يبدو الظرف مواتيا للتساؤل بموضوعية وتأنٍّ حول دور المجتمع المدني في عملية التغيير الإجتماعي والإقتصادي التي تشهدها الجزائر منذ عقدين. من بين الاستنتاجات الآنية التي تم استخلاصها من الأحداث التي هزت البلاد، مؤخرا، في مختلف أرجائها، نذكر مسألة غياب فاعلين جماعيين قادرين على القيام بعملية التوسّط الإجتماعي التي كانت ستسمح بإعطاء الأحداث بعدا إيجابيا في اتجاه الإصلاح. اليوم، وقد هدأت مؤقتا؟ العاصفة، يبدو الظرف مواتيا للتساؤل بموضوعية وتأنٍّ حول دور المجتمع المدني في عملية التغيير الإجتماعي والإقتصادي التي تشهدها الجزائر منذ عقدين. إن تحليل أوّلي لممارسات التنمية في الجزائر يجعلنا نتأكد من أن السياسي يوظف ويستغل الرّيع النفطي. فغياب استقلالية الحقل الإقتصادي عن الحقل السياسي يمثّل خاصية أساسية في المسار التنموي للبلاد بحيث أنّه أدّى إلى خلق العقبات الموضوعية التي تحول دون نشأة وبروز ما يسمّى بالمجتمع المدني، وهو الشّرط الذي لا غنى عنه لظهور الفاعلين الجماعيين للتّغيير المؤسّسي الذي بدونهم لا يمكن أن يكون هناك تأسيس وتدوين للعلاقات الإجتماعية، خصوصا العلاقة الأجرية والمنافسة. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن مشاركة الأطراف الفاعلة في تقنين العلاقات الإجتماعية لا يعني بالضّرورة إعتماد التكوينات أو الترتيبات الأنسب أو الأكثر نجاعة. فكثير من النّظريات المؤسّساتية héories institutionnalistesُّ اليوم تأكّد على أنّه، في كثير من الأحيان، لا يتمّ توجيه التّغيير المؤسّسي وفقا لمبدأ الفعالية. ومع ذلك، يبدو أن خضوع الأطراف الفاعلة في المجتمع المدني (أرباب العمل، النقابات، الجمعيات المهنية والإجتماعية) للدولة قد عرف تطورا في صيغه العملية، إذ تم، في سياق عملية التحرير الإقتصادي النسبي، استبدال تدريجي للسيطرة البيروقراطية الإستبدادية المباشرة التي كانت سائدة في الماضي بسيطرة جديدة أهم ما يميزها أنها تضم الكثير من العناصر التابعة لآليات السوق. ويمكن الإستشهاد بأمثلة كثيرة لتوضيح هذا التطوّر، بالرغم من كون هذا الأخير ذو بعد شكلي أكثر منه فعلي. فعوض أن تسود استقلالية فعلية للأطراف المشاركة في عملية التراكم تجاه السلطة السياسية، نلاحظ انتشار غير مسبوق لرموزsigles وتسميات لفاعلين في شكل منظمات أو جمعيات تفتقد بشكل مروّع لأي مصداقية، وهو ما يطرح في الجوهر أسئلة مشروعة حول جدوى النشاط الذي تتكفّل به تلك المنظمات. لنأخذ مثال المفاوضات الاجتماعية كحالة، من جملة الحالات الكثيرة التي يمكن الإستعانة بها، تسمح بتوضيح وشرح الكيفية التي يتمّ بها بناء ''التّسوية المؤسّسيةcompromis institutionnel '' في الجزائر. فقد تقرّر، منذ عام ,1991 وضع إطار للمفاوضات الرسمية، سمي بشكل فيه الكثير من الغرور: ''الثلاثية''. هذا الإطار يضمّ النقابة الرسمية للعمال، أي الإتحاد العام للعمال الجزائريين، وممثلي قطاع الأعمال كطرف ثاني والحكومة كطرف ثالث. وكان من المفترض أن يأوي هذا الإطار النّزاع الموضوعي حول قضايا الأجور وظروف العمل، وبشكل أعمّ، النّزاع حول كيفيات التقدم في الإصلاحات المؤسسية، إلا أنه تحوّل غداة نشأته مباشرة إلى مجرد هيكل يقوم بالموافقة الشكلية على القرارات الحكومية التي تتخذ مسبقا ودون أي تفاوض. إضافة إلى ذلك، يطرح التّمثيل النقابي إشكالية حقيقية من ناحية شرعية الممثلين الإجتماعيين كجزء من ''الثلاثية''. هذه الملاحظة تنطبق بشكل خاص على الإتّحاد العام للعمال الجزائريين، النقابة الرسمية التي ما تزال تحتكر التمثيل عندما يتعلق الأمر بالتفاوض رسميا مع الحكومة، إذ بسبب النقص الفادح في شرعيّة تمثيله للطبقة الشغيلة فقد هذا التنظيم الكثير من تأثيره، وهو ما يتجلى من خلال استحواذ النقابات المستقلة على حقل النضال النقابي في سياق الإعتراف القانوني لحرية تكوين الجمعيات. رغم كل ذلك، يبدو أن الحرية النقابية ستبقى متعثّرة بسبب غياب استعداد لدى السلطة السياسية لاستيعاب التعددية النقابية كواقع يجب التعامل معه. إن لعرقلة العمل النقابي عواقب عدة أثرت بدورها سلبا على فعالية التغيير المؤسسي، إذ نلاحظ، من بين أمور كثيرة يمكن ذكرها: - حماية مفرطة للعناصر المنتمية للداخلinsiders ، أي العمال المنضوين تحت مضلة إتحاد العمال، على حساب العمال غير المنتمين إلى نقابات (عمال القطاع الخاص بالخصوص). - ظهور استراتيجيات تواطؤ بين إتحاد العمال الجزائريين والسلطات العمومية، نتج عنها ظاهريا الحفاظ على توازن قوي يحافظ على الوضع الإقتصادي السائد، خاصة في القطاع الصناعي العمومي، وذلك على حساب تنفيذ إصلاحات إقتصادية ذات تكلفة أقل. ونظرا لكون نتيجة اللعبة غير مؤكدة، يبقى الإصلاح يبحث عن وضوح في الرؤية وبعض من المصداقية؛ - إنتشار ''الإضرابات'' غير القانونية، التي تبادر بها في غالب الأحيان إتحادات نقابية ''غير معترف بها'' أو ''مستقلة''، وكذا أعمال العنف، في شكل أعمال شغب؛ إذ أصبحت هذه الأخيرة بحكم الظروف وسيلة التعبير المفضلة في المجتمع. أما فيما يخص أرباب العمل الخواص، فتمثيلهم النقابي يعاني من التشتت (فهو ممثل في أعمال الثلاثية بما لا يقل عن 04 منظمات مختلفة) وافتقار للمصداقية، مما يجعل وجوده في المفاوضات لا يعدو أن يكون عملية إعلامية أكثر منه مؤشر على قدرة حقيقية على التأثير في القرارات، قدرة هي، في الحقيقة، أقرب من العدم. فالأحداث الأخيرة التي تناولتها الصحافة الوطنية التي تتعلق بردود الفعل التي أثارتها، في الدوائر العليا للسلطة، مواقف رئيس التنظيم المعروف بمنتدى رؤساء المؤسسات هي أكبر مؤشر على ذلك. بغض النظر عن تعبيره الشكلي، يبقى مشكل التفاعل بين السياسي والإقتصادي في كونه يكرس الزبائنية clientélisme كأسلوب أساسي للعمل السياسي في المجال الإقتصادي. وعندما يحدث ذلك، يصبح العمل الإقتصادي للدولة غير ذي جدوى، خاصة فيما يتعلق بإعادة تأهيل النشاط المنتج activité productiveالذي يبقى، رغم كلّ ما يقال، الوسيلة الأفضل لضمان استمرار تحسين المستوى المعيشي لأغلبية السكان، بينما يطغى، أكثر فأكثر، المنطق الذي يستند على ''إعادة توزيع سياسي'' للريع النفطي. هنا نجد الصياغة التي سبق أن وضعها الأستاذ الهواري عدي في مؤلفه''L'impasse du populisme '' الذي صدر في نهاية الثمانينيات. عقدان من الزّمن بعد صدور الكتاب، يمكن أن نلاحظ أن صياغة المسألة لم تتغيّر كثيرا، حتى وإن كانت آليات توزيع الريع قد تغيرت بشكل ملحوظ بفعل الزمن والظروف. إن سياسة إعادة توزيع الريع، و إن تمت وهذا شيء طبيعي بشكل غير متساو، قد شملت كل الفئات الإجتماعية التي يمكن أن تشكل سندا قويا لشرعية السلطة السياسية. رغم ذلك، يمكن تحديد الفئات الأكثر استفادة من تلك السياسة في مجموعات قليلة تتألف من ما أصبح يسمى ''بالعائلة الثورية'' ، بالإضافة إلى جميع الفئات التي استولت على أطر التعبير السياسي الشكلي (الأحزاب، النقابات الرسمية، المنظمات الجماهيرية، ومختلف الجمعيات). من ناحية أخرى، يمكن أن نلاحظ أن خضوع المجتمع الإقتصادي للسلطة السياسية في الجزائر يعبر عن حقيقة أن العلاقات الاقتصادية في كثير من الأحيان تندمج في شبكات سياسية، مما يجعل فكرة المنافسة فاقدة لأي معنى. في ظل هذه الظروف، يصبح طبيعي جدا أن يكون الأداء الإقتصادي للمؤسسة الخاصة مرتبط بالإنتماء إلى عشيرة أو جماعة، أو بنوعية العلاقات النفعية مع النخبة السياسية أكثر من ما هو مرتبط بكفاءتها الإنتاجية. هذه الظروف الخاصة تجعل رهان التغيير المؤسسي يكمن، قبل كل شيء، في إقامة علاقات اقتصادية تنافسية تحرّر فضاء السوق من أي تبعية للهرميات السياسية. إن تشابك النشاطات الإقتصادية مع المصالح السياسية يمكن أن يكون ذو درجات، ولكن، على عكس ما توحي به النقاشات التقليدية بين ''الليبراليين'' والدّعاة إلى ''الدولتية'' السؤال لا يكمن في ما إذا كان ينبغي أن يكون هناك كثير أو قليل من الدولة. السؤال الجوهري يتعلّق بتحديد شكل العلاقة بين الدولة والإقتصاد، بين السياسي والإقتصادي: طالما بقي شكل العلاقة بين الشأن الخاص والشأن العام قائم على الزبائنية clientélisme، فإن الدولة ستظل حتما المكان الأمثل لممارسات الرداءة وتبديد الموارد. من وجهة النظر هذه، يظهر أن مشروع الإصلاح الليبرالي في الجزائر يقودنا، إذا أردنا تسجيله في سياق تاريخي موضوعي، إلى التذكير بالتجربة التاريخية لأوروبا، التي أدت إلى ظهور الرأسمالية: فهذه التجربة هي التي أنتجت وأسست السوق التنافسية التي حررت الأفراد - المقاولين من علاقات التبعية التي كانت تربطهم بالسياسي أو السلطان وجعلتهم يخضعون بعد ذلك لا لأشخاص، سلاطين كانوا أم إقطاعيين، بل لقواعد، قواعد المنافسة التي تحث وتدفع إلى الفعالية الإقتصادية.