بين الفسحة والحلم والحب ''يعترف'' الكاتب عبد الوهاب معوشي أن كتاباته تلك التي ضمها هذا السفر تتراوح بينها، وهي الكتابات التي ''نزلت'' منجمة عبر سنين لتجمع كدعوة لوليمة فكرية تتراوح بين أدب الرحلة والقراءة في الأحداث الجارية والمواقف التي اقتربت أكثر من الحلم على حساب ''التفكير في الجرح'' كما كان السفر الأول للمؤلف نفسه· بكثير من الإصرار وبنَفَس مثير وريتم ثابت، تواصلت تلك الكتابات المتأنقة، لتؤرخ بطريقة خاصة لكثير من المسارات المحلية والإقليمية، ومن حيث لا يدري يكتب معوشي ''يوميات الوجع'' بتعبير عمار بلحسن، بلغة غير موجعة بل متجاوزة للحظة الآنية بحثا عن يوتوبيا خاصة· إنه تاريخ الحلم الذي دونه الكاتب باستعمال ''حبر الغوايات'' حيث تتعدد الغواية الواحدة وتتكاثر في أكثر من اتجاه إلى درجة اضطر المؤلف لتقسيمها إلى خمسة فصول لا تخلو عناوينها من شعرية الحلم وهي: ''يأتون من بعيد وعلى شفاههم صفارة إنذار''، ''رهافة الكائن التي لا تحتمل''، و''رولان بارت بقلم الرصاص''، ''المدينة شاهرة الحب والرصاص''، بصياغات لا تخلو من النصوص الغائبة التي تحيل إلى قراءات متعددة ومتجددة للمواقف التي تحملها تلك الفصول، تضاف كلها إلى الفصل الأول الذي جاء أكثر شمولية وتحميلا لمواضيع متفرقة'' والذي اختار له كاتبه عنوان ''نصوص حائرة''، التي تعود إلى مناقشة موضوع العنف وفق رؤية جديدة، فعند حديثه عن ''صورة الجزائري عنيفا''، لا يتردد معوشي في استعارة عبارة للراحل بختي بن عودة، الكاتب الذي حصده العنف الدموي الأعمى في منتصف تسعينيات القرن الماضي وهو في عز انطلاقته الفكرية التي كانت تبشر بميلاد مفكر متميز، ويختصر الكاتب موقفه من ''عنف الجزائري'' بما قاله على لسان بختي: ''إن الجزائري يحتاج إلى حكومة الحنان ومجتمع التساكن وأنثوية الحضور حتى لا يبلى فيهترئ فيموت في شقائه الأبدي-، يا لشقاء الإنسان العنيف''· إنها المقاربة الجديدة للغة العنف، بلغة الحلم التي تتكرر في ثنايا الكتاب بصيغ مختلفة، حيث يأخذ -مثلا- لحن العراق الحزين بعدا آخر، ويتحوّل السواد إلى غير الدلالة المعروف عنها، ويقول: ''إن ميزة هذا العراقي الغائص في سواده الجميل هو دمجه للموضوعات، والأحاسيس والتفصيلات الوجدانية، فليس العاشق كالجائر، وليس الغاضب كالمحب، وليس المحب كالغدّار''· وتتواصل تلك اللغة الحالمة لتتسع لكثير من المواقف السياسية، لكنه وفي خضم الحديث عن الهمّ السياسي سرعان ما يكشف عن حادّة انتقادية، ويتناول شخصية الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وظاهرته، قائلا إنه مدرك أن العرب اليوم ساداتيين كانوا مع خيار التوافق أو ناصريين قدامى مع الممانعات والهروبية نحو تراث سياسي قديم لا يجدي الإيمان بهم''، وربما لهذا السبب فقد الكاتب بدوره إيمانه ليس بالسياسيين العرب فقط، بل بالفعل السياسي والكتابة عنه وراح يعتنق لغة الحلم التي ختمها ب ''ارتياد الآفاق'' والكتابة عن مدن وأقاليم كثيرة زارها وقد خصص فصلا كاملا لتلك الرحلات داخل الجزائر وخارجها وكانت خاتمتها رحلة حج فيزيائي وصوفي في الآن ذاته، رحلة إلى البقاع المقدسة، كانت محمّلة بأسئلة فلسفية· وبعد أكثر من 200 صفحة من القطع المتوسط، تنتهي رحلة ''الغوايات'' بالجمع، ويدرك القارئ سر اختيار تلك الصيغة بدلا من الغواية المفردة، فالكتاب هو مجموعة من الكتب المدمجة، وكان يمكن -على الأقل- أن تصدر الرحلات مع رحلات أخرى في كتاب مفرد، لكن المؤلف اختار هذه الصيغة، وهو يدعو قارئه الذي تابع النصوص لسنين إلى قراءتها مجتمعة في هذا الإصدار الأنيق المنشور، مؤخرا، في صيغة نشر مشترك بين منشورات الاختلاف الجزائريةوالدار العربية للعلوم اللبنانية· عنوان الكتاب: حبر الغوايات المؤلف: عبد الوهاب معوشي الناشر: منشورات الاختلاف - الدار العربية للعلوم عدد الصفحات 239 سنة النشر 2012 ------------------------------------------------------------------------ 5أسئلة إلى عبد الوهاب معوشي مؤلف كتاب ''حبر الغوايات'' من ''تفكيرات في الجسد الجزائري الجريح'' إلى ''حبر الغوايات''، ما هو الثابت وما هو المتحوّل في هذه التجربة، أم ترى التجربتين مختلفتان؟ في العمل الكتابي توجد دائما ثنائية ثابت ومتحوّل، غير أن تحديد المفاهيم ورسم الأنساق يبدو هو الضروري والملح مع كل النصوص والاشتغالات، إن سؤالا كهذا يرمي بالواحد إلى ركن ركين ومأزقية، ما عاد هنالك قدرة للفكر العربي من الانفكاك عنها، فإما أن تكتب الثابت كيما يظل صنما أو مهمازا أو تراثا ذهبيا مخصوص بالأولين أو أنك تجعله راهنا متحولا قابلا للصرف والتبديل والاجتياز، أي الحكاية هي أن تبدع أو لا تبدع، شغلي في تفكيرات ملوم اليوم وألوم نفسي عليه، كان فيه الفكر والسؤال والمذهب والعدمية والوثوق والتفلسف في أدنى درجة، لكن لم يكن به السرد، النبض، المثال، الخفة، النعومة وكتابة الشوارد والشاردات في حبر الغوايات أسفرت اللغة من مكنونها وطلعت من جلباب الأب، وحاولت أن أغمس حبري في بئر الغاوية والغواية، حيث لا قرارا مكينا ولا مستودعا آمنا··· في التفكيرات كان الوطن والهوية والغنيمة والإقتصاد والبترول وفي حبر الغوايات كان الحب والعطر والموسيقى والضيافة والسكنى ومحبة الإنسان ووطنه·· إنطلاقا من العنوانين (على الأقل)، نلحظ أن الكتابة عندك أصبحت تنزع أكثر إلى ''الحلم''، كيف حدث هذا التحوّل؟ ما عادت الكتابة حرقة وواجبات، ما عادت أسئلة ومواضعات، ما عادت هي الموقف واليقين والزلزال والرعد والبراكين، عنوان كتابي الثاني يشي بالفضيحة الخاصة، بالحلم السري وبشهوة الترحال إلى أقاليم وبلدان وجغرافيات سماوية، قلبية، أرضية· الكتابة فعلا هي حلمي، عليه أشد وثاقي وبه أتوسد مسائي وصوبه أهرب وأهرب كل لغاتي التي تعلمتها ولم أتعلمها، حدث التحوّل وفقط، المعنى يسع والعبارة تضيق، أصابني الرهاب من المكان الوثني والأيديولوجيات والعجز العقائدي، فرحت أسكن الكتابة ملاذا، مع أن ذلك لا يكفي· ما يميز هذه التجربة الجديدة أنها واكبت التحولات الثقافية والسياسية للبلاد وللمنطقة كلها على مدار سنين، ألا ترى أنه من المجازفة فعل ذلك والكتابة تحتاج إلى مسافة من الأحداث الجارية؟ لا يكتب الكاتب ما يكتبه إلا وهو ملتصق بكل شيء موضوعاته، خواطره، جيشان وجدانه كالتصاقه بظله، بقلبه، بالله، بوطنه، وبحذائه وقميصه وبدلته وربطة عنقه، المسافة من الأحداث الجارية هي ليست تعليمة مهنية إدارية وإعلامية فقط، فأنت في بحرك وسباحتك لا يمكنك إلا أن تبتل بالماء، وأنت في منجمك تحت الأرض لا يمكنك إلا أن تخرج أشعثا محفرا بطين وبهباب وبنثارات فحم، قوة الكتابة وسلطتها آتية من هذا المفهوم الجريء، في مجازفاتها العظيمة، في ضرباتها الإستباقية اللامتوقعة، في تطرفها ونرجسيتها وحميميتها، المغامرة الكتابية أحلى وأجمل وأكثر إنسانية من مغامرات الساسة والعسكر والأئمة· هذا النوع من الكتابة يأتي في العادة كتفريغ لمرحلة فكرية معينة، لكنك تواصل الكتابة بكثير من الإصرار ومن العناد، ما السر في ذلك ونحن نعلم مشاغلك الكثيرة؟ أعترض على مصطلح تفريغ أشد اعتراض، لم أختر حراسة مرمى الكتابة تحت طائلة مسؤولية ما أو تفريغ ما، أو توجيه أكاديمي أو إعلامي أو أبوي أو روحي، في الكتابة أحب أن أملأ ولا أفرغ، الذين يفرغون صبواتهم الصغيرة، أنا لست منهم، الحاقدون بالانتماء والهوية والحزب أنا لست منهم، ودعاة الاستنارات بكل المذاهب والألوان أنا لست منهم، غير أني سأتماهى مع مصطلحك في هذا النوع من النصوص الحرة، السلسة، غير المصنفة، وأقول لك أن أفرغ غضبي وغضبتي على التوحش والحيوية التي يمارسها ناس المدن العربية، على غياب الألفة والضحك العفوي وآداب الكلام والطعام والغناء والحب والجنس، تعيش المدينة العربية في زمن البرابرة والتوتر والهمج، وهؤلاء ليسوا فقط الكولونياليات بل هم أيضا السكان الصامدون بجرافانهم وعرباتهم وحريقهم، في الكتابة أنا أحب أن أنتمي إلى حزب الخضر ومنظمة السلام العفوية المتحدة·· وهل ستؤدي هذه التجربة لاحقا إلى كتابة روائية خالصة أو فكرية متخصصة، أم ستتواصل مفتوحة بهذا الشكل في كتب أخرى؟ علمتني الكتابة -خاصة الأسبوعية- النظام، النظام الداخلي الموزون المقفى، علمتني القلق على أوراقي وحبري ووقتي، وعلمتني العناد· في البدء لم أكن عنيدا وفي الكتابة صرت، المثابرة، الاجتهاد في صحبة قارئي - الدائم من يعرفني ومن لا يعرفني·· علمتني النزق، الطيش، التهذيب في اللغة والعبارة، فنحن نكتب الإيتيكا والجمالية والفيض الشعري، شكل الكتابة عسير أن نختاره، أنا لست ملزما بأداء فروض الطاعة أمام نظريات الأجناس، أميل إلى السرد والمعرفة والنقل والتفكير والشعرية وذلك ضامن لحضور المتعة أو ما أحب الحرص عليه، وأحب أن يشعر قارئي أنه يقرأ المقالة السردية والأقاصيص والتفاصيل ويتلصص على أبطال مفترضين وعشاق ما صاروا وقيادات فكرية انتهوا إلى حتف مشاريعهم المؤدلجة، عندما أشعر أنني فقدت مقالتي ومنصتي أكتب فورا روايتي!!!