عندما نبحث في الدرج عن نص، عن سيرة، عن صوت، عن إحالة إلى ما به حلول في الحالة المصرية بكل تحوّلاتها وتجلياتها، لا نجد ما هو أكثر قوة في الحمولة من الفاجومي أحمد فؤاد نجم. نجم بيس نصا مكتوبا على بياض الورقة، إنه نص ممتد كتيار كهربائي صاعق وصادم ومزعزع. إنه التلاحم الرائع بين القول والفعل، تطابق منح للكلمة إيقاع المفجر للمستكين من المستضعفين وللمطمئن في بحر العسل من المتفرعنين. سيرة أحمد نجم هي سيرة ثوري عاش الثورة وتنفسها، وظل البسيط المتغذي ببساطة تمد كلماته بمفعول التوتر المتصاعد إلى الأوج، ومن تجليات التصاعد هذه الحالة الثورية التي تنتقل بكلمات نجم إلى مشهد في ميدان التحرير يجعل المحروسة تغني بهية التي صارعت وظلت تتشبث بنيل يكتب بفيضه، فيض الاستمرار. عندما نعيد قراءة نجم، نكتشف روعة العامية وفصاحتها الأفصح من فصحى لا تفصح، فصحى الكلمات المترهلة لسدنة هامانيين ينسجون لغوا يلغي بغيا وغيا. نجم ترعرع يتيما وتربى في الملجأ وعانى البؤس، ساهم في المقاومة ضد الإنجليز وعمل في الميناء، واجه الحرامية فلفقت له التهمة التي قادته إلى السجن ومن السجن خرج ديوانه الأول، معلنا ميلاد شاعر فذ. خرج ليمتص التفاصيل ثم ينسجها لغة. كان لقاءه بالشيخ إمام عيسى منعطفا حاسما في مشواره، فشعره تكثف بصوت من وصفه حسن حنفي بإمام المثقفين، وشكلا ثنائيا بصم تاريخ مصر وصاغ ذوقا وثقافة. ظل نجم مصطدما بالسلطة، وظل متشبثا بقناعاته ومرتبطا بأسلوب عيشه وسط الكادحين، عيشه كادحا يقهر القهر بسخرية سوداء، تحتويها عبارات وأبيات ك: ''طاطي راسك طاطي طاطي انت ف وطن ديمقراطي انت بتنعم بالحرية بس بشرط تكون مطاطي'' ''الكلمة تكون بتدينك لما تخبي ف قلبك دينك لما الذل أشوفه ف عينك هات إحباطك على إحباطي'' من عمق الحارات المصرية، ومن عبقها ومن سطوح العمارات الشعبية ومن الزنازين والمعتقلات، تشكلت بلاغة الشاعر الذي تفرد بصدق جعل للكلمة ثقلا، وبصياغة حوّلت التراب تبرا، وشكلت بالبسيط الرائع. بالتراكم أصبح نجم أيقونة ومهمازا، أصبح دليلا للثائرين وللمقاومين، دليلا مشحونا ببيانات الكرامة والحياة. كتب قصائدا فتحوّلت القصائد إلى حقن وإلى خميرة أنضجت الحالة. كتب عن شي غيفارا وبعد سنين رفعت صور غيفارا في ثورة تونس الرائعة. تنقل فانتقلت روحه لتعانق أرواح من التقاهم وقرأ عليهم أشعاره، تنقل مع إمام فحققا الروعة، لكنهما انفصلا، انفصالا أحزن من أحبوهما. رحل إمام واستمر نجم نجما يهدي نحو التحرير، هداية يكتبها شباب منهم ابنته نوارة في ميدان التحرير. نجم كالهادي علوي والطاهربن عيشة وغيرهما في البلاد العربية ممن ارتبطوا بالعمق وحافظوا على قناعاتهم رغم كل التحوّلات التي طرأت وأعلنت بيانات النهاية وتحقق الاكتمال لنزعة ليبرالية رأسمالية. ظل نجم يمتص الرحيق من الهامش ويدون المتن الناسف لما تمركز وتنمذج، يكتب الروح والعمق، يمارس محوا ويكتب النص المضاد الذي يوّلد بالهدم المعنى والمعنى قضية تجعل للحياة معنى وتحقق بالممانعة دورا فيصوغ الدور هوية وتحقق الهوية الواقي من التهاوي في الهاوية. في نصوصه بساطة، وفي بساطته مهارة، وفي مهارته ما يسمى السهل الممتنع. كلمات بشحنة وحمولة مكثفة، كلمات بإيقاعات تسوقنا إلى التلبس بحضرة انجذاب للدخول في حالة جذب ثوري. كلمات بصور كاريكاتورية تركب الشظايا وتخترق النشاز لتنقلنا نحو البصيرة. شكلت قصائد نجم تجربة متميزة وغنية، وشكلت تعبيرا عن الروح المصرية، تعبيرا يصلنا بتجربة بيرم التونسي، ويحيلنا لمسارات مثقفين مبدعين ومرابطين دفاعا عن المحروسة وتمثلا لخصائصها كأمل دنقل ونجيب سرور. في سيرته تتقاطع الإحالات ونستحضر التروبادور الثائر الذي ارتقى بلغة الشعب وثقافته. مع نجم يحضر نقاشا مهما أثاره الكاتب الصحفي المصري إبراهيم عيسى الذي قام بإجراء حوارات مع ثمانية مثقفين مصريين، من بينهم نجم حول ما أسماه ب ''الازدواج الثقافي'' ويقصد به الصراع بين نمطين من الثقافة، ثقافة تتبناها المؤسسة الرسمية وثقافة يتبناها الشعب. الشعب إذا كانت له تقاليد ثقافية يبدع ما يواجه به حالة الاغتراب، كما لمح إلى ذلك المفكر مصطفى لشرف في كتابه ''الجزائر أمة ومجتمع''، يبدع آليات مضادة خطابا وتعبيرا ومرجعية. نجم هو فعلا نجمة مضيئة في ليل وقب وحجز المجال أمام تنفس الصباح، فكانت كلمات نجم سراجا وهاجا دفع للحالة التي سيتنفس بها الصباح. نجم هو أيقونة مصر ومهمازها وصوت عمقها ورحمها، الصوت المتدفق كالنيل، حاملا جينات إخصاب الثورة.