في جذور اللغة ترتد أفعال سرد، حكى، روى، حبك... إلى ما يرتبط بالمعيش اليومي، إلى تدبر ما يستر ويكفل للفرد معاشه في حله وترحاله. كلمة سرد لها دلالات متعددة ومتقاطعة فالمعجم الوسيط يذكر بعضها ومنها: (السرد: اسمُ جامعُ للدروع وسائر الحَلَق تسمية بالمصدر. وشيءٌ سَرْدٌ: متتابعٌ. يقال: نُجومُ سَرْدٌ. سَرَدَ الشيءَ _ سَرْدًا: ثَقبَه. و_ الجلدَ: خَرَزَه. و_ الدِّرْعَ: نسَجَها فَشَكَّ طرفَيْ كلّ حَلْقَتيْن وسَمّرهما. وفي التنزيل العزيز: سبأ آية 11 أنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ . و_ الشيءَ: تَابَعَهُ وَوَالاهُ، يقال: سَرَدَ الصّوْمَ. ويقال: سرَد الحديثَ: أتى به على وِلاء، جيِّد السِّياق). ولدلالات الرواية والحكاية والحبكة في مصدرية اللغة ما يؤدي لتخريجات تتقاطع مع دلالات السرد في الارتباط بالمعيش. وهذا ما يفتح المجال لقراءة التقاطع بين الفن والواقع، تقاطعا ليس تقاطع الاشتقاق بل تقاطع الانشقاق، شقا للجدران بهدف استنطاق المخفي والمندس... الفن كحبك لنسيج يشكل هوية ولقد تحدث بول ريكر عن الهوية السردية وقال هايدغر: ''اللغة هي المسكن'' وكانت معرفة الأسماء سر تفضيل آدم وسجود الملائكة له. وكل رواية هي واقعية حتى لو نفى صاحبها صلته بالواقعية، لأن الواقع أكبر من أن تحصره مرئيات مجسدات بل قد يختفي الواقع نحو ما يبدو واقعا في حين أنه خيالات يتوهمها رهائن الإيحاء والتنويم، رهائن الكهف ورهائن الشبكات العنكبوتية. وروايات محفوظ الرائدة في تأسيسيتها هي روايات الحياة، روايات تتشكل كلماتها بنبضات الحارة وأنفاس من في المقهى وتتهندس معماريتها بهندسة الحارة. النص المحفوظي يعتبر نصا مؤسسا بامتياز للسردية الروائية العربية المعاصرة، مؤسسا بسياق التاريخ وبمعمارية المنجز. نص دينامكي في تراكميته، يحمل من بداياته إلى نهايته مسار مجتمعه، في حمولته جمالية تخترق السطح لتنفذ إلى عمق الحارة القاهرية التي ظلت بؤرته المركزية. روايات كانت حبكتها من حبكة الحياة التي عاشها الكاتب، كتب القاهرة وشكلها فنفذ إلى العالم من محيطه وكتب بمعمارية تتناص مع معمارية الأمكنة التي ألهمته كما لاحظ بعض النقاد. وحالة محفوظ هي كحالة مايكل أنجلو الذي قال كما ذكر الكاتب الراحل أنيس منصور في كتابه ''في صالون العقاد'': ''إنني لا أصنع تمثالا.. إنني أنقب عنه في الحجر.. إنه هناك، وأنا أكشف عنه الغطاء فقط''. ونجيب كان كأنجلو يستخرج من محيطه القاهري ما يتشكل فقرات في نصوص. نصوص تحضر بقوتها في السياق الراهن وفي ما ينبض به الشارع المصري حاليا، تحضر لأنها من أكثر النصوص التي قدمت التشريح للحارة وللفتوات ولمن يسمون بالبلطجية، وحللت النفسيات البشرية وعرضت المجابهات بين تيارات بعضها حاضر راهنا كالإخوان المسلمين والوفديين.. كانت روايات عن الطبقة الوسطى التي لما اهتزت اهتز المجتمع، وكانت معاناتها سيرة الانكسار الذي أصاب البلد. حمولة النص المحفوظي متصلة بسياقات مسيرته الحياتية فالكتابة عنه تستدعي التوقف عند مداخل مفتاحية تفتح لنا المجال لقراءة النصوص التي تتابعت بتنوع في إطار وحدة يرصدها كل قارئ ملم بعوالم نجيب محفوظ. تنوع بتعاقب المراحل من بداياته إلى النصوص القصيرة التي كتبها في سنينه الأخيرة، تنوع في المواضيع وفي التقنيات. تنوع في إطار وحدة تكمن في هواجس الكاتب وهي هواجس تيار ارتبط بثورة 1919 وبشعاراتها، تيار داهمته حركة الضباط الأحرار التي أفرزت كأي حركة خطاباتها وتعبيراتها، لكن محفوظ واصل مشواره ولجأ لرمزية مكثفة حتى يحتمي من التأويلات المفضية إلى ما لا تحمد عواقبه. ولعل في ما اقترنت به ذكرى ميلاد نجيب دلالات متصلة بأثره الروائي الذي كان حبكا جماليا للحياة التي تنبض بها حارات القاهرة وعبرت عن الذي يطبع الحدث الراهن وتلك قوة النص المتجاوز للزمن. المداخل المفتاحية التي نعنيها هي ملابسات تشكل أديبنا، ودراسته الجامعية للفلسفة، واشتغاله الوظيفي الذي انعكس على تنظيم حياته بالكيفية التي أتاحت له منهجة مسيرته الأدبية وعلاقته المتواصلة مع محيطه القاهري ومع الناس في المقاهي التي كان يجلس فيها وكتب في بعضها بعض رواياته . ترتبط مسيرة نجيب محفوظ بمسيرة بلد، مسيرة عرفت قطائعا مؤثرة في وجهة التاريخ.. ولد في خضم مجابهات ترتبت عما ينعته أدونيس ب ''صدمة الحداثة''، الصدمة التي اكتنفت بعنف الاجتياح الكولونيالي، مجابهات ارتبطت بها حركات ما سمي بالنهضة. كان محفوظ صبيا لما عرفت مصر في سنة 1919 الحركة التي مثلت التحول الحاضر في نصوصه، تحوّل تشكل وعي بتحقيق الذات وتأكيد فعاليتها وعصريتها. وفي سياق مناخ ما بعد الحركة المذكورة، كان نمو أديبنا وتبلوره أدبيا وهو سياق تشكل ملامح ثقافية وجمالية وفكرية عبرت عنها تيارات وأسماء معروفة، لا زالت تمثل قيما مرجعية. مع نصوص محفوظ تحضر واقعية جمالية، واقعية الفن الذي يبني ما يمتصه من الواقع ويحبك حبكته برؤية عين تخترق السطح وتخترق العابر لتعبر نحو الجوهري والعميق. حبكة تجعلنا نستوعب عوالم لا تقدمها لنا مصادر أخرى، عوالم الأمكنة وبواطن النفوس وصراعات التيارات وهواجس المنتمين للطبقة الوسطى بتموجاتهم صعودا وهبوطا بالتلازم مع تموجات مسار المجتمع. وتناغم الموضوع مع الشكل الذي تقولب فيه بحبكة ماهرة لأديب عاش موظفا منضبطا يسير على إيقاع منظم طيلة حياته، وهو الإيقاع الذي جعله يمتلك القدرة على الإنصات والملاحظة. يقول الكاتب خليل النعيمي: ''الشكل لا ينتج فناً. وليس صحيحاً أنه يَخْلُق فضاءه الخاص. بمعنى أنه يمكن أن يكون، هو، نفْسُه، معيارَ نفْسِه. لأنه بحاجة دائمة إلى ''فكر''، أو ''فكرة''، أو ''جوهر'' يستند إليه، وعليه. ولكن لِمَ الخوف الذي يكاد أن يكون، اليوم، شعوراً معمماً، في الفضاء الثقافي العربي: الخوف من الإعتراف بأن الإبداع فكر، وموقف، أولا، وله، بعد ذلك، أن يرتدي الشكل الذي يلائمه. ونحن نعرف أن ''الموقف الإبداعي''، مهما كان متطرفاً، ليس حركةً استفزازية عارضة. وإنما هو ''شأن اجتماعيّ''، ولو تَحَمَّس له فرد واحد، فقط''. القدس العربي ,11 ,3 2011 وتحبك اليوميات ما حبكته روايات نجيب، فمئوية ميلاده تزامنت مع تحرك المجتمع المصري لتغيير واقعه، وفي خضم التحرك طفت التناقضات وخرج من يصف نجيب محفوظ بالفساد ويحكم على نصوصه بأنها متضمنة للرذيلة، الخطاب استمرار لمن شنوا على الأديب الحرب منذ روايته ''أولاد حارتنا'' التي تم تأويلها بتخريجات أخرجت محفوظ من الملة وكانت أساس فتوى عمر عبد الرحمن التي حركت الشاب الذي حاول اغتيال الأديب. نجيب محفوظ يظل ككل الكتاب الكبار إشكاليا مثيرا للجدل، لأنه صاغ في رواياته جدل أجيال القرن العشرين.