كثيرا ما جرى الحديث عن الدعم الروحي والسيكولوجي الذي حظيت به الثورة الجزائرية من طرف الأدباء العرب سواء من خلال القصائد الشعرية المدوّية أو المقالات والنصوص النثرية التي جسّدت بطولات الشعب الجزائري وما دفعه في سبيل تحقيق الحرية والاستقلال من الأثمان والأعمار ما أدهش العرب جميعهم، فاحتلت بذلك مكانة هامة في قلب كل عربي واكتسبت احتراما عميقا لديهم عبر أجيال متعاقبة.. لكن هل مازال الأدب العربي محافظا على دوره في دعم قضايا أمّته الكبرى؟ وما سر القطيعة بين المشرق والمغرب العربيين وخاصة مع الجزائر بعد الاستقلال وبالأخص في فترة التسعينات؟، وإلى أي مدى مازالت بطولات الأجداد ونضالاتهم تتجلّى في كتابات جيل الشباب الذي لم يذق ويل الاستعمار وظلمه، وتنفّس الحريةَ مطواعةً مع صرخة الميلاد الأولى، فكسب حقّ أن يطوي تلك الصفحة بكاملها من دماء وأوجاع وموت؟ وما علاقة الأدب الاستعجالي بأدب الثورة ...كل هذه الأسئلة وأخرى أرادت "المساء" أن تبحث لها عن إجابات لدى عدد من المختصين والدارسين في الذكرى السادسة والأربعين لعيد الاستقلال.
زهور ونيسي : (مجاهدة وكاتبةوعضو مجلس الأمّة): الأدب العربي قدّم للثورة الجزائرية أكثر مما قدمه أبناؤها" كان دعم الأدب العربي للثورة الجزائرية حقيقيا وكان إعلاما، فالأمة العربية كانت تتغنّى بالأشعار التي قيلت في الثورة الجزائرية وكانت تتابع أخبار الجزائر من خلال هذه الأشعار، وبمجرد أن استقلت الجزائر بقيت بعض الأقلام كقلم الدكتورة "نور سلمان" تتابع وتجمع بشق الأنفس كلّ ما كتب عن الثورة الجزائرية خاصة تلك التي كتبت من طرف بعض المجاهدين والمجاهدات الذين عاشوا بعض الأحداث وسجّلوها، مثل المجموعة القصصية الأولى التي صدرت لي في القاهرة "الرصيف النائم" و "على الشاطئ الآخر" وكذا رواية " يوميات مدرسة" . صحيح أنّ الاهتمام بالجزائر قلّ بعد الاستقلال لكن ليس أقلّ من الكتابات التي أنجزها الجزائريون أنفسهم، نحن لا ندري قيمة ما عندنا من تراث، نملك ما يمكننا أن نكتب عنه لأجيال وأجيال، لكن ما كتب حتى الآن سواء شعرا أو نثرا أو قصة أو رواية وحتى مسرحا وسينما غير كاف أبدا، دول أخرى كانت لها أحداث صغيرة جدّا أنجزت منها المستحيل، "مظاهرات 1919 " في مصر نجدها مجسّدة في أعمال تلفزيونية وسينمائية، أمّا نحن فنخرّب بيوتنا بأيدينا ونقضي على ما عندنا من تراث ثوري ونضالي، وأعتقد أنّه إذا حاولنا أن نقضي على هذا التاريخ النضالي كما نسعى إلى القضاء على الكثير من الأشياء الجميلة فسوف ننتهي، لذلك لابدّ أن يستعيد الجزائري مرجعية الثورة كعامل مشترك. ومن المؤكّد أنّ تلك الكتابات الأدبية التي مجّدت الثورة الجزائرية هي بمثابة وثيقة تاريخية شاهدة على ذلك العصر، فما كتبه مولود فرعون، والشاعر الربيع بوشامة، أحمد رضا حوحو أو عبد الكريم العقون وغيرهم من الشهداء والمجاهدين الذين كانت لهم نعمة الكتابة، تسجيل ما عاشوه خلال الثورة أصبحت بمثابة مرجعية. وأعتقد أنّ الأدب في الوطن العربي مازال ملتزما بقضاياه الكبرى، نحن لا نشكّك في وطنية الشعوب، إذا كانت هناك انهزامات وحالات تبعثر وضياع بالنسبة للنظم، فالشعوب ستظل تتألّم على هويتها وتاريخها وعلى ما آلت إليه من حالة استيلاب وانهزام واحتلال، الشعوب لن تتوقّف عن حب الحرية والانعتاق ولن تتوقّف عن المطالبة بالكرامة، ورغم فتور أقلام الأدباء نوعا ما في تناول القضايا فإن شعلة الأمل لا يجب أن تخبوا أبدا. أمّا عن مدى التزام الجيل الجديد من الكتاب الجزائريين بالثورة فإنّهم يتمرّدون على بعض الأشكال وبعض الحالات والمواقف، لكن عندما تبحثين داخلهم ستجدين قلوبهم وعقولهم ما زالت وفية.
محمد شيا:(دكتور في الفلسفة الحديثة بجامعة لبنان): هناك انفصام بين المفكرين وقادة الحركات التحرّرية فيالوطن العربي في الفترة التي تعرّضت فيها الجزائر لحملة فرنسية كاملة ومحاولة إلغائها جغرافيا وثقافيا وقوميا...كانت هناك بالموازاة من الثورة الجزائرية انتفاضة عربية كاملة جرى التعبير عنها في الأدب والفن والفكر والسياسة ..وكما قام الجزائريون ببطولات خارقة في تحديهم الأسطوري للاستعمار الفرنسي، سجّل الأدب العربي وبخاصة المشرقي وقفة رائعة إلى جانب هذه الثورة العظيمة، لكن هذا الدعم والارتباط شهد تراجعا وفتورا خلال فترة التسعينيات عندما كانت الجزائر تعاني أزمة الإرهاب. وكما كان وقوف العالم العربي بمشرقه ومغربه خلف الثورة الجزائرية فكان خير داعم لهذه الثورة لتحقّق النصر، فإنّ تخلي المشرق العربي عن دعم قضايا المغرب العربي فيه خسارة كبرى والعكس صحيح، فتخلي المغرب عن قضايا المشرق أيضا فيه خسارة لقضايا المشرق وتركه وحيدا أمام الهجمات التي يتعرّض إليها لمحاولات نهب ثرواته وكرامته وتاريخه، باختصار فإنّ المشرق بحاجة إلى المغرب والمغرب بحاجة إلى المشرق، وهنا تكمن أهمية استعادة تلك الروح التضامن التي منحتنا إياها الثورة الجزائرية . أمّا عن مدى التزام الأدب العربي حاليا بقضايا أمّته فأنا أجيب صراحة ب"لا "، وهذا الأمر لابدّ من التوقّف عنده وعدم الاستهتار به، اليوم هناك انفصام حاصل بين الثقافة (الآداب والشعر والسينما والفن التشكيلي) وبين ما تبقى من ثورات عربية التي تبدو وكأنّها مستعلية عن الثقافة أو لديها مشكلة مع الثقافة والمثقفين، وبالمقابل أصبح للمثقّف موقف سلبي من هذه الثورات، وهذا أمر خطير جدا ..فليس هناك ثورة تنجح بدون ثقافة . اليوم، هناك مشكل حقيقي بين القضايا العربية والقيّمين عليها من جهة وبين المثقفين والأدباء والمفكّرين العرب، وأعتقد بأنّ كلا الطرفين يتحمّل مسؤولية ذلك، والمثقف العربي الحالي غير مثقّف الأربعينيات والخمسينيات هو أقل التزاما، وبالمقابل الثوريون العرب للأسف لديهم شكوك دائمة في المثقف العربي ويصنّفونه في خانة المعادي، ولا يحاول أبدا كسب تأييده وتحالفه، وأنا أعتقد أنّه من الضروري إحداث المصالحة بين الطرفين وقيام كل منهما بنقد ذاتي. وعن علاقة أدب الثورة بالأدب الاستعجالي أعتقد أنّ الثورة كانت بحاجة للأدب الاستعجالي الذي كان مؤقتا، تلاه في فترات لاحقة أدب أكثر استقرارا وتمكّنا من فنون الأدب، ورغم ذلك فإنّ للأدب الذي كتب آنذاك قيمة تاريخية بتسجيله لوقائع حية، ومن ثمّ فإنّ ما أنتج في تلك الحقبة سواء داخل أو خارج الوطن العربي يحتاج إلى إعادة توثيق. أمّا عما يكتب في الوطن العربي في مجال الأدب اليوم، فأراه إيجابيا خاصة في مجال الرواية لأنّ لها وضع خاص، فانتشار الرواية بهذه الكثافة في الوطن العربي في الجزائر وتونس وفي المشرق يدلّ على نضج، وهنا أريد أن أشير إلى أنّ الرواية التي تصل إلى العالمية هي تلك الملتصقة بواقعها ومتمسّكة بقواعد الرواية، وليست تلك التي تنتج بالفرنسية أو الانجليزية وتتنصّل من واقع مجتمعها .
رشيد بوجدرة : (روائي جزائري): الكتاب المتفرنسون بعيدونعن قضايا الوطن العربي من الطبيعي أن تكون مساندة الأدب العربي للثورة الجزائرية بتلك الغزارة لأنّها فرضت نفسها بقوة شعبها، لم يكن هناك شاعر عربي في ذلك الوقت لم يكتب قصيدة حول الجزائر ولا أديب إلاّ وخصّص مقاطع أو رواية كاملة للثورة الجزائرية. ولا أعتقد أنّ الأدب العربي يعيش حالة فتور وتخلّ عن قضايا وطنه الكبرى، فالقضية الفلسطينية مثلا يتناولها الأدب العربي بشكل وفير خاصة الشعر وهذا حتى عند الجيل الجديد من الشعراء، وحتى عن العراق... لدرجة المبالغة أحيانا، وهذا نوع من الهروب إلى الأمام، ممكن أن نجد هذا التراجع في الكتابة الروائية مقارنة بفترة السبعينيات التي شهدت بروز روايات كبرى اشتغلت حول القضايا السياسية في الوطن العربي كأعمال عبد الله منيف ...وغيرهم . ومن الطبيعي أن تصاحب الحروب والأحداث البارزة أعمال أدبية وفنية ليس فقط في الجزائر أو العالم العربي ولكن في العالم بأسره على غرار ما حدث مع أحداث 11 سبتمبر في أمريكا، وكذا ما يحدث في العراق، إذ أنتجت حولهما عدة أعمال أدبية وسينمائية. أمّا عن مدى التزام الأدباء الجزائريين الشباب بالثورة وبقضايا الوطن بشكل عام، فأعتقد أنّ المعربين يملكون موقفا سياسيا حماسيا تجاه مختلف القضايا، لكن الكتاب بالفرنسية بعيدون نوعا ما - وهذا ليس لوما - عن القضايا العربية الإسلامية لأنّ أنظارهم متّجهة نحو الغرب وخاصة فرنسا، فعندما أقرأ لبعض الكتّاب الشباب بالفرنسية ألاحظ وكأنّهم يكتبون لقرّاء فرنسيين أو غربيين، وكأنّهم ينتظرون اعترافا من وراء البحر رغم أنّهم ينشرون في الجزائر. وعن علاقة أدب الثورة بالأدب الاستعجالي فأنا أعتقد أنّ كلّ أدب هو أدب استعجالي، ومن أوجد هذا المصطلح مخطئ، فحتى الأدب الحميمي هو استعجالي، لماذا يكتب الكاتب؟ ليسجّل سواء حالة غرامية أو نفسية أو صراعا اجتماعيا ...أو حالة حرب أو مشاكل سياسية، لذلك فهو يكتب دائما تحت ضغط وعجالة، والأمر ليس مرتبطا بالأدب فقط وإنما بكلّ الأشكال الفنية الأخرى كالفن التشكيلي والسينما وغيرها ...وهذا لا يعني أنّ الأدب الجيّد مرتبط بالضرورة بمناسبة ولكن هناك مناسبات أو أقواس تستثير أقلام الكتاب وريشة الفنانين ...
نور سلمان: (باحثة لبنانية في الأدب العربي): التزام الأدب العربي بقضايا الأمة الراهنة ليس كافيا الثورة الجزائرية كانت مصدر إلهام كلّ الشعوب وكلّ حرّ وكلّ إنسان يحبّ أرضه، وقد أشرقت أقلام المبدعين بالثورة الجزائرية من شعراء وكتاب وصحفيين... الذين أبدعوا خيرة ما كتب في هذا المجال، والأدب الذي صاحب الثورة الجزائرية تخطى ضيق المناسبة بتمسّكه بقيم الحرية لذلك كان أدبا منطلقا ومنفتحا ولم يكن أدبا راكدا في حدود ضيّقة . كما أنّ الأدب العربي إلى يومنا مازال ملتزما بقضايا الأمة العربية رغم أنه بشكل غير كاف لكنّه موجود.
فوزية الزوباري : (باحثة سورية في الأدب العربي): ظننت جميلة بوحيرد ميتة الواقع أنّ الأدب العربي أعطى كثيرا للثورة الجزائرية شعرا ونثرا، خاصة الشعر، لا أتصوّر أنّ هناك طفلا في الوطن العربي لا يعرف شيئا عن الثورة الجزائرية وأبطالها، في الفترة الابتدائية كنا نحلم بلقاء أحد أبطال الجزائر عند سماع اسم من أسمائهم خاصة جميلة بوحيرد التي التقيتها في فرنسا خلال الثمانينيات ولم أصدق لأنّني كنت اعتقد أنها ميتة، وبقيت دقائق باهتا لما رأيتها أمامي بشكلها الجميل والقريب من القلب ولم أصدّق أنّها جميلة الرمز التي كنا نفتخر بها ونحن طلاب. وأقول إنّه لحسن الحظّ نملك أدباء وكتابا يخلّدون ويصاحبون معاناة وآلام الشعوب حتى تبقى حية في الأذهان، "أمل دنقل" مثلا الذي قضى حياته في النضال من خلال الكلمة الشعرية، خوّنوه واتّهموه بالعنصرية لأنّه دافع على حق الوطن وحقه في الحياة، وغيره من الكتاب وحتى الآن وفي كلّ لحظة، وإذا توقّف ذلك فإنّ" الحياة ستتوقف، فمن غير المعقول أن لا تخلّد الكلمة مثل هذه الأمور وإلاّ فماذا ستخلّد، لا شيء أثمن من الكفاح لأجل الحرية يخلد للأجيال. كما أنّ هذه الكتابات تبقى شاهدة على تلك الفترة، فما كتبه سليمان العيسى هو أكبر مثال تطبيقي لكون تلك الكتابات شاهدة عصرها سواء في تخليده لثورة الجزائر أو الفلسطينية ...وثورات التحرّر.
أنطونيوس بطرس : (دكتور في الأدب بجامعة لبنان) أكثر من 500 مقال عن الثورة الجزائرية في صحيفة " الواحدة "بلبنان وسائل الإعلام لها مضاء كالسيف ولها تأثير كبير على نفوس الشعوب وللقلم دور عظيم، فعروش الظلم ثبتت وصمدت سنين طويلة إلى أن قيد الله لها أقلاما دكّتها وسوّتها بالأرض، خلال مراحل التاريخ كان للمفكرين والأدباء والصحفيين دور بارز في إشعال الثورة في صدور الناس حتى تقاوم الظلم وتقهر المستعمر، والصحافة اللبنانية التي هي خبز اللبنانيين اليومي حملت على صفحاتها الضوء الذي أنار أمام الشعوب محبة الثورة والنضال من أجلها ليس في الجزائر فحسب وإنّما في كلّ البقاع العربية، وجعلت الشعب اللبناني والعربي يتعاطف مع الجزائريين ويشعر بأنّ الجزائري والحضرموتي اليمني والسعودي والعراقي والفلسطيني والأردني كأنّه شعب واحد وقضيته واحدة وهدفه واحد وهو الحرية . وقد بلغت المقالات المكتوبة حول الثورة الجزائرية من 1954 إلى 1962 ما يزيد عن 500 مقال في صحيفة "الواحدة" أي بمعدل 45 مقالا في السنة الواحدة، وتلك المقالات لم تكن مجرّد مقالات إخبارية فحسب وإنّما غلب عليها الجانب الوجداني، فتحوّل الصحفي فيها من كاتب صحفي عاد يحمل لغة مسطّحة يومية إلى كاتب وجداني مبدع لغته عمودية . وأعتقد بأنّ الأدب في الوطن العربي مازال محافظا على هذا التبني للقضايا العربية، ولو بوتيرة أخف والمواطن والمفكّر العربي بشكل خاص مصاب بالإحباط بسبب الحكّام، هذا الشعور بالإحباط جعل الأمور تتراجع قليلا نحو اليأس فنحن العرب نتطلّع لمستقبل أفضل لكن ما أن نخمد حريقا بجوارنا حتى تشتعل حرائق كثيرة في أمكنة متعددة فينتابنا الشعور بالعجز.
بديع صقور : (باحث سوريفي الشعر العربي): هناك إرث ثقافي وأدبي كبير حظيت به ثورة الجزائر دون غيرها الثورة الجزائرية هي الثورة الأولى في العالم التي حظيت بقصائد واهتمام الأدباء سواء عند أولئك الذين جايلوا وعايشوا الثورة حينما قامت في 1954 حتى الاستقلال أو الذين جاءوا بعدهم، فلم يبق أديب عربي سواء كان شاعرا أو قاصا أو باحثا أو ناقدا إلا وكتب وتمعّن في الثورة الجزائرية، لأنّ ثورة الجزائر كانت ثورة شعب بأكمله من أبناء البسطاء والطيبين الذين قاوموا بكلّ ما أوتوا من قوة كما لم تفعل غيرهم من الشعوب، فهناك إرث ثقافي وأدبي كبير حظيت به ثورة الجزائر دون غيرها، وأعتقد أنّ الأدب إذا لم يكن متابعا ومعنيا بقضاياه فلا معنى لوجوده و بالتالي فإنّ الأدب يولد من رحم الألم والحياة . . أما عن الفرق بين الأدب الاستعجالي وأدب الثورة فإنّ أدب الثورة مواكب ومعاصر لمرحلة ما لهيجان ما، لذلك فإنه حتى إذا سميناه بأدب استعجالي لكنه نابع من الصميم وكان له دوي أكثر من دوي المدافع، صور ورسم الحالة النضالية للشعب وحمل النبض لذلك ليس عيبا إذا سمي بالأدب الاستعجالي، وأكثر من ذلك يمكن اعتبار هذا الأدب كمرجعية أو سند تاريخي لتلك الفترة أكثر مصداقية من الكثير من الكتابات التي جانبت الحقيقة .