هناك ايقونات كثيرة رافقت ''ربيع الثورات العربية''، منذ بدايتها في تونس وحتى الآن، ولعل ''قناة الجزيرة'' بكل ما قيل عنها وحولها مثلت إحدى تلك الايقونات سواء من حيث إفرادها الشاشات للنقل المباشر أو حتى -الحصري أحيانا- أو من حيث استضافتها لأكبر قدر ممكن من الضيوف والمحللين بالإضافة إلى فتح الاتصالات لشهود العيان (والمراسلين غير الرسميين) فضلا عن الضيفين الدائمين لها في كل ''ثورة جديدة'' وهما الشيخ يوسف القرضاوي والمفكر العربي عزمي بشارة·وقد لاحظ مشاهدو القناة القطرية، أن الأستاذين سابقي الذكر قد لقيا احتراما كبيرا، نظرا لإنحيازهما لصوت الشارع على حساب أصوات الأنظمة النشاز، الأمر الذي كاد أن يعتبر ضمن ''ايقونات الثورات''، فما أن يطل ''بشارة'' إلا وتذكّرنا الخطاب الأخير لزين العابدين وهروبه في ذات جمعة من شهر جانفي الماضي، كما يرتبط أيضا بشارة لدينا بخطاب مبارك الأخير، وهو يبشرنا بالرحيل وانتهاء ''الماتش'' الذي جعلنا نطرب لسماعه، حتى ولو اختلف الخطاب لاحقا مع تلك الصورة كذلك الشيخ القرضاوي الذي أفتى بمناصرة كل تلك الثورات من تونس إلى ليبيا، مطالبا الشعوب بالصمود في ثوراتهم و''الحكام'' بالتخلي عن السلطة أو مبيحاً دمائهم، كما هو الحال بالنسبة ''للقذافي''· إلا أن تلك الصورة بدأت الآن كما يبدو في ''الأفول''، حيث خرج علينا عزمي بشارة في برنامج عنوانه ''حديث الثورة'' مع علي الظفيري بقناة الجزيرة، ليؤكد أن ما يحدث في سوريا ''ليس بثورة'' ولا يحزنون، إلى هنا قد يبدو مجرد تقييم أو تقدير لما يحدث، ويمكن تفهمه إلا أن يؤكد الدكتور بشارة: أن الإطاحة بالنظام السوري غير مطروحة تماما من قبل المتظاهرين ثم يردف بالقول: أن النظام في سوريا في حاجة إلى الإصلاح لا الإطاحة لا التغيير''، وهو ما يعني أن الدكتور عزمي قد تقمص هذه المرة دور الأنظمة الاستبدادية التي دوما تقول إن ''الشعوب بحاجة إلى إصلاح وسوف نعتني بذلك'' تماما كما يفعل بشار الأسد الآن·· أو كما قال بن علي ''لقد فهمتكم'' وسوف أصلح الأمر·· تحليل الدكتور بشارة في هذه اللحظة لا يختلف كثيرا عن ذلك، أما دوره في تجاوز ذلك الأمر عندما يسمح لنفسه للتأكيد نيابة عن السوريين ''انهم لا يريدون إسقاط النظام بل إصلاحه'' وهو بالفعل تجاوز غير مقبول عندما نشاهد عبر كل شاشات الأخبار أن ''الثوار'' في درعا يرفعون لافتات ''الشعب يريد إسقاط النظام'' ، ثم يُقدمون على حرق صور الرئيس بشار الأسد وتحطيم تمثال والده حافظ الأسد وحرق وتدمير مقرات حزب البعث الحاكم إلى غيرها من الإجراءات الصريحة والواضحة والمطالبة بإسقاط النظام· إلا أن الدكتور بشارة يأبى إلا أن يبشرنا ''بدور جديد للرئيس الجديد/ القديم'' بشار الأسد وأنه قادر على الإصلاح والإنتقال بسوريا نحو الديمقراطية، في الوقت الذي يعرف فيه جيدا أن هذا النظام الذي حكم البلاد منذ 44 عاما بالحديد والنار، وفي سابقة أولى في تاريخ الأنظمة الجمهورية العربية، وَرَّث الحكم لإبن الزعيم الذي تم تعديل الدستور لأجل عيونه خلال نصف ساعة من أجل أن يتكيف الدستور مع سن ''الوريث''، الذي رأى النظام أن لا أحد مثله على امتداد الجمهورية العربية السورية· هذا النظام نفسه بقيادة ''الوريث'' غير الشرعي بقي في الحكم 11 عاما دون أن يتقدم قيد أنملة نحو الإصلاح الحقيقي، بالرغم من أنه جاء محمولا على شعارات زائفة حول ''الحداثة والإصلاح والديمقراطية'' إلا أن سجل ''الشام'' في تقارير حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية يندى له الجبين، فكيف لمن أكد أنه ليس سوى ''ظلاً'' لحكم والده خلال عقد من الزمن أن يتغير في لحظة ليصبح هو ''الضمان الأكيد للديمقراطية والإصلاح''؟!· وفق التحليل الذي بدأ يسوقه ''الدكتور بشارة'' مؤخراً عبر قناة الجزيرة، خلافا لكل التحليلات الرصينة التي تعودنا أن نسمعها منه، في الحالات السابقة، كتونس ومصر وليبيا واليمن·· لتأتي الحالة السورية وتخلط أوراق المفكر عزمي لصالح أوراق السياسي بشارة وتحالفاته الإيديولوجية والبراغماتية· بل أن الدكتور تبرع بالتبرير لعدم إقدام الأسد (الابن) على الإصلاح في السابق لإنشغاله بالمواجهات الخارجية· بل أن الأمر تجاوز ''الحالة موضع الدراسة'' ليصل الدكتور بشارة إلى خلاصات عامة يمكن أن تنطبق حتى على الحالات الأخرى التي استرسل المفكر في تشخيصها بشكل مناقض تماما، كقوله في تقريب الحالة السورية لمنطقه: أن مصدر قوة أي دولة هو ''التماسك والرضا الإجتماعي''، ولا أدري ماذا يمكن أن تسمى الديمقراطية إذا لم تكن تماسكاً شعبيا لأنها المعبر عن رضا الأغلبية، إلا أن الدكتور يعلم صعوبة استخدام مفردة ''الديمقراطية'' مع الحالة السورية فقام باستعواضها بمفردة أخرى تبدو غامضة ويمكن أن تضلل المشاهد·· خاصة وأنها أتت مطعمة بعبارات ''المقاومة'' والموقع الاستراتيجي لسوريا وهويتها القومية، وعلاقتها بالقوى الممانعة إلى غيرها من العبارات التي ليس لها أي ترجمة حرفية على الأرض، فالمعلوم أن سوريا ومنذ أكثر من 38 عاما لم تطلق رصاصة واحدة في وجه إسرائيل التي تحتل أراضيها، ولم تقدم مشروعا قوميا واحدا التف حوله العرب· دون أن نتحدث أن سوريا الديمقراطية ستكون أكثر استعدادا للمقاومة القوية والمحصنة شعبيا، من سوريا التي يحكمها حزب واحد مستبد بنص دستوري·· منذ أكثر من 44 عاما·