يؤكد أستاذ علم الاجتماع التونسي، محسن البوعزيزي، أن قطار الديمقراطية ينطلق، اليوم، فعليا في تونس، وأن نتائج الانتخابات ليست مهمة بالقدر الذي يهم التدرب على السلوك الديمقراطي نفسه، معتبرا أن مشروع التيار الإسلامي منطقي ما دام في ظل خيار الدولة المدنية، رافضا أن يتم إقصاء أي تونسي من المشاركة في مشروع بناء الدولة المستقبلية· حاورته: زهور شنوف تستعد تونس، اليوم، لخوض أهم امتحان في التحول نحو الديمقراطية، بعد مخاض عسير طيلة الأشهر الماضية، هل تعتقد أنها مهيأة فعلا للمضي قدما في التجربة؟ هذا السؤال مهم جدا سوسيولوجيا، لأن تونس الآن بصدد كتابة تاريخ جديد قد يحول وجه تونس والمنطقة العربية ككل· بشكل عام هناك استعداد كبير، غالبا سيفضي إلى نتائج انتخابية معقولة، وتبقى ''الكتلة الصامتة'' أي التي لم تمارس التجربة الانتخابية الحقيقية ولم تتح لهم الفرصة ليعيشوا الجو الديمقراطي، والذين يشكلون أغلبية، قلت تبقى هذه الفئة الانتخابية المهمة لم تحسم أمرها جيدا وهناك ضبابية في خياراتهم، حيث يطلبون النصيحة في كل مكان لتوجيه اختيارهم، لكن رغم هذا كمحلل أعتقد أن التوانسة سينتخبون وفق معايير معينة تأخذهم إلى 5 أو 6 اتجاهات أساسية، فيما عدا ذلك يبقى مجرد هوامش وبقايا· ما هي هذه المعايير؟ بنوع من المغامرة سأقول، الذين لديهم ارتباط باللغة العربية وغالبا لا يتقنون سواها مع القليل من اللغة الفرنسية، ولديهم تمسك بالهوية الإسلامية سيصوتون لصالح الأحزاب التقليدية الإسلامية· أما الذين لديهم ارتباط باللغة الفرنسية وانفتاح على الثقافة الفرنسية والفكر الغربي سيصوتون لفائدة قطب الحداثة والتجديد· الفئة الثالثة والمهمة جدا، هي الشباب غير المسيس والذي شارك بشكل أساسي في الثورة دون أن تكون له ارتباطات أو انتماءات حزبية أو إيديولوجية، سيصوتون لصالح الأحزاب ذات المد الثوري والاجتماعي، وهنا دعوني أغامر أكثر وأقول يختارون ''المؤتمر من أجل الجمهورية''، وهذا بناء على الملاحظات التي سجلتها في تجمع اختتام الحملة الانتخابية لهذا الحزب، حيث لم يظهر وسط الموجودين رأس أبيض، كلهم شباب بين (25 إلى 40)، ومتغير السن عامل مهم في العملية الانتخابية، لذلك لا يجب الاستهانة به· بشكل عام هذه هي المعايير التي ستتشكل عبرها التيارات الكبرى الناتجة عن العملية الانتخابية التي تنطلق، اليوم، في تونس· كمحلل وعارف بالتركيبة الاجتماعية، ما هي النتائج التي ستنتج عن هذه المعايير؟ إذا أردنا التركيب بمغامرة كبرى، أقول أن ما هو تقليدي سيحتل المرتبة الأولى، بعدها حزب وسطي ولاحقا تأتي الأحزاب التي قد يكون لها قوة سياسية مستقبلا· والحقيقة التصنيف ليس مهما لأن التونسي اليوم لن يقبل بشخص يستمد سلطته من فوق، مهما كان هذا المصدر غير الشعب، ولذلك أريد أن أقول إن التوانسة بينوا قدرة ونضجا كبيرين في العملية الديمقراطية، وهذا هو المهم، خصوصا وأنها تجربة أولى من نوعها في العالم العربي ونحن نخوضها بصفر مشاكل· لوّح حزب النهضة الإسلامي على لسان زعيمه بالخروج إلى الشارع في حال حدوث تجاوزات في الانتخابات، ملمحا باحتمال حدوث تزوير في النتائج، هل هذا وارد؟ كمختص في علم الاجتماع، وأتواجد منذ في فترة في الشارع التونسي ومختلف مواقع الحملات الانتخابية، وحاليا أنا أحدثكم من مقر الهيئة المستقلة للانتخابات، لم ولا ألاحظ أن ثمة نية في التزوير أو أي خطة مسبقة لحسم النتائج لحساب طرف دون غيره، أعتقد أن ما قاله الشيخ راشد الغنوشي من باب التحذير، بالنظر إلى تجربة سنة 1989 وما رافقها من تجاوزات وتزوير، لكن الشارع التونسي لم يستسغ مسألة التلويح بالخروج إلى الشارع· ما أؤكده بالعين أن الأجواء هادئة والأمور تسير على أحسن ما يرام، فقط ثمة التونسي الذي لم يحسم أمره بعد، وهو في انتظار ال 90 دقيقة الأخيرة(بحسب التعبير الرياضي) لأنه يبحث عن خياره إلى غاية الآن، وهؤلاء يسألون عن المرشح الأفضل في كل الأمكنة وكأنهم يسألون عن كبش العيد الأفضل أو بدلة العيد الأفضل، وهذا مؤشر خطير نوعا ما، لكن رغم هذا لا يهم لأن هذه الانتخابات عملية تسخين أو تدريب على السلوك الديمقراطي، فما دام الشعب استعاد قوته فإنه قادر على التعامل مع أي مشروع دكتاتور يظهر مستقبلا، لأن زمن الخوف قد ولى· عمليات سبر الآراء التي أجريت حول نتائج الانتخابات أكدت تفوق كفة الإسلاميين في تونس، وهذا ما أكدتموه في حديثكم أيضا، ألا تعتقدون أن هذا الخيار سيفرض نظرة معينة على المنظومة الاجتماعية والقانونية للبلاد، من شأنها أن تؤثر على مستقبل تونس كدولة موردها الأساسي هو السياحة؟ يصعب أن يستأثر حزب واحد بالأمر، مهما كانت قوته، أي أن صياغة الدستور ستشارك فيها طوائف مختلفة (حزبية ومستقلة)، أظن أن الحركة الإسلامية في تونس، على الأقل حسب ظاهر الخطاب تريد أن تشارك في بناء دولة مدنية، وبشكل مفارق من خلال تحليل وقراءة خطب النهضة التي شاركت بها في الحملة الانتخابية وجدت أن أكثر كلمة ترددت في الشعارات والخطب هي كلمة الحرية (حرية المعتقد، حرية الرأي، حرية··)، الآن السؤال هل ستطبق النهضة مضمون خطابها أم لا، نترك الإجابة عليه للمستقبل ولا يمكن إقصاء أي تيار على أساس الحكم المسبق، وأهل النهضة أنفسهم عندما نتحدث إليهم يقولون يا أخي جربني؟ والفرصة من حق الجميع، وإن حادوا عن هذه المبادئ، أعتقد أن الشعب التونسي سيكون لهم بالمرصاد بهدوء، لأن هذا الشعب تاريخيا ليس عنيفا، وبما أن النهضة مع الدولة المدنية سنرى إن بلغوا السلطة هل سيلتزمون بمشروعهم المصاغ· كما أريد هنا أن أنوه بأمرين، الأول أنه لا يجب أن نستهين بمسألة التحالفات التي ستأتي بعد الانتخابات، والأمر الثاني هو التحسيس الذي وقع أثناء الحملة الانتخابية التي مرت، وهذا سيهيئ للمستقبل السياسي التونسي على مدى 10 سنوات القادمة· حديثكم عن الخارطة السياسية الجديدةلتونس لم يتضمن بقايا نظام بن علي، أين يتمركز هؤلاء اليوم؟ هؤلاء الناس حظوظهم اليوم ضعيفة، لا أحد يتحدث عن عشرات الأحزاب وحتى المؤسسات الموروثة من الحكم السابق، لأن تونس، اليوم، تقطع مع مرحلة سابقة لتبني وتؤسس للمستقبل· كسوسيولوجي هل تعتقد أن تتجاوز تونس المرحلة الانتقالية بسلاسة؟ إلى حد الآن ثمة مرونة وسهولة في التحول، أكاد أقول أن الوضع استثنائي بالنسبة للمرحلة، لأننا كما أشرتم نتكلم عن مرحلة انتقالية، لكن الشيء الرائع أننا نعيش الحالة في صمت وترقب هادئ، والأهم بصفر مشاكل، ما عدا الأشياء التي تقع في أكبر الديمقراطيات، وبهذا تدخل تونس عهد الديمقراطية بغض النظر عن التشكيلات وكيف تكون، لأن هذه المسائل ستأتي حتما في مرحلة ثانية، المهم أننا ندخل مرحلة جديدة تعد بجو ديمقراطي نظيف نقطع معه عهد البيعة والتزوير·· وغيرها من الممارسات، وسيختار الشعب بنضجه ووعيه وإذا كان الشعب سيختار عدم الانفتاح والنضج وإذا كان خياره سيئا فعليه تحمل مسؤولية ذلك، لأنه يختار حسب بنيته الذهنية، وهنا أنوه رغم أن تجاربنا في الحداثة والتنوير ليست كبيرة، لكن يبدو لي أن القطار بدأ يسير في هذا الاتجاه· المتنافسون على مقاعد المجلس التأسيسي·· من هم؟ يزخر المشهد السياسي التونسي في الوقت الراهن بأكثر من 110 تشكيلة سياسية معتمدة -جلها رخص لها بعد الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالنظام البائد في جانفي الماضي، لكن الملاحظين يرون أن هناك عددا من الأحزاب الأخرى أضحت تكتسي ''وزنا'' وأصبح ''نفوذها يطغى'' على المشهد السياسي لتونس بعد أكثر من 50 سنة من حكم الحزب الواحد· حركة النهضة :الحزب الإسلامي الذي يخيف الجميع أسسها الشيخ راشد الغنوشي عام 1981 التي تحصلت على اعتمادها في شهر مارس الماضي بعد أكثر من 20 سنة قضاها زعيم هذه الحركة في منفاه ببريطانيا· ولقد عمد هذا الحزب الذي يتميز بالتوجه الإسلامي على نشر قوائمه في كل الدوائر الانتخابية المنتشرة في ربوع البلاد، فيما رشحته العديد من عمليات استطلاع الراي وسبر الآراء للحصول على مراتب متقدمة في هذا الاقتراع· الحزب الديموقراطي التقدمي: منافس النهضة رقم واحد تأسس عام 1983 من طرف أحمد نجيب الشابي - فهو يعتبر تشكيلة سياسية منتمية إلى وسط اليسار أو ما يسمى باليسار المعتدل· وقد ظل هذا الحزب في المعارضة السياسية لعدة سنوات خلال النظام البائد، بينما رشحته عمليات استطلاع الرأي ليحتل مرتبة متقدمة بدوره بعد حزب النهضة الإسلامية· حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات :اليسار النخبوي يتزعمه الطبيب مصطفى بن جعفر - فقد تحصل على اعتماده عام 2002 وهو حزب نخبوي ينتمي إلى وسط اليسار، كما ينتمي إلى عضوية الأممية الاشتراكية· وقد دخل صفوف المعارضة السياسية خلال نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي لمدة طويلة، وهو يدعو في برنامجه السياسي إلى إحداث القطيعة الحقيقية مع الماضي· حزب التجديد (الشيوعي سابقا) تحالف الديمقراطية والحداثة يرأسه أحمد إبراهيم، فقد اتخذ في سياسته توجها اجتماعيا ديموقراطيا وعمل على تشكيل ''تحالف قطب ديموقراطي حداثي'' يتألف من 5 أحزاب ومن عدد من الشخصيات المستقلة· حزب المؤتمر من أجل الجمهورية :اليسار الإسلامي أسسه منصف المرزوقي عام 2001 وكان محل حظر من طرف النظام البائد ليتحوّل إلى المنفى لغاية 2011 فيما يطغى على برنامجه السياسي التوجه اليساري مع الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية· الحزب الشيوعي للعمال25/ سنة من النضال والاضطهاد يقوده حما الهمامي، فقد ناضل طويلا في السرية وأصبح يتمتع بثقل مكتسب من خلال 25 سنة من العمل السري، وهو يعد من الأحزاب المدافعة عن النظام البرلماني وحرية العمل والتعبير· بقايا الحزب المنحل :''البنعليون'' الجدد عرف المشهد السياسي في تونس كذلك بروز أحزاب مقربة من الحزب المنحل ''التجمع الدستوري الديموقراطي'' وهي أحزاب - حسب المراقبين- ''تتنافس من أجل الحصول على الإرث الانتخابي للحزب المنحل''· ومن أهمها ''حزب الوطن'' محمد جغم الوزير السابق في النظام البائد و''حزب المبادرة'' كمال مرجان الذي شغل عدة مناصب وزارية في النظام السابق· المستقلون :المفاجأة المنتظرة برزت قوائم انتخابية عديدة لمترشحين مستقلين يمثلون أكثر من 40 في المائة من المرشحين للمجلس التأسيسي المقبل، حيث تقدموا للاستحقاق بأكثر من 700 قائمة انتخابية، مما جعل العديد من الملاحظين لا يستبعدون أن يخلق المستقلون المفاجأة في هذه الانتخابات· تونسيون يتحدثون عن أول انتخابات بعد بن علي :انتهى عهد الدكتاتورية ومرحبا بالديمقراطية أدت الجالية التونسية المقيمة بالجزائر على غرار باقي الجاليات المتواجدة في العالم خلال الثلاثة أيام الماضية، واجبها الانتخابي لاختيار المجلس الوطني التأسيسي 2011 الذي دخلت معتركه 18 تشكيلة سياسية تمثل كل أطياف المجتمع التونسي· وبغض النظر عن كون هذا الموعد يعد الأول من نوعه بعد سقوط الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فقد اعتبر من طرف التونسيين المقيمين بالجزائر بمثابة مرحلة جديدة يدخلها بلدهم في ممارسة حقهم الدستوري بكل شفافية وحرية· 22 مكتبا و11 ألف ناخب عرفت العملية الانتخابية خلال الثلاثة أيام إقبالا كبيرا، حسب رئيس مكتب الجزائر، زغدودي عبد الكريم، عبر 22 مكتبا وزعت على ثلاث مدن هي العاصمة بخمسة مكاتب، عنابة بعشرة مكاتب وتبسة ب 7 مكاتب، فيما بلغ عدد المسجلين 11 ألف مواطن تونسي· وأشرفت على العملية هيئة مستقلة عن وزارتي الداخلية والخارجية بما في ذلك التأطير· وحسب رئيس المكتب، فقد تجاوزت نسبة الانتخاب ال 60% على مستوى العاصمة، وهو رقم مرتفع قياسا بالمواعيد الانتخابية السابقة التي جرت في ظل النظام السابق، حسب ما جاء على لسانه، مؤكدا لنا بأن الظروف التي تمت فيها العملية الانتخابية انفردت بتنظيم محكم، جسدتها إرادة الناخبين التونسيين في إحداث التغيير والقطيعة مع كل ما له علاقة بالماضي· بعد عقود من الزمن تحققت الشفافية ولم يكن رئيس مكتب الجزائر الوحيد الذي عبّر لنا عن النقلة النوعية التي حدثت في هذه الانتخابات التي جرت على أنقاض الثورة التونسية، حيث أكد لنا بعض المواطنين التونسيين الذين التقيناهم بمكتب الانتخابات المتواجد على مستوى السفارة على أن الشفافية هي الميزة الأولى التي طبعت الموعد الإنتخابي الأول بعد مرحلة بن علي على منوال ما حاول مصطفى البالغ من العمر 30 سنة تبيانه لنا من خلال ملاحظاته الأولية عن الأجواء وهو يؤدي واجبه الانتخابي بعد مقاطعة طويلة مع هذا الواجب الدستوري: ''أستطيع أن أقول دون تحفظ إن الظروف التي جرت فيها هذه الانتخابات كانت مغايرة تماما لما عشناه خلال فترة حكم بن علي، حيث كانت الشفافية حاضرة وكل مواطن تونسي أدى واجبه بكل حرية وعن قناعة، بعيدا عن العيون التي كانت تتعقب تحركاته في الماضي، عندما كان يفرض عليه التصويت لصالح حزب بن علي''· ورغم أن المواطن مصطفى لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يتنبأ بنتائج هذه الانتخابات، طالما وأن عملية الفرز لم تجر، إلا أنه يعتقد بأن حزب النهضة هو الذي سيفوز بالنظر إلى تركيبتها وأفكارها· وفي السياق نفسه، أسر لنا مصطفى بأنه يحبذ شخصيا المفهوم الإسلامي المعمول به في تركيا، بعيدا عن الممارسات التي كانت في عهد بن علي عندما كان المترددون على المساجد يسجنون· كما علل هذا المواطن التونسي تنبؤه بفوز النهضة انطلاقا من كون السواد الأعظم من التونسيين لا يعرفون الأحزاب والتشكيلات السياسية التي دخلت معترك هذه الانتخابات· ولم يتوان مصطفى أن يهمس في أذننا وهو يغادر مقر سفارته بأن التونسيين أحسوا لأول مرة برياح الديمقراطية التي شرعوا في التأسيس لها منذ هذا التاريخ· ولم يتردد مواطن آخر يدعى جميل البالغ من العمر 28 سنة في وصف ما يحدث اليوم في بلده باليوم التاريخي الذي سيحتفظ به كل تونسي يحلم بالحرية والديمقراطية: ''لقد جرت هذه الانتخابات في شفافية مطلقة وسادها تنظيم محكم، وهذا خلافا لما جرت عليه العادة في الاستحقاقات السابقة في عهد بن علي، ولنا إحساس كبير بأن دخول كل الحساسيات السياسية في تونس هذا الموعد الانتخابي الأول في عهد الحرية سيضمن ويؤسس لمستقبل زاهر لبلدي''· وخلافا لما ذهب إليه بعض التونسيين، يرى جميل في مشاركة حزب النهضة إضافة جديدة ودعما صريحا لمبدأ حرية الاختيار، غير أنه اعتبر حزبا مثل بقية الأحزاب الأخرى يملك مسانديه ومؤيديه ومناضليه· المشهد السياسي التونسي سيطبعه التنوع أما المواطن التونسي محمد الذي لا يتعدى سنه ال 34 سنة، فلم يجد حرجا والبسمة تعلو محياه في وصف هذا الموعد بالتاريخي في حياة التونسيين، وهو بالتالي يختلف عن بقية المواعيد الانتخابية التي ميزت فترة الرئيس المخلوع بن علي: ''إلى وقت غير بعيد كنا نضطر للتصويت لصالح حزب بن علي وملزمين بما يمليه علينا القائمون على العملية الإنتخابية، كما أننا لم نكن ندري بل ولا نعرف وزن صوتنا، وأنا شخصيا شاركت لأول مرة في هذا التصويت لأنني كنت في الماضي على يقين تام بأن الورقة الانتخابية لا تغير في الوضع شيئا وهو ما عاشه شعبي لمدة أكثر من 20 سنة''· واستنادا إلى الظروف الجديدة التي يعرفها المجتمع التونسي، وتحديدا الحياة السياسية، يعتقد محمد بأن المشهد السياسي سيطبعه التنوع، مما سيعود بالخير على التونسيين من خلال حضور القوى السياسية وتنوعها، بعد أن فسح هذا الموعد الانتخابي الفرصة لكل الأحزاب والحساسيات السياسية لنيل ما يفرزه الصندوق: ''لا أعتقد بأن الحزب الذي سيفوز بالأغلبية سيتعدى حدود 30% من الأصوات كأقصى نتيجة، وهو ما يجعلني أتصور المشهد السياسي القادم بأن يكون عبارة عن فسيفساء من الأحزاب التونسية، وكل المؤشرات تذهب إلى منح الأغلبية لحزب النهضة''· ونحن نهم بمغادرة مقر سفارة تونس، التقينا بآخر تونسي سمحت لنا الظروف بالحديث إليه، يدعى مراد، وهو مالك لوكالة إشهار بالجزائر، ومثل بقية أبناء بلده، باشرنا على الفور بوصف هذا الحدث قائلا: ''لا توجد هناك مقارنة ولا مجال لتحديد أوجه التشابه بين الانتخابات السابقة في عهد زين العابدين بن علي وما حدث اليوم بعد الثورة، ولا أخفي عليكم بأنني لأول مرة أتوجه إلى مكتب الانتخاب وأدلي بصوتي، بعد أن تيقنت بأن الشفافية والحرية التي غابت لعقود من الزمن ستكون جاهزة هذه المرة· فالانتخابات في زمن بن علي لم أكن أؤمن بها إطلاقا، وصراحة لقد جربنا كل الحلول بما فيها الديمقراطية المزيفة التي أدت إلى قيام نظام دكتاتوري، وفي هذا المجال أتذكر ما قاله رئيس الوزراء التركي أدروغان عند مجيئه إلى تونس: ''ليس هناك تناقض بين الديمقراطية والإسلام''، وأراد من خلال تصريحه التأكيد على أنه يمكن التعايش في ظل نظام إسلامي تكون فيه الديمقراطية، ورغم كوننا شعب مسلم فأنا ضد التعصب والتشدد، وهذا ما لا نريده في الديمقراطية الإسلامية التي نريدها لبلدنا''· غير أن هذا المواطن التونسي استطرد في حديثه وعاد إلى لبّ الموضوع من خلال تأكيده على أن الغلبة ستكون بالتأكيد لما يريده الشعب سواء كان توجها إسلاميا أم غيره: ''في الأخير أقول بأنه لولا الثورة المجيدة التي قضت على نظام بن علي البائد لما استطعنا حتى التعبير عن رأينا، لكننا اليوم والحمد لله أصبحنا أحرارا نتكلم متى شئنا وننتخب تحت غطاء الشفافية''· حسن· ب هاجس بن علي وهاجس الغنوشي قبل أيام ظهرت ملصقة عملاقة للرئيس التونسي الهارب زين العابدين بن علي، على إحدى عمارات ضاحية حلق الوادي بشمال تونس العاصمة· صورة أعادت البلد إلى ما قبل 14 جانفي ,2011 حيث كانت مثلها تملأ البلاد شمالا وجنوبا، إلى درجة أن أنفاس الناس حبست واعتقد البعض أن الأمر من تدبير ''بقايا النظام السابق''، أو يتعلق بعودة الديكتاتور من جديد أن كل ما حدث طيلة العشرة أشهر الماضية ما هو إلا نوع من ''الكاميرا المخفية''، غير أن الحيرة لم تدم طويلا لتنزل الصورة وتظهر كتابة مكانها مفادها: ''فيق الديكتاتورية يمكن أن تعود'' و''يوم 23 أكتوبر، امشي صوت''· إنه الإبداع في الإشهار للانتخاب على المجلس التأسيسي، وقد قامت به جمعية ''التزام المواطنة'' التي تأسست بعد سقوط الدكتاتور بن علي في جانفي .2011 وبقدر ما كانت الصورة معبّرة، بقدر ما كانت ناقصة من وجهة نظر البعض· وحسبهم، فإن الخطر الحقيقي الذي يهدد التجربة الديمقراطية التونسية الفتية، زيادة على ''بقايا النظام السابق'' التي تحاول إنجاز ثورة مضادة وإعادة البلاد إلى سابق عهدها، فالخطر الآخر هو جماعات الإسلام السياسي بمن فيهم حزب النهضة ذي التوجه الإخواني الذي يتبنى خطابا معتدلا، لكن ''الاعتدال المريب'' الذي يفهمه البعض مرحليا من أن الحصول على أغلبية في المجلس التأسيسي، ومن ثم صياغة الدستور الذي يريد من أجل قطع الطريق على خصومه والانفراد بالسلطة وإحداث قطيعة مع كل الإرث الحداثي التنويري من أيام الباشا محمد الصادق وخير الدين التونسي وصولا إلى التجربة البوريقبية· غير أن ممثلي حركة النهضة يرون هذا الاتهام باطلا وهو صادر عن خصوم لا يملكون برنامجا يقنع الناخب، وذهبوا بعيدا في ''إبداء حسن النية'' عندما رشحوا نساء غير محجبات في بعض قوائمهم، وكل ذلك لم يقنع خصومهم ورأوا مرة أخرى في الأمر مناورة من أجل الحصول على أصوات تخول لهم السيطرة على المجلس الذي يؤسس للجمهورية الثانية· إنه الجدل الذي يتواصل، وربما لن يحسم حتى بعد ظهور نتائج الانتخابات، وهي هواجس أولى ثورات الربيع العربي، المهدد بين عودة للدكتاتورية القديمة وسيطرة قوى كانت ضحية للديكتاتورية القديمة وقد تعيد إنتاجها بأشكال جديدة·