تبدو الدعوات إلى الحداثة والدمقرطة في الوطن العربي جوفاء، كاذبة ومبكية، إنها مناوراتية وقليلة التفاوض ومقطوعة النفس ومفتقدة إلى عمق استراتيجي، هو الضامن لاستبقاء العمل النضالي على نبضه، منذ أمد طويل كتب المثقف المصري الليبيرالي زكي نجيب محمود ''نخبة جديدة أو الكارثة'' وهي حاصل اجتهاد، تفكيكي مسّ العقل المصري ورهاناته، فيما ظلّت هكذا أعمال في التناظر والتشابه تترى وتتزايد، أعمال فؤاد زكريا، أعمال حسن حنفي، أعمال أحمد بهاء الدين، أعمال حامد ربيع، أعمال عبد الرحمن بدوي، أعمال كثيرة عاصرت زمني السادات ومبارك واشتغلت على موضوعات التحرير والتغيير والثورة والنهضوية والتقدم والتثاقف والإيمان بالغرب والأنسنة والمعرفة والحكمة.... مفردات مثقفين عالية النبرة، حادة، غير أنها منتمية إلى نسق نخبوي، متعالي، رابضة في برجعا حياتها، راكنة إلى الأكاديمي الجاف مستنسخة للعمل الغربي في الفكر والنظر والأطروحة. سبعون عاما في مديح النهضة، ثلاثينية ضخمة في المال واللوجيستيك والثقافة الرديئة، عشرية كاملة الأوصاف في الهبوط الحراري لمفاهيم الحدثنة والإصلاح والتقويم، إنه حقل الإختلالات المتعاظم، الملتبس بلحظة المفهوم الذي يجري مداورته والالتفاف عليه بين مشاريع مثقفين متعدي الأنساق وسلطات نظامية توظق المفاهيم ذاتها وتعمل على الخطوط التحريفية. كان للحادث المصري تأويلات مفتوحة، وقراءات ليس لها لون واحد أو مقصدية واحدة، يفضح الواقع المصري الطبقات الثقافية الصدئة، المترهلة، كما يفضح الميلشيات الثقافية التي رهنت مصر التاريخية للحسابات السلطوية الغبية والمشاريع الكبرى في أكاذيبها ومراهناتها وجهلانيتها، لقد توسطت مصر بين سلطة تنتج الهزال في المعرفة والإبداع بمعية مثقفين متزلفين، محنطين في الدماغ، منسوخين من الهجانة والقمع والعقل البوليسي ونخبة كبيرة، متراجعة، ناقمة لكنها ناكصة، أو ارتزاقية - بذهاب بعضهم إلى الخليج أو أوربا وأمريكا - أو هي منظرة، مسرفة في عطائها المعرفي المقطوع الصلة بالتراث الشعبي، الحي، الناقد الناقم للمصريين ولروحهم الملأى بالهجائية والفكاهة السياسية والشعر اللاذع، إن مصر التي انتفضت -مؤخرا- على الظلموت السياسي والإكراه المتشدد ومسلسل التجهيل الممأسس، لم تكن انتفاضتها شوارعية، مؤقتة، يسهل استنزافها، أو استعمالها، أو ركوب أمواجها العاتية، فعلا فلقد كانت عاتية وحملت رمزية النخبة الجديدة تلك التي حدثنا عنها زكي نجيب محمود، التي لا ترضى بمنسوب قليل من الحرية، أو مستهلك أو خادع، أو ممنوح كإسداء معروف أو التفضل بواجب دولاتي أو هو أصلا من طبيعة الدولة الإكراهية، القامعة، التي تمن بأدوارها وفضائلها. في حالة هكذا، حراك تعبوي، منظم، سلس، بالغ الترتيب وغير جانح إلى العنف، شباني، قام به بقايا من طبقة متوسطة مشدودة إلى تطلعاتها انقطعت عن خطابات السلطة وبلاغاتها العفنة من التكرار المتناقضة مع سلوكها الذي يجري دوما تلميعه بإصلاحات قشرية، فوقية غير جوهرية، في حالة هكذا تبدو التفكيرات حاملة لمضامين المغايرة والتجاوز، يصح القول إن جيل حركة كفاية وحزب الغد ومعتدلي الإخوان المسلمين وبعض المستقلين وبعض الكتاب الأحرار هم فقط من نشزوا عن اهتراءات النخب ودعاوى المشروعات السياسية وقصدا قبل الانتفاضة 25 جانفي: فعلى الأرض لم يكن أدنى عنصر أو مؤشر يشي بحالة مصر الراهنة، مصر التاريخية، مصر التي يمنع التسويق لعقلها الرافض، النهضوي، الهائم وراء أحلام جديدة. بذرة أولى انزرعت في 2005 وتكشفت بوضوح وسفور على ميدان التحرير. - بهاء طاهر وخالد يوسف وسهير المرشدي وعمار الشريعي وقبلهم وائل نور وسعد الدين ابراهيم وعبد الوهاب المسيري في منتصف الألفية - ممن أثبتوا بمواقفهم وعنادهم وتطاولهم على قامة النظام المؤسساتي البيروقراطي المكروه، لقد شوهد الموسيقار عمار الشريعي والممثلة سهير المرشدي والسينمائي خالد يوسف والكاتب بهاء طاهر نماذج من أنتلجانسيا لم ترد أن تكون رثة، عارية بلا ضمير، قوية الحجة في الاصطفاف خلف النداءات الراديكالية، العميقة وهؤلاء الرافضة لأسلوب المؤسسة ورنينها الديكتاتوري كانوا على خفوت ووجل وحيطة إلى أن تقدم الشباب نحو الميدان بسلاسة، بمشروع مجتمعي تداولي، وبنهضة غير منسوخة من كتابات العلمانيين، التقدميين ولا هي متماهية مع اليوطوبيا والإصلاحية الرتيبة، الورقية، المأفونة... إلى اللحظة، وقبل آخر مسمار يدق في نعش الديكتاتور الكذوب تطرح الورقة المصرية المستحيل بوصفه ممكنا، السلطة الإستبدادية التي تلوح بالفوضى والكاوس والتشطي والإحتراب والبلطجة كلما تقدم الثوار نحو مساحة أكبر من الحرية والتحرير، مشاريع المثقفين النظرية، الهجينة، القميئة، العمياء على نمط ''القراءة للجميع'' لسوزان مبارك، دفاتر التنوير لجابر عصفور، وجوائز الدولة التقديرية المتعددة وهيافة الأنشطة الشكلية في معرض القاهرة الدولي للكتاب، شباب 6 أفريل وشباب 25 جانفي وشباب خالد سعيد نهضوا لمسح فتات الحرية المعطى، نهضوا كي تستقيل نخبة الحداثة المعطوبة في مصر البهية بتعبير محمد فؤاد، نهضوا على عقلية غير تآمرية رافضة للكاوس المبرمج والفوضى الإسرائيلية الخلاقة.