لا يجب أن نكذب على أنفسنا وعلى الآخرين بأن الأحداث التي جرت في الجزائر هي من قبيل الإحتجاجات الإجتماعية التي تحدث في أي مكان في العالم، أو أن من يقف وراءها جهات خفية لا تريد الخير للجزائر·· فهذه التخريجات النمطية الجاهزة مللناها ولم تعد تنطلي على أحد منا، فالذين شاهدناهم وشاهدهم العالم أجمع في الشوارع يخربون ويكسرون، الذين رأيناهم على شاشات الفضائيات العربية وغيرها لم يكونوا يحملون لافتات أو يافطات كتب عليها ''نريد أسعارا أقل من هذه'' أو ''نريد شغلا وسكنا''، بل أن معظم الذين كانوا يعلقون على شاشات التلفزة كانوا يقولون نريد ''السجن أو الغربة وأخرى أكثر استفزازا وجنونا ''جيش شعب معاك يا إرهاب'' أو ''نعيشوا فالحباس ما عندناش اللي يبكي علينا''·· لقد كانوا يحملون في أيديهم أنواعا شتى من السيوف و لخناجر والآلات الحادة المعقوفة، هؤلاء في الحقيقة كانوا فلولا من المنحرفين والمنفلتين، رواد السجون وحتى المراهقين غير الراشدين من الذين تستهويهم المغامرة وحب تملك السلاح··· ولسنا نشتط أو نبالغ إذا قلنا إن أكثر من نشط هذه الإحتجاجات هم من الجناة السابقين والشباب الطري غير العاقل، فالذين عاشوا وكانوا ضحايا للأحداث يعرفون ذالك حقا·· لقد رأينا بأم أعيننا عصابات تعد بالعشرات اقتحمت المنازل والعمارات لتبتز سكانها بالقوة، ورأينا في ضواحي عين النعجة ولابروفال وباش جراح من استغل الأحداث كي يحاول خطف الأطفال والإعتداء على السيدات المارات في الشوارع متقلدين الخناجر والسفافيد، والذين هاجموا محلات البيع بالجملة في عين النعجة والرافيغو وكذا البنوك الحكومية والخاصة بقصد السطو عليها لا غير··· فأين هؤلاء الهمج من أولئك المحللين الذين أطلوا علينا من لندن وباريس والدوحة يقولون للناس إن الأحداث سببها الغلق السياسي والإعلامي في البلاد؟ ويحق للمرء أن يتساءل بعفوية عن تلك العلاقة التي تربط ذاك الشاب الأخرق الذي لم يتجاوز سنه السابعة عشر وحمل سفودا رهيبا في يده اقتحم به عمارة في حي بوروبة مطالبا أول نزيل صادفه فيها بما لزوجته من حلي وذهب أو أن مصيره ومصير جميع أفراد عائلته هو القتل؟ بالله عليكم هل كان يفكر هذا المجرم في اللحظة بالذات التي كان يشهر فيها تلك الآلة الجهنمية في وجه هذا المواطن الصالح وأسرته الصغيرة، هل كان يفكر بخنق الحريات النقابية والإعلامية والغلق السياسي الذي يتحدث عنه العربي زيطزط من لندن قبل أيام؟·· إن هؤلاء المحللين لا يزالون حبيسي كليشيهات جاهزة ظلوا يرددونها علينا منذ إيقاف المسار الانتخابي مطلع العام ,91 ولم يلجوا ولم يسبروا أغوار التطورات الهائلة والرهيبة التي شهدها المجتمع الجزائري من الداخل طوال هذه السنين التي استعر فيها الفساد والرشوة والتحييد المبرمج لقطاعات واسعة جدا من الشعب، حيث حمل مجتمعنا في أحشائه بأجيال جديدة من الشباب، شباب ولد وهو مفعم بيأس متقدم، أحس منذ الوهلة الأولى أنه بدون حاضر ولا مستقبل في هذه البلاد، فتحوّل إلى دموي أهوج يحمل السلاح الأبيض، تستفزه الصغائر ونتج عن هذه الحالة تولد مظاهر بدائية مثل شباب الأحياء الذي يهاجم شباب أحياء أخرى بالسيوف والخناجر وهراوات البيسبول المميتة وهذا لأتفه الأسباب ويعتدي جنسيا على الأطفال قبل قتلهم ويغتصب الرضع والقصر بالقوة، بل ويقتل والديه من أجل دنانير يشتري بها مهلوسات·· وبسبب كل هذا، عادت إلى مجتمعنا ظاهرة ''الهزية'' أو ''البلطجة'' كما يسميها المصريون التي غابت عنا منذ نهاية فترة السبعينيات حتى طغت وغلبت على الشارع الجزائري ليعود معها الشباب الأهوج ويتحدى الدولة بأكملها بعد أن أتى على الأحياء و لشوارع والأسر· انعدام الوعي السوسيولوجي العلمي ولامبالاة السلط إنه لا يجب أن نحمل هذا الشباب لوحده مسؤولية ضياعه وسقوطه إلى أسفل الدرك الإنساني حتى أصبح شبابا منحطا ''jeunesse dégéneree'' غير صالح لتأسيس حياة متحضرة قابلة للإنتاج والإشعاع، فمنظوماتنا التربوية والإجتماعية كلها مفلسة أو غير مؤثرة على الأقل، بدءا من الأسرة والمدرسة ثم الشارع الذي لا هوادة فيه، لكن تبقى المسؤولية ملقاة برمتها على نظام الحكم، لأنه هو من يخلق التنشئة الإجتماعية للفرد في عمومها بما له من سلطة أبوية أو بطريكية كما يسميها المتخصصون في علم الإجتماع الحضري التي تسهم بشكل رئيسي في بناء شخصية المواطن بالمعنى السوسيولوجي للكلمة على مدار السنين والعقود في حياة الشعوب والأمم · لكن أكبر مشكل بالنسبة للحالة الجزائرية هو اللامبالاة والإهمال العجيب الذي يتعامل به الحكم مع مثل هذه الأوبئة المجتمعية الخطيرة، حتى أن المراقب ليكاد يجزم بأن الأمر لا يهم تماما السلط المتواترة على الحكم في البلاد وأنه ليس من شأنها الداخلي، أي تماما كما تتعامل مع الشؤون الداخلية لدول وبلدان أجنبية لا مصلحة لها معها، مما جعل أمراضنا تتفاقم وتزداد تعقيدا وتصبح عصية أكثر على العلاج·· لقد عايشنا حين كنا لا نزال طلبة في الجامعات أحداث أكتوبر 88 ثم بعدها أحداث الفيس ومسيراته خلال العامين 90 و91 ولا نتذكر أنه سجل تهجم على منازل الناس أو الإعتداء على محلات المواد ودكاكين البقالة التي يمتلكها أفراد الشعب العاديين خلال هذه المسيرات، وحتى الأحداث التي تعيشها الشقيقة تونس رأينا فيها وعيا لا متناهيا، فالشعب خرج أول الأمر للتظاهر رافعا لافتتات تحمل مطالب اجتماعية ومهنية في مسيرات سلمية رغم آلة البوليس التونسي التي لا تعرف الرحمة·· ومع ذلك لم يدفع بها للجنوح نحو التخريب أو الإعتداء على منازل الناس وأعراضهم قبل أن تتطور إلى مطالب سياسية وتأخذ منحى آخر أكثر راديكالية وارتجالا·· إن أكثر ما يخشى اليوم في الجزائر أن تبسط هذه الفئات الباتولوجية سلطتها الفوضوية الرعناء على حراك المجتمع الجزائري في المناسبات التي تستدعي وقفات تاريخية من مسار وحياة بلادنا، فيتحول تعبيرنا عن مطالبنا إلى تجل صريح للعنف والتخريب أي للجريمة بالمعنى الصريح للكلمة·· مجتمع خطير ومنظومة قانونية عليلة·· إن الخصوصية التي بينتها الإحتجاجات الجزائرية تحيل حقا إلى ضرورات تستلزم منا إجراء دراسات وتحاليل سوسيولوجية من صنف الدراسات والتحاليل الاستراتيجية وليس أقل من ذلك، مراعين فيها الموضوعية أي بعيدا عن المزاج السياسي الذي يحوّلها إلى مخطوطات شعوبية لا قيمة لها، ولنبدأ في ذلك بالإعتراف أن مجتمعنا مريض ومريض جدا، وعلينا أن لا نخجل من ذلك إذا أردنا علاجا لأسقامنا وأدوائنا المتراكمة والعديدة، بعدما تحول المجتمع الذي نعيش فيه إلى ما يشبه الغابة التي يأكل فيها القوي الضعيف ولا يعتمد فيها الفرد لأجل ضمان أمنه وأمن أسرته سوى على شدة بأسه وقدرته على البطش بالآخرين·· فالدولة عندنا انسحبت فعلا من عدة مهام كانت من صميم اختصاصاتها، مثل ضمان أمن الأشخاص والممتلكات داخل الأحياء الشعبية المكتظة بالسكان وكذا التحكم في معدلات الجريمة سواء بالعلاجات الإقتصادية والإجتماعية أو حتى القمعية إذا استلزم الأمر، وزاد من استشراء العنف والإنحطاط الإنساني في البلد، سياسات اللاعقاب التي تعاملت بها السلط في الجزائر إزاء العديد من الملفات الحيوية كقضايا الإرهاب وغيرها·· ووصل ذلك حتى الاستخفاف في فرض العقوبات الرادعة على الجناة والجانحين من القتلة ومغتصبي الأطفال ومرتكبي جرائم الأصول، واستعاضتها بشبه عقوبات خفيفة وسهلة، مما شجعهم على إعادة الكرة والمضي في ارتكاب فظائعهم، وبالتالي البقاء أكثر على أمراضهم.. ومن تداعيات مثل هذه السياسة غير الراشدة أن تحول مجتمعنا إلى مجتمع ليس مريض فحسب بل وخطير أيضا يصعب الإحساس بالأمان فيه أو التمتع بالسكينة بداخله، كما عليه الحال في كثير من المجتمعات العاصرة··· توظيف أرعن·· ومراجعات ومن المفارقات التي وقفنا عليها خلال هذه السنين، أن الدولة وظفت كثيرا من الضالين والمنفلتين مثلما حدث في أيام الجزائر والقاهرة والسودان وبعدها خلال الإحتفالات بالتأهل للمونديال، غير أن هذا التوظيف كان يحمل في طياته سلاحا ذي حدين، إذ أنه لم يكن بناء استغل في إقلاع ينفع البلاد، فانقلب السحر على الساحر وتحوّل الشباب موضوع التوظيف إلى وحوش ضارية بإمكانها ضعضعة المجتمع والسكينة فيه وتقويض لحمة الدولة وتماسكها· واليوم لا مناص أن تستخلص الدولة العبر من هذه الأحداث ومن التراكمات التي ولدتها وأن تتحلى بطول الأناة والحكمة في تعاملها مع الواقع المجتمعي المريض للجزائريين من خلال إيجاد حلول على المديين القصير والبعيد، أي حلول استراتيجية لا تقل عن تلك الحلول التي تتصورها لو قامت حروب في منطقتنا بالأسلحة البكتيرية أو ما يشبهها، فأهمية الإنسان ودوره في التنمية البشرية واقتصادات الحياة والمعرفة تحتاج منا أجيالا قادمة من الشباب السوي المتزن، يجب أن نعد لها المناخ المناسب للتنشئة والإنطلاق الصحيحين، وليس التمادي بسياسة انسحاب الدولة من حياة المجتمع، فهذا سيؤدي بمجتمعنا إلى إنتاج المزيد من سلالات المسطولين والإرهابيين والسراق والقتلة·· أي بعبارة أخرى مجتمع بلا حاضر ولا مستقبل، مجتمع لا خير فيه على الإطلاق··