شيءٌ ما كان يتشكل في تلك الرحلة، في ذلك المشهد الذي تفر منه الذاكرة، لكنه يلاحق الذاكرة، دون هوادة، كأنّه يجرح عمقنا الخبيء، كما لا نريد أن نُشفَى منه، كأنه نحن، كأنَّه كلُّ الحكاية، ولا نبوح به، كأنَّه سرُّ الرواية، محاولةٌ للغياب، وزادُ المعاد، قوسُ دائرةٍ يبحث أوَّلُها عن أوّلِها ليكملَ ذاتَ الحضور شكلُ الغياب، هكذا كان الخروج، الخروج الغريب الأوَّل، الأوَّل الأوَّل، بكل تفاصيل الغموض وألوان شتات الانفعال، فالطرق تضيق في الوراء، وتتسعُ معها باحةُ الدار، ''وبئرٌ وصفصافةٌ وحصان، وعبّادُ شمسٍ يحدِّقُ فيما وراء المكان''، وأبي خجولٌ، يا أبي ماذا يقولُ ولا تقول حدّثتُه عنه فأومأ للشتاء، ودسَّ شيئاً في الرماد لا تعطِني حُبّاً، همستُ، أريدُ أنْ أهَبَ البلادَ غزالةً، فاشرحْ بدايتَك البعيدةَ كي أراكَ كما أراك أباً يُعلمني كتابَ الأرض من ألفٍ إلى ياءٍ.. ويزرعُني هناك لغزٌ هو الميلاد ينبتُ مثل بلوطٍ يشقُّ الصخرَ في عتبات هذا المشهد العاري ويصعدُ ثمَّ يَكسره السواد نخبو ونصبو تنهضُ الأفراس تركضُ في المدى، نكبو ونخبو فمتى ولدنا يا أبي ومتى نموت، فلا يجيبُ، هو الخجول والوقت ملك يديه يرسله إلى الوادي ويرجعه إليه وهو الحديقة في مهابتها البسيطة، لا يحدّثني عن التاريخ في أيامه: كنا هنا قبل الزمان وهاهنا نبقى فتخضرّ الحقولب، هو الاحتضان الخجول البعيد المفعم بالقرب والقلب، الصامت الناضح بالكلام، بلا كلام... طوال الطريق، عام ثمانية وأربعين، من البروة إلى لامكانٍ في القصيدة... أنت الذي خبّأت قلبك يا أبي عنّي فآوتني حياتي في ما أرى من كائناتٍ لا تُكوِّنُ كائناتي والآن تسحبني أبوتك القصيّةُ مِن يديَّ ومِن شتاتيب وهو سقف الحياة وسقف المساء وهذي السماء، وهو ما سأصيرُ إليه ليرضى، ويعرف أني فهمت الذي لم يقله، الذي قاله في الطريقِ إليه، وهو كلُّ المعاني، وأجوبةُ المسألة، مسلة كل البلاد وحامي نزيف العيون وبردٌ على كل نارِ، وهو شوق الوصول وعزة بوح الأماني، وضعف القصور، وهو الوصي على السنابل والحصان، وعلى الطيور، أنا قادمٌ حيّاً وميتا، يا أبي تَوَّاً، .. أتغفرُ لي جنوني بطيورِ أسئلتي عن المعنى؟ أتغفر لي حنيني هذا الشتاء إلى انتحارٍ باذخٍ؟ شاهدت قلبي يا أبي وأضعتُ قلبك يا أبي، خبّأته عني طويلاً، فالتجأتُ إلى القمر قل لي أحبك، قبلَ أن تغفو.. فينهمر المطر'' وهو ''أبد الصُّبّار'' يطوي على شوقِه شوقَه، ولا نتحَ فيه، ويعصرُ ما فيه من ماء فيه، ويُنبتُه شوكةً شوكةً يتجدّدْ، ودمعُ الضلوع يَهيجُ قصيداً ويُكمِلُ دورتَه في النشيد، فلا يتبدّدْ، ولْيتسرَّبْ ما زاد عن قدرة الروح دمعاً، في دمع أمّي، رغم أنّي أعشقُ عمري، لأنّي إذا مِتُّ أخجلُ من دمع أمّي''، - إلى أين تأخذني يا أبي؟ - إلى جهة الريح يا ولدي ... وهما يخرجان من السهل، حيث أقام جنود نابليون تلاً لرصد الظلال على سور عكّا القديم يقول أبٌ لابنه: لا تخف. لا تخف من أزيز الرصاص، التصق بالتراب لتنجو - ومَن يسكنُ البيتَ مِن بعدنا يا أبي؟ - سيبقى على حاله مثلما كان يا ولدي'' إنها تلك الرحلة الأولى الغريبة، الغريبة الغريبة، تعبَتْ رأسُ الفتى الناظرة إلى الأعلى، إلى وجه أبيه، وتعبَتْ روحُ أبيه من طفولة محرجةٍ في الأسئلة: - لماذا تركتَ الحصان وحيدا؟ - لكي يؤنِسَ البيتَ يا ولدي فالبيوتُ تموتُ إذا غاب سكانُها'' صاعدين إلى الشمال، ''سننجو ونعلو على جبلٍ في الشمال، ونرجعُ حين يعودُ الجنودُ إلى أهلهم في البعيد'' لم تكن رحلةً في الجغرافيا فقط، من حيفا أمام المشهد الحربي، ولم تكن البداهة تحتملُ مفارقات الرحيل، لكنها كانت تترجمها طفولةً، هي كل القضية، وتشربها خطوةً خطوةً، لتصبح كل الطريق، أبٌ يتكتم أحزانه ويهذي كلاماً كلاما: السنابل مثقلةٌ، والمناجلُ مهملةٌ، والبلاد تبتعدُ الآن عن بيتها النبويّ، يحدّثني صيفُ لبنان عن عنبي في الجنوب يحدّثني صيفُ لبنان عما وراء الطبيعة لكنَّ دربي إلى الله يبدأُ من نجمةٍ في الجنوب - هل تكلمني يا أبي؟ - عقدوا هدنةً في جزيرةِ رودس يا ابني - وما شأننا نحن، ما شأننا يا أبي؟'' كانت يده المشدودة إلى يد أبيه، حبلاً سريّاً يرشح بالمجهول والسؤال ويسأل الأمان للدار والحصان، وتقطرُ فيه جرحَ الروح، وتماسُّه برعشِ روح الروح، - هل سنبقى، إذن، هاهنا يا أبي تحت صفصافة الريحِ بين السماوات والبحر؟ - يا ولدي كلُّ شيءٍ هنا سوف يشبه شيئاً هناك سنشبه أنفسَنا في الليالي ستحرقُنا نجمةُ الشبه السرمديّةِ يا ولدي - يا أبي خفّف القولَ عنّي - تركتُ النوافذَ مفتوحةً لهديل الحمامْ تركتُ على حافّةِ البئرِ وجهي تركتُ الكلامْ على حَبلِه فوق حبلِ الخزانةِ يحكي، تركتُ الظلامْ على ليلِه يتدثَّرُ صوفَ انتظاري تركتُ الغمامْ على شجرِ التين ينشرُ سروالَه وتركتُ المنامْ يُجدِّدُ في ذاتِه ذاتَه وتركتُ السلامْ وحيداً هناك على الأرض - هل كنتَ تحلمُ في يقظتي يا أبي؟ - قم. سنرجعُ يا ولدي'' شيءٌ ما كان يلد في تلك الرحلة، الذهاب والإياب، ذلك المشهد الذي حملته الذاكرة، ممزوجاً بهيبة الأب وذلك العميق في خبءِ الروح الذي لا يقبلُ القسمة، لأنه جوهرُ الأنا، ولا يقبلُ المساس، لأنه كلُّ الأنا، كلُّ الكرامة... فكيف حين يكون الأمر متعلقاً بالأب - هل تعبتَ من المشيِ يا ولدي، هل تعبت؟ - نعم يا أبي طالَ ليلُك في الدرب، والقلب سال على أرضِ ليلكَ - ما زلتَ في خِفّةِ القطِّ فاصعدْ إلى كتفَيَّ، سنقطعُ عمّا قليلْ غابة البطمِ والسنديان الأخيرة هذا شمالُ الجليلْ ولبنانُ من خلفنا والسماءُ لنا كلُّها من دمشقَ إلى سورِ عكّا الجميلْ'' هو خيطُ الطريق إلى البيت، الطريقِ الطويل، الطويل الطويل، ''وهل تعرفُ الدربَ يا ولدي؟''، هو الدرب كلُّ المنافي وكلُّ السفر، وكلَّ القصائد، كلَّ الحياة، وفَلَكُ الأسئلة، من حبّةِ القمح إلى درب الجلجلة... درب آلام الأب، والذي ظلَّ يقطعه بإصرار، وظلَّ هاجسَه المسكوتَ عنه، لأنه وقود القصيدة، ولو تنفس خارج إيقاعها لما كانت، يكبرُ ويكبرُ معه، يكتبُ ويكتبه معه يصحو ينامُ معه، ويُطوِّرُ أدواتِ نصِّه معه، ويسكنُ في المجازِ معه، ويذهبُ في ال ماوراءِ إليه، الطريقُ إلى البيت أصبحَ كلَّ الطريق، قطعه مرتين، وفي المرتين لم يصلْ، وفي المرتين وصل، درب آلامِ الأب التي لم يَبُحْ بها أبداً، لأنّ مهابة الأب أكرمُ مِن أنْ يُفصحَ عنها، ولكنها ربما كانت حاديةً، ومُكَوَّرَةً من أوّلِ قوسِ الدائرة إلى أوَّلِ قوس الدائرة: - وهل تعرفُ البيت يا ولدي؟ - مثلما أعرفُ الدربَ أعرفُه'' وسأسيرُ إليه، بكلِّ إيقاعِ قصيدتي، ''ياسمينٌ يُطوق بوابةً من حديد، وعبّادُ شمس يُحدِّقُ في ما وراء المكان''... ''وفي باحة البيت بئرٌ وصفصافةٌ وحصان.. وخلفَ السياج غدٌ يتصفّحُ أوراقنا...''، ولا أريدُ لهذي القصيدةِ أن تنتهي... يا أبي... - يا أبي هلْ تعبتَ أرى عَرَقاً في عيونك؟ - يا ابني تعبتُ.. أتحملُني؟ - مثلما كنتَ تحملُني يا أبي، وسأحملُ هذا الحنين إلى أوَّلي وإلى أوَّلِه وسأقطعُ هذا الطريقَ إلى آخري.. وإلى آخِرِه''