أيام فقط تفصلنا عن كأس العالم 2010 بجنوب إفريقيا. أيام ستتجدّد معها الآمال والآلام والآهات والتأوّهات، وستعيد بعضا منا إلى تلك الأيام الخالدات صيف 1982 بإسبانيا وصيف 1986 بالمكسيك. تلك أيام قد خلت، لكنها ظلت شامخة وضاربة في أعماق ذاكرتنا وظل بريقها منيرا لدرب الكرة الجزائرية رغم المشاكل ورغم 24 سنة من الغياب. كانت أياما زاهية مفعمة بروح الوطنية زادتها بهاء الأغاني المجلجلة لبلبل الجزائر الحاج رابح درياسة. من منا لا يتذكّر تلك الأيام وصوت درياسة الرخيم يصدح في كل بيت وشارع وينبعث من كل تلفاز ومذياع، سواء عند التأهل إلى كأس العالم أو قبيل أول مشاركة في المونديال أو حتى عند كل إنجاز في المحفل الدولي. “إيوو مبروك علينا هذي البداية مازال مازال” كانت شاهدة على أبرز الصفحات الناصعة للكرة الجزائرية. “وهيا يا جزائر هيا” كانت مقدّمة لملحمة إسبانيا ورافقت إبداعات “ماجر، عصاد، بلومي... والهدف الثاني” للمعلق محمد صلاح، وهو ما يدل على أن درياسة كان جزءا لا يتجزّأ من تاريخ الجزائر المجيد وعنصر من عناصر التلاحم الوطني الذي ما كان ليبلغ تلك الدرجة لولا كلماته الوطنية المشتعلة. رابح درياسة من مواليد الثلاثينيات وتربى يتيما وعانى من ويلات الاستعمار، لذلك وهب ما وهبه الله من صوت ليتغنّى بالجزائر المستقلة التي عايش بحماس انجازاتها وتطورها لأن قلبه لم يكن ينبض إلا حبا للجزائر الفتية. غنى “نجمة قطبية” ولم يكن يقصد منها سوى الجزائر الحرية التي جلبها “الرجّالة” بقوة السلاح. وأثناء مرحلة التشييد والبناء دافع بقوة عن الثورة الزراعية بأغنية “خذ المفتاح يا خويا وافتح دارك يا فلاح” والثورة الصناعية ب “سير على اللّه يا خدّام”. ولأنه رجل مبادئ، فقد آلى على نفسه أن لا يغني بعد بومدين الذي آمن به، وآثر أن يتغنّى بالجزائر وفقط لأنه كان يرى الإنجازات ذهبت مع اشتراكية بومدين. ومنذ ذلك الحين أصبح مثل الملاحظ الحكيم الذي لا ينطق كثيرا لكنه يصدح بالقول الفصل في الوقت المناسب. في وقت الإرهاب الأعمى نبّهنا إلى أن الوحدة في خطر وأصدر رائعة “يحياو أولاد بلادي ويحياو بنات بلادي وشنانة في الحساد” وعندما أحس بمخاطر التقسيم ألف أغنية اشتركت فيها ثلاث لغات (عربية، قبائلية ومزابية) قال فيها “سميني شرڤي، سميني غربي، سميني بحري سميني ڤبلي... وأنا نقولك أنا جزائري”. ورغم أن أغانيه الجديدة قليلة، إلا أنها أروع ما سمعته أذن الجزائري من باب خير الكلام ما قل ودلّ. ولأن درياسة عوّدنا عند كل مونديال بمفاجأة من العيار الثقيل، فإن الأيام القليلة القادمة قد تكشف جديده، اللهمّ إلا إذا سمع ما لا يرضيه في هذا الزمن التعيس. زمن كثرت فيه خفافيش الظلام التي استفادت من انسحاب البلبل، وأضحت تصرخ لست أدري بأي صوت وتمزج الصخب مع الصخب وتصدر أغان بكلام لا معنى له على طريقة الوجبات السريعة سعيا إلى الربح الأكيد على حساب الذوق العام. المنتخب الوطني الحالي بعث الروح الوطنية من جديد وغرس في الشباب الجزائري التلاحم والتآزر وقت التحديات، في وقت ظن الحاقدون أن مشاكل السياسة لن تقيم له قائمة. لكن إن كان المغنون الشباب قد كسبوا بعض المواقع في ميدان الأغنية الرياضية الوطنية، إلا أن ما قدّموه لا زال لم يرق إلى ما أنجزه درياسة منذ أزيد من ربع قرن. رحم اللّه أيام درياسة وأغانيه التي كأن لها قلوبا تنبض حبا للجزائر. لقد سلبت العقول وأرقصت الأبدان حتى أن جيراننا في تونس والمغرب أصبحوا يتغنّون بها في ملاعبهم. هذا هو درياسة الرياضي الوطني ونحن ننتظر لعل وعسى يطربنا في الأيام القادمة.