يبدو أن المنطقة العربية دخلت فيما يعرف بالمنعطف التاريخي، فالعدوى التونسية امتدت وإن كانت بمستويات مختلفة إلى العديد من الدول العربية، تظل أهمها ما عاشته مصر أمس، بعد استجابة المصريين لدعوة الخروج والتنديد بالنظام الحاكم. شهدت شوارع مختلف محافظات جمهورية مصر، مظاهرات حاشدة لم يسبق للمصريين أن شهدوا مثلها، ولا تهم هنا أرقام وإحصائيات المتظاهرين بقدر ما تهم رمزية الاستجابة لدعوة قوى المجتمع المدني المعارضة لنظام محمد حسني مبارك، قوى أرادت أن تقتدي بالتونسيين والتخلص من الشعارات الحزبية والطائفية، في محاولة لتشكيل جبهة شعبية لا تعترف إلا بقاسم مشترك واحد ووحيد، السخط والنقمة على النظام الحاكم. ومع أن الكثير من المخاوف حامت بخصوص عدم تجاوب الشارع مع هذه المبادرة، التي اعتبرها الكثيرون مجرد ''تقليعة على الموضة التونسية'' لا تخرج من سياق المجتمع الإلكتروني، إلا أن تلك الحشود التي لم تأبه للتعزيزات الأمنية ولا لخراطيم المياه والقنابل المسيلة للدموع، أكدت أن الشعب المصري استوعب الدرس التونسي وفهم أن الشارع وحده قادر على إحداث التغيير. هذا مع العلم أن المصريين رفعوا شعارات لا تختلف كثيرا عمّا رفعه التونسيون أول خروجهم للشارع، حيث اكتفوا بالمطالبة بحياة كريمة بعيدة عن الهوان والتعسف أكثر من المطالبة بسقوط النظام، هي دعوة للتغيير مثلما تؤكده الشعارات المرفوعة التي طغت عليها شعارات في صميم الانشغالات الاجتماعية والاقتصادية من قبيل ''يا حسني بيه العدس بعشرة جنيه''، هذا لم يمنع من الهتاف المطالب برحيل مبارك وحاشيته واللحاق ببن علي في السعودية. أدرك المصريون أن المطالبة برأس النظام أول الخروج لن يجلب لهم مساندة الجماهير، وبالتالي إمكانية حصر الاحتجاج على الناشطين السياسيين، غير أن التركيز على المطالبة بالحياة الكريمة ضمن التفاف كل المصريين، عدا المنتفعين من النظام، ومن يدور في فلكه. جاء رهان المبادرين على يوم الغضب المصري على إمكانية تطور المطالب وفقا لمنطق كرة الثلج على هوى الشارع وطريقة تعامل النظام معها، تماما مثلما حدث في تونس، على أمل أن تقود إلى الإطاحة بالنظام. يأتي هذا على خلفية التحليلات المقدمة من طرف الخبراء والتي تؤكد أن مصر تتوفر على عوامل الانفجار الذي قد يطيح بالنظام الحاكم، إن هو أغفل طرق التعامل مع الشارع المصري الغاضب. المثير أن السلطات المصرية التي بدا أنها استوعبت بعضا من الدرس التونسي لم تعط أي أمر باستعمال العنف المفرط، وإن نشرت تعزيزات أمنية من شأنها إرهاب المتظاهرين، غير أنها تلقت أوامر بعدم استعمال السلاح أو إطلاق النار لتفرقة المتظاهرين، وهو ما أكده شهود عيان. فقد أكدوا أن عناصر الشرطة لم تكن تحمل أكثر من الهراوات والعصي، في إشارة إلى أن أي استعمال للسلاح الحي من شأنه أن يعقد الأوضاع، مع ذلك فإن النظام المصري لم يقابل المتظاهرين بالورود، فقد أفرط في نشر قوات الأمن، بل ودخل في مواجهات مع المدنيين، كانت نتيجتها عشرات الإعتقالات والجرحى، وحديث عن سقوط قتيل جراء المواجهات. ولم تجد السلطة في مصر من مانع لاستعمال ذات المؤسسات التقليدية التي اعتادت عليها من أجل تهدئة الأوضاع، حيث دعت الكنيسة القبطية أبناءها لعدم المشاركة في المظاهرات، في حين خرج الأزهر ليؤكد أن زارع الفتنة خارج عن الدين، غير أن هذه الفتاوى الجاهزة لم تلق أي رد فعل لدى المتظاهرين. كما قامت السلطات بإبطال المواقع الإلكترونية وقطع هواتف أغلب المعارضين المصريين، في ذات الوقت الذي سعت فيه للتضييق على عمل وسائل الإعلام في محاولة يائسة للسيطرة على الأحداث وعدم انتشارها، غير أن رياح التغيير هبت على مصر وأيا كانت نتائج يوم الغضب هذا، فإنه على أقل تقدير قادر على تذكير النظام المصري أن الشعب لم يعد يقبل أن يُعامل على أنه مواطن من الدرجة الثانية. عود على بدء بالعودة للمنعطف التاريخي الذي تعيشه المنطقة العربية، نذكّر ببؤر التوتر التي تتفاقم وتيرتها غير بعيد عن مصر والتي تنذر بتغير الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة، فهذه السودان تنفصل عن جنوبها، لتفقد بذلك ثروات طبيعية لم تعرف كيف تستغلها طيلة عقود، لتعيد بذلك رسم خريطة المنطقة جغرافيا. أما سياسيا، فقد تكفلت لبنان بالمهمة، بعدما أعلن مساندو تيار 14 مارس، بزعامة آل حريري، عدم قبولهم تعيين السني الآخر نجيب ميقاتي، على رأس الحكومة بدلا من سعد الحريري، الذي دخل في صراع مع حزب الله، بخصوص مسألة المحكمة الدولية. والقصة اللبنانية تقول أن التحالفات في لبنان تغيرت، بعدما رجح وليد جنبلاط، زعيم الطائفة الدرزية الكفة لصالح حزب الله وبالتالي موافقة الأغلبية على تنحية سعد الحريري من رئاسة الحكومة وتعيين نجيب ميقاتي. يوم غضب سياسي في لبنان ونقطة الاختلاف بين أطراف النزاع المعروفين ب 8 مارس حلفاء حزب الله، ميشيل عون، نبيه بري، ومؤخرا جنبلاط و14 مارس، بزعامة سعد الحريري، جعجع، يكمن في محاولة إدراج حزب الله ضمن المتهمين باغتيال سعد الحريري، الأمر الذي يعتبره حزب نصر الله خيانة لا تغتفر للحريري، الذي لم يقف لمثل هذه الادعاءات. وقد شهدت العاصمة بيروت وطرابلس في الشمال، مواجهات عنيفة وعمليات تخريب، وبالرغم من تنديد سعد الحريري بمثل هذه الممارسات، إلا أن الرسالة كانت واضحة: المواجهة الصدامية بين طرفي الصراع وعدم رغبة أي طرف في تقديم التنازلات. هذا الوضع جعل الخبراء يؤكدون على أن الاحتقان اللبناني يهدد كل المكتسبات التي سعت كل الأطراف للحفاظ عليها طيلة الفترة الماضية من خلال الإبقاء على الحد الأدنى من التشاور. الخطير في المسألة اللبنانية أنها تمتد إلى بقية دول المنطقة، في مقدمتها سوريا، السعودية ولبنان، على اعتبار أن طرفي النزاع اللبناني يعولون على تحالفات خارجية كورقة ضغط، مصر والعربية السعودية، اللتان تساندان سعد الحريري، لا ترغبان في هيمنة شيعية على لبنان، تبعا لمنطقها القاضي بأن الشيعة يعني نفوذ إضافي لإيران في المنطقة العربية. ولعل القاسم المشترك في الشرق الأوسط لا يقتصر على الخوف من المد الشيعي في بعده الديني، بقدر ما يكمن في الخوف من الدعوة لإسقاط الأنظمة الحالية في كل من السعودية والأردن وغيرها من المملكات، على اعتبار أنه ينظر إليها على أنها موالية لأمريكا. هكذا إذن تتداخل النزاعات السياسية في المنطقة لتجد لها أرضية المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، التي تغذي الاحتجاجات الجماهيرية للشعوب المقهورة، الأمر الذي قد يفتح المجال لسيناريو غضب شعبي مطالب بالإطاحة برأس الأنظمة الحالية، بعد انتقال العدوى التونسية. وفي حال انتصار غضب المصريين على اكتساب تغيير أيا كان حجمه، قد يكون كافيا لتشجيع بقية شعوب المنطقة. في هذا المقام لا يمكن إغفال ما يحدث في كل من اليمن وليبيا والعديد من الدول العربية، من بينها الأردن، التي عرفت بداية الاحتجاج الساخطة على ظروف الحياة المتدهورة والغلاء الفاحش والقهر، الذي يعيش في ظله الشعب. المثير للانتباه أن من بين المنتفضين قبائل ذات نفوذ عرفت على مدى عقود بولائها للعرش، غير أنها عادت لتنتفض بفعل ما أسمته إقصاءها من توزيع ثروات البلاد. الصورة المكبرة للمنطقة العربية، تكشف عدم استقرار عام وهشاشة الأنظمة في ذات الوقت الذي تظهر فيه الشعوب قانطة، ولم تعد تطيق صبرا على البؤس الاجتماعي والاقتصادي الذي تعيش تحت وطأته، ومع انكسار شوكة الخوف وانتشار موجة الانتحار حرقا لم يعد ما يمنع الشعوب العربية من الانتفاضة في انتظار اللحظة الحاسمة المطالبة بالتغيير أيا كان نوعه، إسقاط النظام مثلما حدث في تونس، وذلك المرجو أو على أقل تقدير الإطاحة بالحكومات وتغيير السياسة الداخلية باتجاه تفتح أكبر على الديمقراطية المكرسة لمفهوم المواطنة.