآخرون فخونة ومضللين·· هو الوحيد الذي يفهم في مصلحة الوطن وأما الآخرين فأغبياء، متوهما أن كل الناس أعداءه، ولذلك سيبقى في الحكم وسيستبد حتى لو تم إقصاء كل الناس·· لكن عندما يتحدى الشارع خوفه، ويثور ضده، يجد نفسه بين ليلة وضحاها حاكما بائسا وضعيفا، فيهرب في لمح البصر متخليا عن أسطورة حبه للوطن··؟؟ إن حالة الخوف التي مرّ بها ''بن علي'' الذي لم يكن يتوقع هبة الشارع التونسي، جعلته يتخذ قرارات سطحية وخاطئة أدخلت البلاد في حالة فراغ دستوري، وكأنه بذلك يريد أن ينتقم من الشعب الذي ثار عليه··؟ فهل سيتعظ الرؤساء العرب الآخرون··؟ وهل سيفهمون بأن الخلود لله وحده، وللعمل الخير المستنير·· وأن الحكم زائل مهما طال··؟ وأن أكبر العظماء وأفضلهم من زار وخفف وترك أحسن الذكريات وأرقى التصرفات·· هل سيفهمون بأن لا شيء يدوم في هذه الحياة حتى الحكم·· وهل هم مدركون·· أو أنه عليهم أن يستذكروا التاريخ·· يا حكامنا ألا تعون بأنه لو دامت لغيركم ما وصلت إليكم··؟ والله، لقد أشفقت على الرئيس بن علي، الباحث عن مستقر له في أرض الدنيا الواسعة، وهو الذي كان فاتحا تونس لكل من هبّ ودب إلا لأبناء تونس الذين قالوا له لا··؟ من كان يصدق أن يصل إلى حالة استجداء كي تقبله أرض ما··؟ وأهنئ الشعب التونسي البطل الذي صبر كثيرا واستفاق بشجاعة فجعله ينهار·· وأتمنى أن تنقشع صورة الانهيار والسطو·· صورة من المؤكد أن وراءها المنتفعون السابقون الذين يريدون إظهار النظام السابق بأنه حامي النظام والأمن في تونس·· الصورة التي تبقى مثالية الجمال والرقي والتسامح، صورة الشعب المطيع الذي يحترم القوانين ويطبقها·· تلك الصور النمطية التي خلقها بن علي، وروّج لها النظام للتستر على الممارسات التعسفية، ممارسات صفق لها الغربيون الذين نسوا مطالب حقوق الإنسان في تونس·· وهنا أتساءل كيف كانت ستكون آراء الغربيين وخاصة الفرنسيين لو وقعت أحداث مماثلة في الجزائر·· ماذا بربكم ستقول فرنسا·· هل ستسكت هكذا دون إدانة أو تحرك أو·· أو··؟ لقد حزنت كثيرا على ما يحدث في تونس، من انفلات أمني، واعتداء على ممتلكات الشعب، الأمر الذي سيسيء للمطالبين بالتغيير، وربما قد يوجه الأحداث إلى غير وجهتها المطلوبة، لكني سعدت بالانتفاضة، وسأسعد أكثر لو يتم تحقيق مطالب الشعب التونسي في الديموقراطية للشعب التي يستحقها بنضاله الفعلي والميداني، كما أتمنى أن تبقى الحركة الاحتجاجية السلمية مثالا قابلا للتطبيق في بلدان أخرى تعيش ديكتاتورية البقاء الأبدي في السلطة··