القاهرة من 02 / 19 إلى 2011 / 3 / 23 في ميدان التحرير الذي أصبح اسمه ميدان الشهداء، ولدت مصر الجديدة· اجتمع شباب مصر، قالوا لا للطاغية، لا للفساد، لا للتوريث، لا لهذا التراث الذي صنعه مبارك مع ثلة ممن أوصلوا مصر إلى ما وصلت اليه· قبل 52 يناير كانت مصر مرتهنة، لم يكن لهذه الأجيال من اسم، بعد 52 يناير أصبح لهؤلاء الشباب اسم، أصبح اسمهم مصر، مصر التي جمعتهم في رحم ميدان الشهداء، في رحم القاهرة وفي رحم كل مدينة وقرية· وكانت الولادة الولادات، بعد ما يزيد عن العقود الثلاثة، عرفت مصر خلالها ما يزيد عن الثلاثين حالة اجهاض، وها أن الشباب اليوم قد حققوا الحلم· مبارك اسقط، حكومته أسقطت، مجلسا الشعب والشورى تم حلهما، جهاز أمن الدولة تم حله· إن التراث الذي بناه مبارك يتم تفكيكه تدريجيا· وكأننا في حلم، وأي حلم، هذا الرئيس الذي حكم مصر ثلاثين عاما ويزيد، أراد توريث السلطة لأبنائه، وهم الذين شاركوه في الحكم، وفي اتخاذ القرار، خاصة ابنه الذي كان يسعى لتوريثه، جمال· هذا الرئيس أسقطه الشعب، أسقطه الشباب، هل نصدق ما نراه وما نسمعه؟ ثمة من أعيد له الاعتبار في أكثر من بلد عربي، ثمة من تم تجاهله وإهماله من عقود، ثمة من قال لا، إنه الشعب الذي استيقظ·· مصر قبل 25 يناير شيء، وبعد ذلك التاريخ شيء آخر، الأولويات برمتها اختلفت، أصبح هناك رأي عام، الرأي العام الذي تم اضطهاده طويلا، والذي تم تجاهله، أصبح هناك من ينتقد ويسأل، من يقول لا·· من يشير وينتقد حالات الفساد، ويعدد الأسماء·· من يطالب بإسقاط الفاسدين الذين اغتنوا كأفراد، وأضعفوا الشعب المصري، كل الشعب· أصبح هناك عدو، كان هناك من لم يسمح بأن يقال عنه عدو، إنها إسرائيل وأمريكا الذي رفض الثوار استقبال مبعوثة خارجيتها·· أصبحت مصر عنوانا للحرية، للكرامة، لم يعد الفلسطينيون أعداء، لم تعد أمريكا وإسرائيل صديقتين، أصبح للعرب أم شرعية· قبل 25 يناير لم يسمح لأحد بالتكلم عن حقوق الشعب المصري، ممنوع على المصريين أن يسألوا لماذا ضعفت مصر، بل لماذا أصبحت مصر في مصاف أكثر الدول تخلفا، الآن الشعب الذي لم يعترف به النظام يطالب بحقوقه، يقول عذرا وعفوا، لمصر·· ثلاثون عاما ومصر في غياب، وكأن ترداد كلمة مصر في الذاكرة الجماعية للشعب اليوم، ليس من دلالة إلا بأنها كانت الغائبة في حضورها، وقد عادت إلى أهلها·· حسني مبارك، ومنذ ما يزيد عن العقدين، لم يجدد شيئا في حياة مصر، فالقاهرة ذاتها لم تزفت شوارعها منذ عقود، كما لم يتم رصف أرصفتها، ولم تنظف شوارعها كما يجب، ولم تتجدد بنيتها التحتية، ولم يصار للاهتمام بإنارة شوارعها·· فضلا أن ما يحيط بالقاهرة من تجمعات بشرية عشوائية، لم يتم التعامل مع قاطني هذه المناطق وحل مشاكلهم، لقد استعملوا كمستودع احتياطي يتم التخويف منه لكل المعارضين للنظام·· هذه الأماكن لن تكون إلا قنابل موقوتة بوجه كل الحكومات المقبلة، هذا إذا لم يتم معالجة مشاكلها وأوضاعها سريعا· هذا المستودع البشري لم يفكر النظام بأية معالجات فعلية للمشاكل المتراكمة فيه، خاصة لعدم وجود بنية تحتية من صرف صحي إلى غير ذلك من إمدادات لشبكة المياه والكهرباء والغاز وغير ذلك· كذلك عدم وجود مدارس ومستوصفات وأيضا خدمات لرفع النفايات، لذا، تبدو حياة هؤلاء السكان وكأنها حياة مؤقتة، بل أن وجودهم ذاته ممسوك من النظام· هؤلاء الملايين كانوا ولا زالوا إذا لم تعالج مشاكلهم سريعا مركونين للتصفيات المتلاحقة، وكأن هناك مخطط لتقصير أعمارهم، وما المعنى من محاصرتهم بكل أنواع النفايات والميكروبات، إذا لم يكن المقصود هذا الأمر؟ إنهم محاصرون بالبطالة وبالجوع والأمية والخوف واليأس والإهمال·· القاهرة كما محيطها، كما مدنها المختلفة ليست أفضل حالا مما هي عليه هذه المناطق العشوائية··· إن هذه العشوائيات هي أمكنة لوجود بشري مؤقت، لموت مؤجل، إنها أقرب ما تكون إلى مقابر جماعية· في مصر وفي أمكنة متعددة من المدن المصرية يجتمع الشباب ليبحثوا أمورا تتعلق بتحقيق مطالبهم وفي الكيفية التي عليهم أن يتبعوها تنظيميا لتحقيق أهدافهم· كما أنهم يطرحون خياراتهم للنقاش، وفي لقاءات عديدة معهم تلمس تلك البراءة والعفوية والطيبة كما تلمس هذه المثالية والشفافية في التعامل بين بعضهم ومع غيرهم· إنهم بالتأكيد جزء من مكونات المجتمع المصري، وإن كان هناك التباس في تحديد موقعهم· إذ أن أكثرهم ليس له موقع وظيفي·· كما أن هناك رأيا يطرحه البعض منهم، المطالبة بعقد اجتماعي يرسم منه المجتمع علاقاته مع ممثليه، خاصة لجهة التناوب على السلطة والاعتراف بدور وكفاءات هذه الشريحة، وإعادة المعنى لوظيفة الدولة في علاقاتها بالشأن المجتمعي، فهي الراعية للشأن الصحي والاجتماعي والتربوي ورعاية المسنين· إن هؤلاء الشباب المشاركين في الثورة والذين ينتمون لطبقات اجتماعية متعددة، هم ممن لا يعرف أحدهم الآخر، بل إن ما جمعهم هدف وحيد، إسقاط النظام، هؤلاء الثوار كانوا دون تحقيق هذا الهدف دون مستقبل، إلا أنهم بعد نجاح ثورتهم أصبحوا كل المستقبل·· لقد كانت مواقع الفايسبوك والرسائل النصية وغيرها من وسائل التواصل أسلحة فعالة بين أيديهم، وهم ذاتهم كانوا عنوانا للثورة المشتعلة ولا عجب فهم يمثلون في مصر 60% من الخريطة البشرية، ومعظمهم ممن لم يتجاوزوا ال 25 عاما· استعملوا في بداية نزولهم للميدان البيانات المطبوعة للتعريف بمطالبهم ومن ثم كانت لديهم منشورات وصحف يومية، تلا ذلك إذاعة، كانوا عبرها يوجهون نداءاتهم للجماهير وللتعريف بحركتهم وتصريحاتهم· كذلك أغانيهم ونكاتهم· لقد رسم عيد عبد الحليم المشهد فقال: لكل ثورة خطابها الإبداعي الذي يتسم في بدايته بطابع فطري يواكب ما يعتمل في صدور الثائرين وحناجرهم من الدعوة إلى الحرية بمفرداتها المتعددة وقيمها السامية· إذا كانت ثورة 25 يناير فريدة في نوعها، لأنها استمدت شرعيتها من كونها ''ثورة شعبية'' شارك فيها جميع أبناء الشعب بطوائفهم وتياراتهم السياسية المتعددة، فالثورة أيضا على المستوى الإبداعي الموازي اتسمت بمصرية خالصة، في الهتافات والأغاني، وأعادت كذلك روح الدعابة والسخرية التي اشتهرت بها الشخصية المصرية على مر العصور وافتقدتها في الثلاثين عاما الماضية، وهذا ما رأيناه من عودة ما يسمى ب ''النكتة السياسية'' التي تقوم على النقد السياسي والاجتماعي بطريقة رمزية وإشارية مغلفة بحس ساخر عميق· وقد ظهر في ميدان التحرير ''نشيد'' ردده بعض الشباب أسموه ''نشيد الأجندة'' يسخرون فيه من أكاذيب وإدعاءات الإعلام الرسمي الذي أراد النيل من الثورة تقول كلماته: أنا مندس··· أنا مندس هات لي أجندة ووجبة وبس مش هارديز أو كنتاكي هات لي وجبة دينربوكس أو سور زنجر من غير خس هات لي أجندة من الفجالة أعمل بيها ثورة في مصر أنا مندس··· أنا مندس وكل الشعب كمان مندس كل الناس مش عايزينك وانت يا حسني مش بتحس كل فضايحك·· كل جرايمك كله موجود على ويكليكس أنا مندس··· أنا مندس عندي أجندة مستر إكس وعلى مستوى الأغنية الوطنية فقد ظهرت مجموعة من الأغاني، جاءت على ثلاثة مستويات: المستوى الأول: عن شهداء الثورة، والثاني التأكيد على وحدة الشعب والجيش، والثالث: الإشارة إلى أن المرحلة القادمة هي مرحلة العمل والبناء· من الأغاني المهداة إلى شهداء الثورة أغنية ''أنا الشهيد'' كلمات وليد جودة وغناء وألحان وليد سعد، وتقول كلماتها: ''أنا اللي طول عمري ما قلتش لأ: / دخل الرصاص قلبي / وقلبي أنشق / ولما قلت فجأة لقيت باموت / مبسوط عشان الحق / أنا الشهيد كان اسمي فلان / مصري ومصر الأصل والعنوان / وصورتي آهة مرفوعة في الميدان / بإيدين مني ومينا وعبد الحق / أنا لحد ما كنت باموت / كنت باشتكي مابينسمع لي صوت / والظلم ياما فوق دماغي دق''·· ومنها كذلك أغنية ''يا بلادي يا بلادي'' ألحان وغناء غريد الشافعي بالاشتراك مع رامي جمال تقول كلماتها: ''يا بلادي يا بلادي / أنا بحبك يا بلادي / قولوا لأمي ماتزعليش / وحياتي عندك ما تعيطيش / قولها ما علش يا أمي / أموت أموت / وبلدنا تعيش / أمانة تبوسوا لي إيديها / وتسلموا لي على بلادي / في جسمي نار ورصاص وحديد / علمي في إيدي واسمي شهيد / بودع الدنيا وشايفك يا مصر حلوة ولابسة جديد'' وهذه الأغنية تنويع فني على أغنية لحنها الموسيقار الراحل بليغ حمدي في نهاية الستينيات· أما أغنية ''شهداء 25 يناير'' كلمات ملاك عادل وألحان وغناء حمادة هلال فتقول كلماتها: ''شهداء 25 يناير / ماتوا في أحداث يناير / راحوا وفارقوا الحياة / شهداء لازم نتباهى بيهم / وكمان مبروك عليهم الجنة والسما''· ومن الأغنيات التي أكدت على تماسك الشعب المصري وقت الثورة أغنية ''الله حي'' كلمات مدحت العدل ومنها ''الله حي / شعبنا حي وسع سكة لبكرة الجي / ورد شبابنا لمصر البلدي''· ولعل أغنية ''محمد منير'' ''إزاي'' كلمات نصر الدين ناجي والتي كتبت قبل الثورة ولم تظهر للنور إلا وقت الثورة لأسباب سياسية منعتها فتتحدث عن الإرادة المصرية المكبوتة لسنوات طويلة بفعل سياسات الإفقار والإذلال التي مارستها السلطة الحاكمة· ومن الأغنيات التي تدعو إلى العمل ومواصلة طريق الثورة بالإنتاج، الأغنية التي كتبها نجم النادي الأهلي محمد بركات وغناها إيهاب توفيق ومنها: ''هات إيديك يا الله في إيديا / شدوا حيلكم يا مصراوية / يلاهمتكوا يا رجالة / إحنا قد المسؤولية''، وكذلك أغنية ''قطر العمل'' لمحمد ثروت، ومن الأغنيات المهداة للجيش أغنية تامر حسني ''متشكرين يا جيشنا يمعلي راسنا في السما''· إبداعات تشكيلية وقد حاول بعض الفنانين التشكيليين رسم أحداث الثورة فظهرت لوحات للفنانين محمد عبلة ومحمد حجي وطه القرني الذي رسم جدارية عن الثورة مساحتها 40 مترا، ورفع سمير عبد الله لوحة رسمها حامد عبد الله في الستينيات تحمل عنوان ''إنهض أيها الشعب'' وقد أهداها سمير لميدان التحرير· وقد بدأت الهيئات الثقافية في إقامة ورش فنية عن الثورة· أخيرا منذ عقود عدة، لم يعرف الشعب المصري معنى انتسابه إلى تنظيم سياسي، معنى دولة المحاسبة، معنى التحدث بالسياسة وجعلها مهنة يومية سواء في الشارع أو في المقهى أو في البيت أو في المكتب أو في الميادين العامة، اليوم لم تعد أحاديث الفن والكرة والمسلسلات التلفزيونية هي السائدة· اليوم لقد أصبحت السياسة لغة المصريين اليومية، وهمهم الأول··· هذه الحالة هي الرد على البعض من أنصار الثورة المضادة، الذين يعتبرون أن ميدان التحرير أصبح ''فرجة''، وكأن المشاكل التي تعرفها مصر تجري في بلد آخر وليست مشاكلهم وفي بيوتهم· الاحتقانات والهواجس التي كانت مؤجلة، انفجرت دفعة واحدة· لقد تراكمت الإخفاقات التي تجاوزت الحدود، وها هو الشعب المصري يثور ويعبر عن آلامه، إنه يعبر عن المظالم التي عاشها، عن الثروات المنهوبة، وعن ما وصل إليه الشعب المصري من أمية، وعن التفاوتات الاجتماعية بين الأثرياء والفقراء، وعن الفقر الذي تتوسع دائرته، وعن تبني النظام السابق الخيارات الأمريكية الإسرائيلية بديلا عن خيارات الشعب المصري· بالأمس، قام الضباط الأحرار بثورة ,1952 تلك التي تمت خيانتها من داخلها، هذه الثورة التي انضم إليها الشعب المصري بعد اندلاعها، أما اليوم، فإن الشعب المصري ذاته، هو الذي حقق ثورته ودفع ثمنها· لم تخطئ القوى الغربية وإسرائيل في اعتبار ثورة يوليو بقيادة عبد الناصر، أنها مثلت الخطر الأساسي على مصالحهما المشتركة· وبقدر ما تمثل ثورة 25 يناير مصالح الشعب المصري، في علاقاته وتحالفاته العربية، ومع الشعوب المضطهدة والمظلومة، بقدر ما ستكون هدفا أساسيا للثورة المضادة التي تأتي مخططاتها دائما من الخارج· فليحافظ قادة الثورة على ما أنجزوه، على مصالح الشعب المصري، خاصة فئاته الفقيرة والمتوسطة، وعلى البيئة التي يرون فيها صورتهم ومصالحهم· ؟ فرحان صالح المفضلة إرسال إلى صديق المشاهدات: 12 التعليقات (0) إظهار/إخفاء التعليقات إظهار/إخفاء صندوق مربع التعليقات أضف تعليق الإسم البريد الإلكتروني