هي المرة الأولى التي أتأكد فيها بأن فاطمة تعشق الحناء بهذه الدرجة، ويبدو أن رابطتها بهذه المادة تاريخية وغائرة ممتدة حتى الصبا؟! حاولت مرات أن أعي تفاصيل هذه العلاقة الإحتفالية·· لكن ذلك ما لم أحصله ولم يكن لي·· فقط كنت أحن إلى زوجة العم هذه بإيعاز سحري لدرجة أني كنت أعيد السر في ذلك عن أنها امرأة كاملة الأنوثة و(امرأة ونصف) كما يقال·· لها طقوسها الخاصة بحجة أنها جريئة أكثر من الغير وفي كثير من المواقف ومخترقة لكثير من الحواجز·· لكن تقاليد العائلة الكبرى أجبرتني على التحدثإليها بطرائق وفرص محتشمة· * * * كنت أكتنز جيدا ما كانت تعطيني إياه من تبجيل وتقدير·· إلى درجة أنها في أكثر من مرة وبطريقة بدوية تعرض عليّ الاقتران بإحدى بناتها الحسناوات·· لكن محطات القطيعة والتواصل كانت تحيا بيننا كشعرة معاوية·· فمرات تكثر زيارة العائلتين ومرات تتباعد نحو أبعد نقطة؟! لذلك كنت متخوفا صراحة من الزواجات التي تتم تحت هذا النوع من الطلب·· فأمثلة كثيرة أحفظها في رأسي داخل هذه المدينة·· أغلبهم تزوجوا ثم صاروا ألد أعداء بعضهم البعض· ولم تفصل بينهم إلا العدالة· * * * وحتى لا أطيل الحديث عن مناقب فاطمة وأعيد سرد ماضي هذه المرأة فهي الآن (وأرجو ألا تتفاجأوا) جثة هامدة أمامي؟! ماتت قبل يومين جراء مرض عضال ألزمها آلاف اللقاحات والفحوصات الدموية مدة خمس سنوات أو أكثر··· وهذا ما جعلني أتأسف كثيرا عن رحيلها بعد أن اشتدت علاقتي بها·· يوم كنت أزورها وكلي أمل في الرفع من معنوياتها· ظلت تعاني من قصور كلوي بالمعنى العلمي وفشل في خدمات هذين النعمتين (الكليتين) بالمعنى الشعبي·· وتباطؤ تواجد هذه الخدمة يعني الموت المسبق في جميع الحالات·· ولكن مع الأطباء يبقى الأمل قائما اجتهادا وإسراعا في الإنقاذ· وكنت كلما شد انتباهي عنوانا عن عالم الكلى إلا وهضمته بالكامل باحثا عن كيفية العلاج فيه وكيف لي أن أقدم خبرا سارا لفاطمة· مرة دخلت عليها وقلت لها على المباشر·· هناك مواطن من الجنوب يرغب في بيع كليته مقابل ربع مليار سنتيم تقريبا؟! وزوجها الذي هو عمي سمع الخبر· وزيادة على ذلك أعدت محادثته في الموضوع·· لكنه كان من النوع الذي لا يؤمن بالتجارب العلمية ولا بتطوراتها، فهو يريد لزوجته أن تشفى بقدرة قادر؟! وأنه لابد أن تعيش كما قدر لها لا أكثر ولا أقل قال زميل لي (هذا جهل؟!) كيف يفعل برفيقة عمره وأم أبنائه الثمانية هكذا·· كيف يستصغر هذا الثمن الذي لا يجلب سيارة محترمة من السوق·· على امرأة عاشرته طيلة خمسين سنة تقريبا؟! * * * مرة ونحن معها في المستشفى تتوجع وتحتضر جراء آلام حادة حدث أمامي مشهدا دراميا مفزعا·· بكت فاطمة بعد أن اعتقدنا بأن لحظات العمر الأخيرة اقتربت·· لكنها كانت تطلب شيئا وبإلحاح منقطع النظير·· طلبت يد زوجها الذي بقي مسمرا على إطار نافذة المستشفى (وربما كان يذرف دمعا) أو لا يرغب في رؤيتها على نفس الوضع·· مسكت بيده طواعية وراحت تقبلها ظهرا وقالبا·· قلت في نفسي ما أوفى هذا النوع من النساء في هذا العصر التكنولوجي ·· المادي القذر؟! فاطمة انتظرت هذا العم القاسي قرابة السبع عشرة سنة وهو يكد ويشقى في شوارع بارس، وبعد أن عاد وجلب معه صورا يقف فيها جنبا لجنب أمام مراهقات فرنسيات ويشتغلن في المقاهي الليلية حسب مآزرهن·· وكان هو يقف بسترة الأتراك الشباب؟! لم تهتز أو تبرز غيرتها·· ولازلت هنا أتذكر يوم أطللنا على الألبوم وتفصحناه·· زمن كنا كتاكيتا نضحك ضحكات اللصوص ونحن نشاهد لأول مرة نساء يرتدين (الميني جيب) ولا يقنعني أحد بأن فاطمة لم تطلع على أسرار زوجها هذه المفضوحة؟! ورغم ذلك واصلت معه مشوار العمر بحلوه ومرّه·· وبحكم أننا جيران لم نسمع قط أنهما تقاطعا أو تشاجرا؟! (يا لهن من نساء واقفات صامدات) كانت فاطمة بلا شك تملك غيرة المنطق لا غيرة الأهواء والغرائز وغيرة الوقار لدى الكبيرات، فهي من عرفت كيف تحافظ على حب واحترام زوجها غاضة الطرف عما اقترفه هناك في بلاد الجن والملائكة، والأكيد المؤكد أنه لو فعل ذلك هنا لتغيرت المسائل والمواقف·· وعجب العجاب، أن فاطمة لم تكن تعرف لا القراءة ولا الكتابة، فهي ريفية سمراء وفقط!؟ * * * فمن أين تحصلت على هذه الصلابة في الشخصية·· ثم أليس أمر هذا العم بعجيب·· هل تراه معقدا يا ترى·· متعجرفا·· أم محافظ شوفيني؟ مرة سرحت مع حالي أشرح هذه التركيبة البشرية ولم أتوصل إلا أن الإنسان هو حقا أغرب المخلوقات البشرية·· وكل ما جاءت به تجارب علم النفس·· لا يجنح بالجملة للحقيقة وبالمقابل ليس هو بكذب على كذب·· لأنه لا أحد نسخة من آخر ولا تجربة تنجح عند قوم سوف تثبت نجاحها على الجميع·· والعكس ليس صحيحا، فما هو سيء قد يكون مع مرور السنين أحسنا·· المثالي الطيب قد يتحوّل إلى مفسد ومجنون·· ولكن هل يتحوّل المجانين إلى أصحاء ويتحوّل المفسدون إلى بناة ودعاة حق وفضيلة·· الأدباء وحدهم من يعرفون الحقيقة وكذا الأطباء وربما نوع نادر من البشر·· وربما من مثيلات فاطمة؟! * * * كانت فاطمة وهي بداخل صندوق التوديع مغدقة بالحناء وكأن بها زهرة غرست وسط كتلة من الطمي! كانت دموع بناتها والأقارب مكللة بالصمت وكان العويل والنواح منعدمان لأن الجميع كان يدرك هذا المصير المحتوم، وأن هذه اللحظة قادمة دونما شك·· وقفت مع زحمة المودعين وأنا أشعر بأن الدنيا هي حقا كما وصفها أحد الشعراء (بنت كلب) حتى وهي حق يراد به·· ولكن الذي لا أراه حقا·· أن يذهب العمر هكذا هدرا وأن الصحة تاج ثمين فعلا وأن المرض هو العدو رقم واحد للبشرية خاصة إذا استوطن الجسد في عز الأعمار· ثم فهمت بأن الخيانة ليست صفة تلصق بالنساء فقط·· هناك رجال يخونون وبآلاف الطرق والألوان، كنت أرى بأن هذا العم سوف يضحي بأجمل ما يملك من أجل رفيقة العمر حتى ولو استدعى ذلك بيع المسكن؟! وهذا لا يعني بأنه سيقف في وجه الأقدار (حاشا) إنما فقط الكل انتظر منه موقفا بطوليا مادام أن الأمر كان يتعلق بأرقام مالية·· وهو من كان يحوزها حسب مظهره الاجتماعي·· لكنه (وما أصعب هذا اللكن) رأى بأن عملية زرع الكلى خيالية·· حتى ولربما كان ذلك في صالح جسمه·· يا لتعاسة الإنسان وغرائبية منطقه، يا لفظاعة بخله·· وقداسته للمادة؟! * * * رحلت فاطمة في موكب جنائزي بسيط زمن العصر، وأغرب ما تنبهت إليه هو أنه التاريخ نفسه الذي رحلت فيه مطربة العرب إسمهان السبت 17 جويلية، دفنت وقبل غسق المساء لا أدري ما الذي أجبرني على الوقوف أمام قبرها مرة ثانية وفي اليوم نفسه؟! بعدها بقيت أزورها كل صبيحة عيد·· ولا أعرف من الذي يتفقدها قبلي ويضع بعض القوارير العطرية الفارغة من ماء الورد·· لست أدري لكنني كنت منتكسا لحال أفراد العائلة الذين تفرقوا وتشتتوا تباعا·· الكل شق طريقا ووجهة مغايرة·· إناثا وذكورا ولم يكتمل الحول حتى تزوج العم بامرأة ثانية·· وفي السنة الأولى سقط الصبي الأول من الزوجة الجديدة·· لكن على الطريقة القيصرية، جنين لم تكتب له الحياة· أما الثاني فقد خرج للوجود بلا لون؟! أي مشوّه الوجه وتلك مشيئة الله تعالى؟