منذ أيام عرفت أعالي باب الوادي بالعاصمة، وتحديدا حي مناخ فرنسا ببلدية وادي قريش، احتجاجات كانت حصيلتها عشرات الجرحى بين رجال الأمن والمواطنين، وكانت هذه الاحتجاجات جراء إقدام السلطات على هدم بعض الأكواخ والبيوت القصديرية·· ''الجزائر نيوز'' التقت أهالي هذا الحي واستمعت إلى الهموم التي فاضت بهم ورمتهم إلى الشارع·· لا نعرف إن كان من سوء الحظ أو من حسنه أن تسبق زيارتنا إلى حي مناخ فرنسا الاحتجاجات التي عرفها بوقت وجيز، وهو الأمر الذي جعلنا في حيرة كبيرة في الطريقة التي يمكن أن نخط بها كلماتنا، لأن عملنا كان عن انتشار الأكواخ والبناءات الفوضوية في هذه المنطقة، وهو أمر ذو حدين، فمن جهة عندما ترى النشاز الذي تخلفه هذه البنايات على الشكل المعماري للمنطقة ترغب في إزالتها فورا، ومن جهة أخرى حين تدخل تلك البيوت وترى ظروف ساكنيها ولماذا يقبلون العيش في هكذا شروط، تعرف أن السلطات تأخرت، بل تأخرت كثيرا في هدم تلك البيوت، لكن لاستبدالها بحياة كريمة تحترم من خلالها المواطن وليس لترمي به في الشارع· بين ''ارسو'' و''شوفالي''··· عائلات تعيش في غرفة واحدة منذ 20 سنة يعتبر شارعا ''ارسو'' و''شوفالي'' اللذان يُعرفان بين أبناء حي مناخ فرنسا باسمي ''السوق الصغير'' و''السوق الكبير'' من أهم المناطق بهذا الحي الكبير والأكثر كثافة سكانية، حيث تعيش بهما حوالي 600 عائلة، معظمهم من الأبناء الأصليين للحي، أي الذين ولدوا به، واضطروا للاستقلال عن الأسرة الكبيرة التي لم تعد الشقق تسعها بعد زواج كل الأبناء، وهو ما اضطرهم للبحث عن حلول على أسطح العمارات أو في أقبيتها، وانجر عنه وضع مزر يعيش فيه البعض منذ أكثر من عشرين سنة، مما جعل حتى الحلم في تغيير هذا الوضع يبدو مستحيلا· أثناء تجولنا في الحي، التقينا بالسيد ''محمد'' أو ''عمي موح'' كما يناديه الشباب هناك، الذي حدثنا عن حياة المواطن بمناخ فرنسا قائلا ''هذه السكنات كانت في عهد الاستعمار ثكنات عسكرية، وبعد الاستقلال تحولت إلى شقق للمواطنين، وهي كما ترون تتكون من غرفة واحدة وعلى الأكثر غرفتين ونحن نعيش فيها منذ أكثر من 30 سنة، ومع الاكتظاظ الذي تعرفه تحولت إلى محتشدات، وأصبحت قنوات مياه الصرف تفيض علينا، والوضع الصحي لمعظم من يعيشون هنا أكبر دليل على ما نعيشه من مشاكل القرون الوسطى؟''· تتكون عمارات حي مناخ فرنسا من خمسة طوابق، لكن الأقبية والأسطح تحولت أيضا إلى سكنات، وهي تشكل خطرا حقيقيا على سكانها لانتشار الجرذان والحشرات بشكل ملفت، بالإضافة إلى افتقارها للنوافذ خاصة بالنسبة إلى تلك الموجودة بالأقبية· الحياة في الغرفة التي جعلتها الستائر شقة؟ عائلات مناخ فرنسا تخضع للمفهوم التقليدي في الإنجاب، فمعظمها تتشكل من أفراد كثر، حيث تتشكل أقل عائلة من 6 أفراد، وهناك بعض العائلات التي بلغ تعداد الأفراد بها 17 فردا، والغريب أن كل هؤلاء يعيشون في غرفة واحدة، لكن الحاجة أم الاختراع، ولذلك ابتكر سكانها حلولا ليشعروا أنهم يعيشون في شقق يتمتعون فيها ببعض الخصوصية، حيث تقول السيدة ''مريم''، وهي أم لعشرة أطفال، كانت تسكن في القصبة وبعد الاستقلال انتقلت إلى وادي قريش، تقول ''نضطر إلى تقسيم الغرفة بالستائر أو بألواح خشبية لنعطي بعض الخصوصية لأبنائنا، فبعد أن كبروا بات صعب على البنات النوم أو تغيير الملابس أو حتى الجلوس بحرية في وجود إخوتهم، وأنا ووالدهم ننام في المطبخ، وفي الأعياد والمناسبات ننزع جدران الفصل تلك ليتسنى لنا الجلوس براحة واستقبال الضيوف''، تضيف السيدة ''مريم'' بمرارة ''هذا الوضع اضطر أولادي للعمل في مواقف السيارات، فينامون في الشارع وعندما يدخلون يخرج إخوتهم الباقون في الليل بالمنزل، وهكذا ينامون بالتناوب''· أكثر من 300 عائلة تعيش فوق أسطح البنايات قدرت آخر الإحصائيات التي قامت بها بلدية وادي قريش، عدد العائلات التي تعيش في بيوت قصديرية فوق البنايات المتواجدة بحي مناخ فرنسا بأكثر من 300 عائلة، وكما سبق وأشرنا أن معظم هؤلاء أرغمهم ضيق سكنات العائلة على استغلال أسطح العمارات وبناء بيوت تفتقر لأبسط الشروط الصحية، وذلك بتحويل الغرف المخصصة إلى الغسيل على أسطح البنايات ويضاف إليها غرفة ومرحاض لتصبح ''شبه شقة''· وأدى انتشار هذه الظاهرة إلى احتلال أغلبية البنايات المتواجدة بالحي، وبلغ عدد العائلات على الأسطح سنة 1990 حوالي 150 عائلة، في الوقت الذي تضاعف العدد الآن عدة مرات، وهم يحتلون حوالي 2000 متر مربع بطرق فوضوية وغير شرعية ولكنها اضطرارية في ظل تفاقم أزمة السكن· حدثنا أحد سكان الأسطح (س· ع) قائلا: ''كنت أعيش مع العائلة في قبو وكنا نعاني من قاذورات الجيران التي تقطر علينا حتى في المطبخ، ونضطر إلى التصليح في كل مرة، ولذلك عندما قررت الزواج ولم أجد مكانا أعيش فيه، رفضت عيشة القبو وقررت أن أبني فوق السطح والآن لدي ولدين، وقد وافق كل سكان العمارة على البناء ووقعوا لي على تعهد بعدم التبليغ أحتفظ به عندي، إلى أن يفرج الله علينا وخلاص''· البناءات الفوضوية تطال حتى المساجد لم يقتصر البناء الفوضوي على أسطح البنايات، ففي الفترة الأخيرة زادت هذه الظاهرة، حيث تم البناء في كل الحدائق والمساحات الخضراء وغير الخضراء المتوفرة، وحسب السكان فإنه منذ حوالي السنة تم البناء في الحديقة المقابلة لمسجد النور، فأصبحت الآن عبارة عن بيوت قصديرية تفتقر للحماية والأمان وتعيش بها حوالي 60 عائلة في ظروف صعبة بسبب هشاشة هذه المنازل، وتسرب مياه الأمطار خاصة في فصل الشتاء، وارتفاع درجة الرطوبة والانتشار المخيف للقاذورات والأوساخ في المحيط، وهو ما يجعل حياة هؤلاء السكان خاصة الأطفال منهم في خطر كبير· وحسب شهادات عدد كبير ممن التقيناهم في مناخ فرنسا، فإن البناءات الفوضوية في تزايد بشكل أصبح يهدد سلامة الجميع خصوصا في ظل الانتشار الملفت للجريمة وتجارة المخدرات واستعمال العنف، فحسب السكان شهد حي ''ارسو'' منذ فترة وجيزة اقتحام مجموعة من الأشخاص حديقة إحدى العمارات، رغم محاولات اعتراض صاحب المنزل الذي يعيش في الطابق الأول الذي تعرض للضرب من طرفهم· المخدرات الشبح الحقيقي لمناخ فرنسا··· اشتكى معظم من التقيناهم أثناء جولتنا بمناخ فرنسا من الانتشار الكبير لتجارة المخدرات، والتي انجر عنها تفاقم ظاهرتي السرقة والاعتداءات، فقد أصبحت -حسبهم- تجارة المخدرات تتم علنا، في الوقت الذي لا يمكن للسكان تحريك ساكن، خصوصا وأن المخدرات أصبحت مهنة أغلب شباب الحي لضمان الربح السريع، لكن أحد شباب الحي يقول أنه لا يمكن الاستغناء عن هذه السموم، لأنها تجعله ينسى معاناته؟ في حين قال آخر ''هي الحل الوحيد الذي يخرجنا من الضيق إلى الوسع''، ورغم أننا لم نفهم عن أي وسع يتكلم هذا الشاب في ظل الانفعال الذي كان يتحدث به، إلا أن الشاب (ع· د) أكد لنا ''أعرف أنني مخطىء وأخاطر بحياتي وحياة غيري، لكنني لا أستطيع التخلي عنها، فهي تجعلني ملك زماني''· هذه الاعترافات الخطيرة للشباب حول التعامل مع هذه السموم هي أكبر تأكيد على خوف سكان مناخ فرنسا من انتشارها، واتساع رقعة استعمالها بين شباب الحي· السرقة·· لتحقيق التوزيع العادل للثروات؟ يعتبر العمل بمواقف السيارات الليلية بوادي قريش أو باب الوادي، أكثر المهن انتشارا بين شباب حي مناخ فرنسا، ليتسنى لهم السهر طوال الليل والنوم في النهار، وفي نفس الوقت فإن فئة كبيرة من الشباب ممن لم يتسن لهم الشغل في هذا المجال، يلجأون إلى السرقة ليتمكنوا من العيش، حسبهم، ومن بين هؤلاء شاب يبلغ من العمر 30 سنة، دخل السجن أكثر من مرة، يقول ''أنا أحمل 200 دينار في الجيب وغيري يحمل هاتفا آخر طراز وسيارة آخر طراز، فلماذا لا آخذ منه شيئا لتحقيق بعض المساواة، أعتقد أن هذا عدل؟''، التجول في مناخ فرنسا يجعلك تستمع إلى بعض الأفكار الغريبة، وترى وجها لمجتمع مسحوق بات يصلح وضعه بأخطاء فظيعة، كالشاب الأخير الذي ضيع سنين طويلة من حياته في السجن، لكنه ما يزال مقتنعا بأن السرقة هي عملية توزيع عادل للمال؟ في ظل هذه الظروف وهذه القناعات المخيفة، يبقى سكان شقق مناخ فرنسا وأسطحها وأقبية عماراتها يعيشون خارج حدود الحياة وينتظرون انتشالهم من هذه الظروف رحمة بهم وبغيرهم··