لعبت الأقاليم الصحراوية دورا معتبرا في ازدهار بلدان المغرب، بعد اندماج هذه الأخيرة في المجال الاقتصادي للعالم الإسلامي، إذْ شكلت بفضل موقعها المتميز منطقة ''عبور'' للتجارة الصحراوية، فيما بين القرن التاسع والقرن الخامس عشر· لعل هذا ما دفع بابن خلدون للتأكيد على أن قيام دولتي المرابطين والموحدين، بالإضافة إلى دول جنوب الصحراء مثل غانا ومالي، كان بفضل ازدهار هذه التجارة ''البعيدة المدي'' وليس من اقتطاع الفوائض من الفلاحين]).1([ ونظرا لأهمية هذا الدور التجاري فقد نجم عن تراجع هذا النشاط بدء اعتمال سيرورة انحطاط بلدان المغرب العربي مع نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر· وقد زاد من تدهور التجارة ظهور البرتغال في السواحل الأطلسية لإفريقيا، الذي كان من آثاره تحول طريق الذهب· واليوم، ومنذ العقود الأولى للقرن العشرين، أضحت الصحراء القلب النابض للكثير من المجتمعات العربية، بفضل مخزون الموارد الطاقوية الهائل الذي تتوفر عليه، بالإضافة إلى الاحتياطي الكبير من المياه الذي تزخر به، وهو المورد الذي بات الجواد الرابح لمعركة المستقبل· وتأسيسا على ذلك، أصبحت هذه الأقاليم بمثابة الرهان الحقيقي للعولمة، هذه الأخيرة؛ التي كثيرا ما يُؤرخ لها بما بعد حرب الخليج، أي حرب الأقاليم الصحراوية النفطية، غير أن انخراط باطن هذه الأقاليم في تيار العولمة، لم يكن سوى هدف لتيار ينْزع إلى تعميم سيطرته على أسواق الأذواق البشرية وأسواق الموارد الطبيعية، دون أن يعني ذلك، في الغالب، حدوث تحولات جذرية على التنظيم الاجتماعي لمختلف هذه الأقاليم· وحتى بلدان الخليج العربي التي عرفت تغيرات هامة أثرت على بنيتها الثقافية، ونسيجها الاجتماعي، وأنماط استخدام مجالاتها العمراني وخيراتها الطبيعية، ظلت وعلى غرار الأقاليم الصحراوية الأخرى منكفئة على ذاتها، أسيرة تقاليد وأعراف راسخة، تُراوح فيها الأوضاع المعيشية لسكانها مكانها· ولعل ذلك الثبات النسبي في الأوضاع والأعراف، ما يُبرر التأكيد على مُعامل الخصوصية فيما يتعلق بهذه المجتمعات، وبالتالي، تفضيل النظر إليها على أنها تُشكل ''مجتمعات محلية'' خاضعة لمنطق وديناميكيات خاصة في إعادة إنتاج أبنيتها الاجتماعية، وصياغة أشكال استمرارها· الاعتبارات النظرية والمنهجية عند دراسة المجتمعات الصحراوية: هناك العديد من الدراسات التي قام بها الجغرافيون والرحالة العرب، وكذا الباحثون الأجانب من شتى التخصصات، والتي تناولت أوجه الحياة الاجتماعية والثقافية، وكذا الجوانب الجغرافية والبيئية للمجتمعات الصحراوية، غير أن هذه الأعمال لا يمكنها أن تقدم مادة وصفية كاملة وشاملة، فهناك ميل لدراسة جوانب جزئية للبناء الاجتماعي والثقافي لهذه المجتمعات، مما يعني عدم كفايتها لتركيب نموذج نظري دقيق ومتناسق· وعليه، فإن الحاجة مُلحة لتأسيس نظرية متكاملة، يمكنها أن تقدم تصورا شاملا عن هذه المجتمعات المحلية، ويستدعي الأمر من أجل تحقيق ذلك الأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية: 1) لا بد من اعتبار هذه الأقاليم ''مجتمعات محلية''، ذات سمات خصوصية تماشيا مع الاتجاه الحالي بين العلماء، الذي أصبح يُخالف النظرة التي كانت سائدة عند علماء الأنثروبولوجية، التي كانت تعتبر المجتمعات البدائية فقط، بوصفها مجتمعات قائمة بذاتها، وأجزاء من مجتمعات أكبر، غير أنه يجب التذكير بأن من أهم شروط دراسة المجتمعات المحلية، التحديد الواضح للمجتمع، - كما يوضح عبد الباسط محمد حسن - خاصة وأن الحدود التي تفصل مجتمعا ومجتمعا آخر ليست واضحة المعالم، نظرا لأن الفواصل بين المجتمعات ليس لها وجود واقعي نتيجة للتفاعلات الاجتماعية المتبادلة (]2.([ وتجدر الإشارة إلى أن هذا المفهوم ينطوي على قيمة تحليلية هامة، حيث يكشف هذا المفهوم، كما حدّده الكثير من العلماء(*)، عن تأثير الإقامة في الإقليم الجغرافي الواحد؛ بما يعني ذلك، من محيط فيزيقي ومناخ ومصادر للثروة على المجتمع المحلي، كما يكشف عن تأثير المعيشة الاجتماعية الكلية على التنظيم الاجتماعي العام، وما يشير إليه ذلك من صور تنظيم العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان· 2) ضرورة تناول التغيرات والديناميكيات التي تعتري هذه المجتمعات، للوقوف على مساره نموها؛ وكذا فف الصيرورات التي تحدد تحولاتها ])3([ ، والكشف عن أشكال رفض التحولات التي تعتمل فيها؛ أي عوامل المحافظة على الوضع الاجتماعي والثقافي، ومن هنا، وعلى العكس مما ينصح به بعض المشتغلين بمناهج البحث، بعدم دراسة المجتمعات المحلية في حالة التغير لقلة المصادر التاريخية عن تلك المجتمعات، ولكثرة الصعوبات التي قد تعترض الباحث في الدراسة العلماء، فإن دراسة المجتمعات في حالتها الديناميكية - كما يُوضح محمد حسن - أمرا له أهميته، خاصة وأن المجتمعات في حالة تغير مستمر، ودراستنا لها في حالتها الإستاتيكية ليست إلا دراسة فرضية ])4([ . 3) لا بد من الاستفادة من المادة المتراكمة التي تناولت هذه الأقاليم، خاصة منها الكتابات الجغرافية والأنثربولوجيا، وكذا الدراسات العمرانية والتاريخية والنفسية· 4) لا بد من تكثيف البحوث الميدانية التي تتناول مختلف أوجه الحياة الاجتماعية لهذه المجتمعات، لجمع أكبر قدر من المعطيات والبيانات الكمية والكيفية، حتى يتسنى تشكيل رؤية شاملة ودقيقة قبل التأسيس للبناء الفكري والمنهجي· 5) يجب التأكيد على تباين الأنماط المعيشية داخل هذه الأقاليم، حتى لا تبقى النظرية حبيسة الكتابات الغربية التي تختزل الحياة الريفية مثلا في النشاط الزراعي، أو التي تجعل العلمانية مثلا مرادفة أو ملازمة للتحضر· وتبعا للانتباه إلى هذا التباين تباين أشكال العمران، بكل ما ينطوي عليه هذا المفهوم من معاني، وحسب التعبير الخلدوني، الذي يرى بأن العمران يشير إلى التساكن (صور وأساليب إقامة المساكن) والتنازل (أشكال الإقامة والتوطين) في مصر أو حِلّة، للأنس بالعشير، واقتضاء الحاجات، لما في طباعهم من التعاون على المعاش، ومن هذا العمران ما يكون بدويا، وهو الذي يكون في الضواحي وفي الجبال، وفي الحلل المنتجعة في القفار وأطراف الرمال· ومنه ما يكون حضريا وهو الذي بالأنصار والقرى، والمدن والمدائر، للاعتصام بها والتحصن بجدرانها· وله في كل هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا له ])5.([ وهكذا فطبيعة العمران وأشكاله؛ تتحدّد حسب أسلوب العيش الذي يتخذه أي مجتمع محلي سواء كان حضريا أو بدويا، فكما يقول ابن خلدون : ''فف اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو اختلاف نحلتهم من المعاشپپ ففي ضوء نمط العيش ترتسم أشكال العمران، وأنواع السكن وأنماط الإقامة والتوطن (أو عدم الاستقرار) وعادات الطعام واللباس، التقاليد، التدين والصفات الخُلقية ])6([ . فبالنسبة للعمران البدوي على سبيل المثال نجد التحليل الخلدوني، بين ثلاث أساليب للنشاط الإنتاجي يترتب عنها تنظيمات اجتماعية؛ أو أنماطا للعمران متعددة، هذا بالرغم من تأكيده على السمة المشتركة فيما بينها، والمتمثلة أساسا في انتحال أهل البدو للمعاش الطبيعي، من فلاحة ورعي للأنعام، واقتصارهم على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائدفف وتتمثل هذه التنظيمات أو الأنماط في : أ· عمران بدوي يقوم على الزراعة ، ويوجد غالبا في المدائر والقرى والجبال، ويضم خاصة البربر والأغاجم· ب· عمران بدوي يعيش على الرعي الغنم والبقر مثل البربر والترك والتركمان والصقالبة· ث· عمران بدوي يعتمد على تربية الابل، حيث المراعي الموجود بالمناطق المقفرة، وسكانها أشد الناس توحشا ، وتضم خاصة العرب، (108ص) 6- لا بد من تحديد المداخل النظرية المختلفة بعد تحديد نطاق النظرية السوسيولوجية، والتناول السوسيولوجي لهذه المجتمعات، فبإمكان هذه المداخل تقدم رؤية شاملة عن الواقع، وعن كيفيات تناوله بالبحث والدراسة، فيُمكن اعتبارها مُوجِّهات نظرية، ومتغيرات أساسية تفيد في تفسير الأنماط المختلفة للحياة في هذه المجتمعات· وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى مدخلين هامين بإمكانهما تقديم العون الفكري والمنهجي للدارسات السوسيولوجية: 1) المدخل الايكولوجي: الذي يمكن أن يساعد عند دراسة أثر العوامل الجغرافية المختلفة على التوزيع المجالي للسكان والأنشطة، والهجرات والحركات السكانية داخل هذه الأقاليم ضمن البلد الواحد أو خارجه، وعلى البناء الاجتماعي بشكل عام، وهو بالجملة يسهم في الكشف عن تأثير النسق الإيكولوجي في هذه الأقاليم التي يظهر فيها تأثير الجغرافية والعوامل الفيزيقية بشكل بارز، سواء على الأنشطة الاقتصاديات التقليدية أو الأنشطة الاقتصاديات العصرية، التي تتعايش معها جنبا إلى جنب· وهذا ونشير إلى أن ابن خلدون يعتبر من أبرز الذين كشفوا عن تأثير العامل الجغرافي على المظهر العمراني، وأشكال التجمع الإنساني، ومختلف الأنشطة والصنائع والحرف·· (2 المدخل الأنثروبولوجي : الذي يمثل مدخلا ضروريا عند دراسة خصائص الحياة الاجتماعية والثقافية لنظم الأسرة والقرابة، وأشكال التعبير الثقافي والسياسي، وكذا أنواع التجمعات الاجتماعية الإثنية والتضامنية لسكان هذه المناطق· فضلا عن ذلك فإن المدخل يمكننا من دراسة هذه المجتمعات كوحدة اجتماعية كلية وكشكل ثقافي متميز، ويساعد في التعرف على تأثير القيم الاجتماعية والثقافية في تركيب هذا المجتمع· وفي الختام، فإن معرفة الطبيعة ''المحلية'' لهذه المجتمعات بأبعادها الثقافية والعمرانية وغيرها، والوقوف على المدى الذي وصلت إليه التغيرات الاقتصادية والسكانية والعمرانية فيها، يعد ضرورة هامة لمحاولة تقديم معلم أو نموذج فكري لأي بحث أو دراسة علمية، كما يعد هدفا لابد منه عند صياغة البرامج والمخططات الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية· .35, p1973 . & S. Amin, Le développement inégal, Ed de Minuit, Paris,22-21, p1976 ]Cf. S. Amin, La nation arabe, nationalisme et luttes de classe, Editions de Minuit, Paris,1[ ]2[ عبد الباسط محمد حسن، أصول البحث الاجتماعي، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الحادية عشر، ,1990 ص.260 * مثل ماكيفرMaciver ا، وجورج لندبرج ا G. Lundberg ، وبرجس Burgess eme Chapitre (tradition et continuité).3 , principalement le1981 Editions,2 ] Georges Balandier, Sens et puissance, PUF,3[ ]4[ عبد الباسط محمد حسن، المرجع السابق، ص 261 ]5[ عبد الرحمان بن خلدون، مقدمة ابن خلدون : كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، مؤسسة الطباعة لدار التحرير للطبع والنشر، القاهرة، ,1966 ص.40 ]6[ بالنسبة للعمران البدوي مثلا أنظر: نفس المرجع الفصل الثاني من نفس المرجع، ص107- .113