عند الحديث عن أي ''تحول جذري وسريع'' في حياة أي شعب، أبحث عن الكتّاب والمفكرين الذين نظروا لهذه الخطوة واستشرفوا أو حتى حرضوا لها.. فالثورة الفرنسية ارتبطت بنظرية ''العقد الاجتماعي'' ل جان جاك روسو، الذي يعتبر منظر الثورة وفيلسوفها.. لماذا لا يثور المصريون؟ السؤال الذي أجابت عليه الجماهير وإذا ما حاولنا تلمس هذا الجانب في ''الثورة المصرية'' الحديثة حتما سنتجه نحو عدد من الكتّاب على رأسهم، الدكتور علاء الأسواني، الذي ظل يكتب عبر صحيفتي ''الدستور'' و''الشروق الجديد'' محرضا، وضم تلك المقالات في كتابه ''لماذا لا يثور المصريون'' الذي صدر في فيفري 2010، الذي يؤكد فيه ''أن الأوضاع الداخلية في مصر تكفي لإشعال عشر ثورات في بلد آخر، ولكن خبرة الجماهير الأليمة مع القمع ويأسهم الكامل من الإصلاح جعلهم يبتعدون بقدر الإمكان عن السلطة بل ويسخرون منها أحيانا ولا يفكرون في الاعتراض عليها''، هذا ليس تبريرا للإستكانة بقدر ما هو استفزاز ''لمشاعر المصريين'' الكل يعمل ليكسب ويربي الأولاد وينعم ببعض المتع الصغيرة، فلماذا يعبأ المواطن بمن يحكمه وهو لم يختره، وبطريقة مميزة في الاستفزاز يكتب الأسواني: عندما يجلس المصري آخر النهار وسط أولاده فإنه يعرف كيف يسخر من ظالميه ويكون مجرد استمراره في الحياة بمثابة هزيمة للذين قمعوه.. ولم يكن المصري ليستمر عبر آلاف السنين من الظلم لو لم يكن حكيما وصبورا، وقد تعلم من تجربته الطويلة كيف يتعايش مع الطغيان بحيث لا يصيبه إلا أقل الضرر، إنه لا يتمرد على الطاغية ولا ينسحق أمامه بل هو يبحث دائما عن حل وسط يقيه الشرور، إلا أنه وفي المقال ذاته يذهب إلى أقصى درجات التحريض عندما يضع معادلة واضحة لاستشراف القادم والتبشير به حين يقول: يرى البعض أن المصريين شعب مذعن وخاضع، وبالتالي غير ثوري.. ولكن ثورات المصريين على مر العصور تكذب هذا الزعم، فالمصريون يثورون في النهاية ولكن متى؟!.. عندما تتدهور أحوالهم إلى درجة لا رجاء منها وبعد أن تنفد كل محاولات التأقلم والتعايش مع الظلم والفقر، عندئذ ينتفض المصريون وتكون ثورتهم هنا إلى غضب الحليم الذي قد يتأخر، لكنه عندما يندلع يكتسح كل شيء، والمدهش أن كل الثورات المصرية (على الأقل في العصر الحديث) قد اندلعت فجأة بعد فترات من السكون الظاهري التي قد يظن معها أن مقاومة الناس قد ماتت. الأيام الأخيرة.. رؤية قرأت الثورة قبل وقوعها ربما يعد الدكتور عبد الحليم قنديل (منسق حركة كفاية) هو أول من أخرج ''عفريت التغيير من القمقم''، ليس لأنه من تسبب في تأسيس أول حركة ''تغيير متمردة'' هي حركة ''كفاية'' في عام 2004 فحسب، بل لأنه ظل يحرض ويستشرف مستقبل الثورة في مصر، ففي عام 2008 أصدر كتابه المرجعي ''الأيام الأخيرة'' متصدرا صورة تعبّر عن انتهاء عهد مبارك ومعدداً سيناريوهات الرحيل، كما لم يستشرفها أحد. في هذا الكتاب يقول قنديل: ''مصر على السطح قد تبدو ميتة وجثة طافية، لكنها في العمق الاجتماعي تغلي ومواعيد الغضب تتوالى نذرها، فالبلد في قلبها دمل''. هكذا يشخص ''الحالة'' التي بدت راكدة في تلك اللحظة من التاريخ، إلا أن ثمة مؤشرات ما قادته إلى قراءة مغايرة ودفعت به للقول ''تبدو مصر وكأنها تستعيد حاسة.. تبدو كمخزن غضب ينتظر شرارة التفجير، غضب لا يعرف طريقه بالسياسة وبالوعي المضاف، ولكنه يعرف طريقه بروح انتقام اجتماعي''. وهذا الانتقام الاجتماعي غير المسيس ذاته الذي -حتما- قاد المشهد نحو ''ثورة 25 يناير'' كما تصوره قنديل تماما، الذي لم يتوان أبداً عن ممارسة نقد ذاتي حتى على الحركة التي يقودها، حين يقول ''إن حركة كفاية بصيغتها القديمة لم تعد مناسبة'' مطالباً ''بكفاية ثانية تكون عصب القوى التي تقود ما أطلق عليه -خطة لخلع الدكتاتور- عبر ما أسماه ''ائتلاف المصريين من أجل التغيير''، بحيث تكون المقاطعة والعصيان ثنائية نضالية ذات طابع سلمي في مواجهة النظام القائم.. وهو التنظير الذي مهّد لقيام ''إئتلاف التغير والغضب'' الذي تحمّل مسؤولية تأسيس وإدارة الثورة! ولم يغب عن ذهن ''قنديل''، وهو ينظر لهذه الثورة الشعبية، محاولات الالتفاف التي يمكن أن يغامر بها النظام الحاكم - سابقا - حيث توقع إمكانية اللعب بعملية تشتيت الأوراق حين يورد فقرة بالغة الأهمية بتوقعه إمكانية إسناد موقع نائب الرئيس للواء عمر سليمان! كما لا يستبعد في الكتاب ذاته ''احتمال حكم الجيش في لحظة خطر كموت الرئيس فجأة، أو حالة انزلاق البلد في خطر اجتماعي''. كل تلك الرؤى المحرضة على ''الثورة والعصيان الشعبي''، وتلك السيناريوهات المحكمة، لم تكن سوى جزء من جهود النخب المعارضة لقراءة المستقبل، وبالتالي لإستشراف الآتي الذي لم يكن سوى حقيقة تجسدت منذ 25 جانفي الماضي.