مجلس الأمة: رئيس لجنة الدفاع الوطني يستقبل نائب رئيس لجنة الدفاع والأمن للمجلس الفيدرالي الروسي    جنايات العاصمة الاستئنافية : الحبس لثلاثيني دبّر لهجرة سرية عبر البحر ل 20 أفريقيا نحو اسبانيا    إسبانيا تفكك منظمة للاتجار بالبشر بين الدول الأوروبية    قرار رئيس الجمهورية بإنشاء هيئتين مختصتين في الاستيراد والتصدير سيمنح شفافية وانسيابية للتجارة الخارجية    غليزان.. تنصيب 13 موزعا آليا للنقود عبر المكاتب البريدية    حماس مستعدة لإطلاق سراح المحتجزين مقابل وقف إطلاق النار : استشهاد 6 فلسطينيين بقصف إسرائيلي على خان يونس    كأس الجزائر /نصف النهائي/ : "داربي" واعد بين اتحاد الحراش واتحاد الجزائر, قمة غير مسبوقة بين شباب بلوزداد ومولودية البيض    أول تعليق من أحمد قندوسي على إصابته المروعة    هدف تاريخي ومساهمات حاسمة أمام توتنهام..آيت نوري يسطع في سماء البريمييرليغ    سوق أهراس..تنظيم دورة تكوينية ل 78 مستشارا للتربية الرياضية    الجزائر العاصمة : حملات تحسيسية حول سوء استعمال الغاز الطبيعي    ملتقى دولي حول الذكاء الاصطناعي بالشلف, ضرورة الاستثمار وخلق مؤسسات ناشئة في هذا المجال    تواصل الأمطار الرعدية بعدة ولايات من البلاد إلى غاية مساء الإثنين    طاقات متجددة: إطلاق مشروع "طاقاتي+" بالشراكة مع الاتحاد الأوروبي وألمانيا    غزة: رحيل طوعي أم تطهير عرقي ؟    الانتخابات الرئاسية بالإكوادور: فوز الرئيس دانييل نوبوا في الدور الثاني    رابطة العالم الإسلامي تدين قصف الاحتلال الصهيوني المستشفى المعمداني بغزة    الجزائر اعتمدت مقاربة شاملة لمواجهة ظاهرة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر    احتجاج جزائري شديد على فرنسا    افتتاح جناح الجزائر بمعرض أوساكا كانساي باليابان    علاقات الجزائر بإثيوبيا قوية ونموذجية    هكذا حوّل الصهاينة مستشفى المعمداني إلى ركام!    إعادة ترتيب العالم أم تعميق لركوده وأزماته؟    وزارة التربية تُحذّر..    ظاهرة الكهول العزّاب تتفشّى في الجزائر    سطيف: عروض عديدة في انطلاق الطبعة الثالثة للأيام الدولية لألعاب الخفة    ما هو العذاب الهون؟    فرنسا : تنديدات شديدة بالاعتداءات المغربية على "مسيرة الحرية" المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الصحراويين    الجزائر تشارك بنيويورك في أشغال منتدى الشباب التابع للمجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة    رئيس الجمهورية: سنحقق هدف 400 مليار دولار كناتج داخلي خام    ينبغي الحفاظ على "الصورة المشرفة" للبعثة الطبية الجزائرية    اتفاقية تعاون وشراكة في التعليم العالي والبحث العلمي    مولى: 82% من مناصب الشغل الجديدة بالقطاع الخاص    بسكرة : انطلاق فعاليات المهرجان الثقافي الدولي للشعر العربي الكلاسيكي    تراجع في أسعار السردين بسكيكدة    نتوقّع مواقف جد متقدّمة من أعضاء مجلس الأمن    الفواكه البرية خطر على الصحة    شباب يتطلعون للجمال الأنثوي    تتويج أولاد الباهية (ذكور) ومولودية الجزائر (إناث) والتنظيم ينال الامتياز    غياب قندوسي لفترة طويلة يخلط أوراق بيتكوفيتش    تكريم وجوه فنية بارزة    الدورة الثامنة من 26 إلى 30 ماي    انتعاش الدراما الأمازيغية في 2025    البيض: الطريقة الشيخية الشاذلية تأكد دعمها المطلق للموقف الرسمي للسلطات العليا للبلاد    هكذا ساهم منتخب "الأفلان" في استقلال الجزائر    الكسكسي.. جزائري الأصل ب 300 صنف    المجلس الشعبي الوطني: مدير ديوان الحج والعمرة يستعرض آخر تحضيرات موسم الحج 1446ه    افتتاح فعاليات الطبعة الأولى لأيام "سيرتا للفيلم القصير" بمسرح قسنطينة الجهوي    يحي سعد الدين نايلي مديراً عاماً جديداً لصيدال    عربٌ.. ولكنهم إلى الاحتلال أقرب!    الكاف تراسل المولودية    11 موقعاً جزائرياً.. نحو العالمية    الوفاق يتقدّم..    مجمع صيدال: تعيين السيد يحي سعد الدين نايلي مديرا عاما جديدا    السهر على توفير كل التخصصات الطبية بالمصالح الطبية الإستشفائة    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    الحضارات الإنسانية لا تعادي الثقافات النبيلة    









من سرق حقيبة هذا الرجل
نشر في الجزائر نيوز يوم 27 - 02 - 2012

لا يساجل إذ هو يؤرخ أو يستصدر معلوماته ومداركه من نبع عقائدي فيزيد على التاريخ التوابل والحرقات، بل إن نية أبو القاسم سعد الله في التاريخ نية خالصة تامة، لا مِنة ولا جزاء شكورا ولا إحاطة بالتكريمات والاحتفالات...
هي ما يلزم المؤرخ، العالم، العارف، علامة الجزائر وحارس تاريخها الثقافي، حيث الواحات وسعف النخيل ولد، حيث السوف وشجرات الدخان، حيث الهواء الصحراوي والهوى الصحراوي، شظف العيش والمكابدة القاهرة، البؤس مع المكابرة، أكل القديد وانتعال الصوف والمشي حافيا في أماسي الصيف، كل شيء بمقدار كان، كل شيء يؤقت لموعده فالدنيا حرب والحرب هي المخلفات المتروكة في ثلاثينية منذرة بالويل والثبور، على هذي الأجواء تمدد الجسم الصغير والعقل الصغير لطفل اسمه ولقبه ''أبو القاسم سعد الله''.
لم يقض الفتى الوجيز من الزمن حتى صار زيتونيا يحفظ المتون ويتعلّم أبجد هوز العربية وفصيح الكلم، أتم تعليمه الزيتوني وسط النبأ الثوري العظيم - ثورة نوفمبر - ووسط الإستقطابات السياسية الحافلة، الجدل والمناظرة حول ميقات الثورة، النزعة المصالية وحزب الشعب، العلماء ونشاطهم الإصلاحي بتوجهيه الراديكالي والمعدل الذي سرعان ما تواصل أداء بكثافة وحضورا يسرق انتباه الدوائر القومية الجزائرية ومثلها فرنسا الإستعمارية، الإبن الزيتوني، الممثل للبيت الجزائري الطلابي في تونس، ثم البعثة الزيتونية برمتها بتكليف من الشيخ العربي التبسي متعاصرا مع علمين بارزين هما مولود قاسم نايت بلقاسم والجنيدي خليفة...
يروي أبو القاسم سعد الله حياته، نشأته، أحلامه وانكساراته للصحفي الجزائري مراد وزناحي على شكل محاورة مكتوبة تشكل الوثيقة والتذكار والإحتفاء بالسيرة السعدية ذات المعارف والمواهب والروافد الخصبة الولود، الشيء الكثير من علوم الفطاحل، الكتابة الصحفية الإبتدائية في جريدة البصائر، أبو القاسم الشاعر الرهيف الذي يستقرئ غيوم الثورة وانبعاثات الفعل التاريخي القريب، السيرة الشبابية في تيار العلماء.
من بعد تعب ومن بعد نكد في التوجس والمخافة من ركوب الهول التحق الكاتب، الشاعر، الطالب سعد الله بكلية دار العلوم بتمكين وإسهام العلماء، فعبد اللطيف سلطاني هو من يسّر عليه ورقة السفر المرخصة، والبشير الإبراهيمي هو من استقبله وتكرّم عليه وأنزله حسن المقام في مدينة صعبة وعرة كالقاهرة رغم أنها حاضنة راعية للفكر الوطني الثوري الجبهوي، بل إن فرعها الطلابي -كما يقول سعد الله- كان من أنشط الفروع وأبرزها، إذ تواجدت هناك الجامعات التي شهدت التوافد الجزائري الشباني الغزير، تواجدت الصحف والإذاعات، كما تواجدت الملتقيات والنوادي، فلم يكن فقط طلبة الجزائر إذ كان هناك آخرون من فلسطين والأردن والعراق، وبالمعنى الأسلم كانت القاهرة موئلا ومأوى وموطنا لذوي الرأي والإجتهاد السياسي والفكر التحرري، فهناك التقاهم سعد الله، جاذبهم المشورة وتبادل معهم الرؤية والنظر من فرحات عباس إلى يوسف بن خدة إلى كريم بلقاسم إلى بلعيد عبد السلام إلى مالك بن نبي إلى ابراهيم مزهودي، ليضاف إليهم كذلك أوعمران وبوصوف ومهري.
بعد 1959 نشط المؤرخ، الكاتب الشاعر، أبو القاسم في الصحافة المشرقية، وقد كتب في ''الرسالة'' وفي مجلة ''آداب''، فتلك مرحلة كانت هي المفرق ما بين عهدة طلابية ضاجة بالأحداث والواقعات والنوازل وأخرى سيتم الترحل نحوها بخيار المائل، الطموح، الجانح إلى شعرية ثورية محافظة تقليدية عمودية نظما وبحرا ومسلكا ومدخلا، كتابة شعرية بسيطة ومتعجلة هي لازمة التكوين والتأهيل في الثقافة العربية ببعدها الأصالي، الكلاسيكي، الأرثودوكسي.
عندما يفرش أبو القاسم ذاكرته ولمحات مركزة من أقاصي ما مضى في حياته للصحفي مراد وزناجي تلحظ الحسرة والدمع المنكفئ، الوجع القومي مخلوطا بالشخصي، إرادة الجهر بالحقيقة والصدع بالبواطن مع الخوف من ملامسة الجراح، فأي جرح وأي وجع وجيع كيما يتم التفرقة بين طلبة المشرق وطلبة أوربا.. ظلم ساد ومظلمة فاح عطرها تلقى شكواها المشرف العام على جهاز المالغ - جهاز مخابرات الثورة - في شخص عبد الحفيظ بوصوف لينادى الجميع ويستجمع الشتات للإنصات والتبادل والتفقه في علوم الثورة والوحدة وقياس الكتلة، كتلة وطنية متجانسة الروح، مختلفة المشارب، والعالم من قبل ومن بعد يمور ويصطرع، يسار طلابي عالمي غارق في الأدلوجة، وأيادٍ غربية على الزناد تتأهب وعيون ترمق صوب أفق بدأ يجلو، حضر المؤتمر واحد من المهمين، الجيدين وكان اسمه عبد الحميد مهري، ولقد ظلت التطلعات المعرفية هي السمة في حياة رجل ''مترحل'' من أجل التفوق والبروز الأكاديمي واجتيازات المسابقات، تجدد طلبه على المنحة فقبلت فكانت المحطة، حاز هذا الإفريقي الوسيم على كارت أبيض ومذكرة سماح وتأشيرة جدارة لدخول نيويورك ثم مينسوتا، سبق مشهد الرحيل إلى أمريكا لطيفة من اللطيفات التي يذكرها سعد الله في سرد خواطره.. ''محسن جزائري من ذوي المال والمصالح التجارية ومن المغدقين على الثورة بخيره، كان معروفا عند الإستعلامات الفرنسية وقطاع الضرائب، عباس تركي، عباس تركي يتقدم نحوي كي يهبني معطفا يقيني برد وعراء أمريكا، المعطف أحتفظ به إلى اليوم''،
في ذكر أحوال الذين مضوا نهتم برصانتهم، سلامة طويتهم، أريحية وجدانهم، وننساهم، ننسى عنهم نفوسهم التي تحب أن تلهو، أن تعبث، أن تصبو، وأن تستريح..
إن أبي القاسم سعد الله هاوٍ رقيق للسينما، للأعمال الغنائية والإستعراضية، وقد هام هياما بأسمهان في رخيمها العذب، وبأم كلثوم، وبنور الهدى..
في شبه مذكرات غير مكتملة يرويها الصحفي ينزع أبو القاسم إلى بيان وجه نهضوي فيه وقد تحرف فيه وامتلأ خبرات وسمات غير الخبرة والسمة الأصالية التراثية ولعلها كانت هي أيضا ملامح بارزة عند شبان الجمعية وطلبة الزيتونة، فلطالما جمعوا الإسلام والعروبة وأحبوا التسلية والشعر وغنوا الإباحي ومزجوه بالعذري، كذلك سعد الله مضى في قراءاته اللامحدودة ينهل من روايات علي الجارم وجورجي زيدان ومن جبران وأبي ماضي وما توانى عن قديم وحديث الأدب في طرافة النقائض، أدب المشرق، أدب المهجر، جماعة الديوان، جماعة أبو للو..
اعترافية وروح سجالية تتبدى في السيرة السعدية، في حياة أبو القاسم المأهولة، الطافحة بالعادات الحسنة والعاديات المشؤومة ''لمدة قصيرة سكنت مع رابح بلعيد، كان ينقم على فرحات عباس، يدعو إلى المصالية، يعادي بورقيبة ومحمد الخامس، لكن بلعيد كان يشوقني بحديثه عن كاليفورنيا التي زارها صغيرا مع الجنود الأمريكيين''.
بدأ بالزيتونة ودار العلوم القاهرية، ثم مينسوتا، ثم الأستاذية في جامعة أوكلير إلى المنحة الأخيرة وهي منحة فولبرايت، إذ مكث في الولايات المتحدة الأمريكية ثلاث سنوات من التسعينيات يحضر ويحرر في ''تاريخ الجزائر الثقافي''.
هذا المصنف المثير البالغ الأهمية والذي يستحق أن يلازم بيوت الجزائريين كما يفعلون مع قاموسي لاروس وروبير، الكتاب ذاكرة ثقافية تأثيثية للمكان الجزائري، للمؤسسة الجزائرية، الذي يستحقه هذا العمل ليس الأنصاب والأزلام ورجس شياطين السياسة بل الشمعدان، الروحية، الفرح والزهو باقتنائه، بقراءاته، أفنى فيه المداد والدم والغياب أبو القاسم حتى يعقلن لحظة جزائرية، يمدها بجسرها، يصنع لها هوية انبثاق ومعرفة لاهوية عقائد وأنفة وبطولية وفلكلور.
يحتاج العمل من أجل سعد الله فترات طوال من المدارسة والقراءة والسؤال والمساجلة، يومياته ''مسار قلم'' في مجلداتها الخمس غير الكاملة تغطي حياة تفصيلية زاهرة، زاخرة فيها المعاني الحسان، الأمكنة المثيرة، المدن المألوفة والغريبة، الناس الذين يمرون والذين ينسون والذي لا يمرون ولا ينسون، التواريخ، كتابته في اليوميات تسرق الشوق واللهفة لمعرفة رجل ثقافة كامل الصفات ومكتمل الدسم ومكتمل المواهب، يقرأ الحواديث، يقرأ خبث التاريخ ويقرأ خبث الساسة، من سرق حقيبة هذا الرجل، من سرق عباءة الحاج ديكارت الجزائري ...
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.