··لا أرى سعيد مهران لصا، كما أن رجال السلطة ليسوا كلابا، اللص الأكبر في المتن الروائي هو السلطة، أما أكبر كلب فهو اليسار الفاسد الذي لا يعرف نفسه، أو أنه يعرفها ويعيش بنفوس الآخرين·· هناك شخصيات روائية ظلت عالقة بذهني ومؤثرة، وكم هو قليل هذا النوع، أتذكر مثلا شخصية كوزيت، كما أعرف جان فالجان وهاري هامر واللاز، وفي هذا السياق يدخل سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ· الكتاب الناجحون هم الذين يملكون قدرة مذهلة على تشكيل الشخصية كما تحبها أو كما تكرهها، وفي الحالتين تجد متعة ما، حتى في القبح الأقصى، وأعتقد أن محرف هؤلاء يشتغل على عدة أصعدة، أفقيا وعموديا، نفسيا واجتماعيا، وعلى مستوى المتخيل الذي سيظل ركيزة قاعدية، عكس ما تذهب إليه الواقعية التبسيطية في بعض طروحاتها الساذجة· أجد اليوم، بعد سنين طويلة منذ قراءة هذا النص، أنه يتجدد باستمرار ويكتسب مصداقية أكبر، يتوالد سعيد مهران هنا وهناك، البارحة واليوم وغدا وفي القرون القادمة، كما تدل على ذلك التجارب التاريخية المتكررة، لقد خرج سعيد مهران من السجن وقد خسر كل شيء، ما عدا الحذاء المطاطي الذي كان ينتعله، وحيدا ومهزوما لا يعرف أية وجهة، انكسر الثوري الذي كان يحمل في رأسه كل النظريات التقدمية التي تعلمها من رؤوف علوان، صديقه في المعارضة التي من الألفاظ والوصايا وما تقوله الكتب· سيعلم في السجن ما حصل من متغيرات وانزلاقات عن ''المبادئ المشتركة'' التي كان يتقاسمها مع الآخرين، مع الأصدقاء، ومع أقرب شخص إليه: رؤوف علوان الذي انزاح عن قناعاته وألحق ضررا بشرفه، لقد غدا شخصا آخرَ وفكرا مضادا وقناعات مختلفة· وإذ خرج سعيد مهران من الظلام، كان ظلاما آخرَ يسير في الظلام، مرتبكا ومنهارا وقانطا، لقد أدرك مرحلة من العبث الحقيقي في ظل انقلاب القيم وثقافة المقاومة الطلائعية، وكان ما كان صدوع تعذر ترميمها، دفع سعيد مهران ثمن قناعاته وانقلب الآخرون على أعقابهم، كحال البورجوازيين الصغار الذين يؤمنون بالأفكار الكبيرة في سن معينة، وفي وقت معين، قبل أن تصيبهم العدوى الخالدة: بيع الذمة، والانخراط في أجهزة المسخ، في دواليب الأنظمة والمصالح، بعيدا عن الفكر والكرامة، الميزة التي تسم المناضلين المدجنين بصخب الظاهر ومصطلحات الجاهز والمنجز· وكان على سعيد مهران الذي أصبح وحيدا، محبطا بسبب العدولات أن يجد حلا مهما كانت طبيعته، ولم تكن أمامه خيارات كثيرة لتحقيق الذات، لإعادة التوازن البدائي الذي قوضته التراجعات والخيانات، كما فكر فيها وأحس بها في تلك الفترة من حياته الفكرية المتميزة، فترة ظهور اليسار في المجتمع المصري، وفي مجتمعات عربية كبيرة استوردت فكر الآخر والممارسات الغيرية· على سعيد مهران أن ينتقم، لم يكن بعيدا عن الجنون، حالة سديمية وانهيار لذا كان متوقعا بتتبع العلل والمعلولات أن نتصور غائية المسارات السردية، أن نتوقع تأسيسا على العلاقات السببية بين الأفعال والحالات وبين الحالات والأفعال مجموع الردود الافتراضية القادمة مع انحسارها الكبير· وكان المسدس أجمل الحلول، علامة من العلاقات اللغوية الأكثر تعبيرا عن الحالة المتردية التي آل إليها بعد سنين من الأوهام والفقدان، وهم الأيديولوجيا المستورة وفقدان الأسرة والحياة والكرامة والشرف، كان عليه أن يقتل، وذلك حل آخر بالنسبة إليه، لم تعد اللغة وسيلة للتخاطب فاختار لغته: الجريمة، إطلاق الرصاص على الأصدقاء الأعداء، على رؤوف علوان ونبوية، على هذا وذاك، ثم يموت حتى يتسنى له أن ينسى المأساة، حتى يتجاوز وجوده بإلغاء وجوده، وكان ذلك آخر خيار· لم ينجز مشروعه كاملا، وما حققت الرصاصات ما كانت تفكر فيه، لقد أوقف الكاتب أفعال شخصياته في منتصف الطريق، كحل وسط قائم على تخطيط ناجز سلفا دون أن يتعدى الحد تفاديا لسقوط الرواية في خطأ تاريخي لا يعكس الحقيقة والمنطق، لا يمكن لسعيد مهران أن يحارب نخبة زائفة، وهنا تكمن عبقرية نجيب محفوظ، الذي أطلق الشرطة على بطل اللص والكلاب· هل هناك علاقة بين الرواية والواقع التاريخي؟ لا أعتقد أن المسألة تحتاج إلى تدليلات لإثبات ذلك، العلاقة محسومة قبلا بالنظر إلى طبيعة النخب وتذبذبها واختفائها خلف الكلمات في مراحل مخصوصة يتعذر ذكرها لأنها تواترت كثيرا، إلى أن غدت قاعدة، الإيديولوجيا في الوطن العربي غشاء في غاية الهشاشة، رمال متحركة لا يمكن أن نقف عليها، أما سعيد مهران فليس سوى ضحية من ضحايا الأيديولوجيات المقنّعة، التي لا تبنى على خلفيات أصيلة تضمن استمراريتها وهويتها، أي أنها ليست متجذرة في الذات، وكل ما لا ينتمي إلى الأنا يظل طارئا، متحولا، شيئا يشبه الظلال المشوهة التي نحاكيها بإملائية فظة· كانت نهاية سعيد مهران نهاية منتظرة، ذلك ما خطط له الكاتب انطلاقا من قراءة للواقع ببصيرة نافذة، وتلك نهاية أغلب الثورات والأيديولوجيات التي تفتقر إلى قيم وإلى أخلاق تؤسس على ثقافة متجذرة في النفس وفي الكيان· ما حدث لسعيد مهران أمر يعكس بصدق كبير الآثار السيئة لمفعول الأيديولوجيات التي لا تختلف عن أصداء قادمة من الغياهب، من شخصية هذا الآخر الذي انطلق من الذات، وليس من المجهول، كما يحصل في مجتمعاتنا الواقفة على الرماد، منذ تخليها عن كيانها· بقي أمر مهم وجبت الإشارة إليه ببعض الحذر: لماذا اختار نجيب محفوظ اللص والكلاب عنوانا لروايته؟ تلك قناعته بطبيعة الحال، أما بالنسبة إلي كقارئ فلا أرى سعيد مهران لصا، كما أن رجال السلطة ليسوا كلابا، اللص الأكبر في المتن الروائي هو السلطة، أما أكبر كلب فهو اليسار الفاسد الذي لا يعرف نفسه، أو أنه يعرفها ويعيش بنفوس الآخرين، وذلك أكبر قناع يمكن التركيز عليه لتحليل الرواية وإعادة تشفير العنوان وتحريف رمزيته، حتى يكون أكثر دلالة على المأساة التي عاشها البطل، مأساتنا نحن الذين نعيش في السجون ونذهب إليها دائما· لا يمكنني أبدا نسيان هذه الشخصية المثيرة لأنها مبنية بإحكام، وبذكاء كاتب يعي واقعه، كما يعي السيرورة السياسية والاجتماعية والفكرية، سعيد مهران هو أنا وأنت وأنتم، وكل من يتشبث بتلابيب أقنعة الأيديولوجيات والمبادئ المتمرحلة التي تقود إلى الفقر والسجون، وإلى حطام الفكر الطارئ·