إن كانت الجزائر ثرية بمناجمها الطبيعية وما أنعم الله به عليها من خيرات وأفاضه من جمال، فهي كذلك ثرية بمناجم الرجال والمثقفين الذين لا ينضبون، فهي منبع للحب والفكر والشعر والخير، كما هي فيض للبهاء والسناء والإباء، هي الجبال التي يغسلها الثلج وتقبلها الغيوم والسحب، وهي البحر الذي يخطف زرقة السماء وخصائل الشمس، وهي الصحراء والنخيل والحلم، هكذا كانت الجزائر في عيون أبنائها وأبطالها، وهكذا بايعها الشاعر الفحل والمثقف الكبير، الأستاذ الدكتور صالح خرفي، رحمه الله. قد يعتقد البعض أن الجزائر لم تنحت الشعر إلا من الصخر الصوان، واللهب البركان، ويظن البعض أن أكباد الجزائريين من حجارة صماء لشجاعتم، لكن الكثير يجهل أو يتجاهل أن الجزائر بكل ما فيها من قسوة الجمال، فيها من دفقه العذب ولونه الصافي، وجدوله الإنساني الذي لا يسقي إلا حقول الحب والصفاء والدفء والضوء. رجل هو من الواحات الجزائرية التي تتدفق ثمرا وماء، وتسيل عذوبة وشعرا، وتتفجر علما وفكرا، إنه الشاعر والأديب صالح خرفي الذي قد يجهله البعض، بل ربما يجهل اسمه فيما أنه يحفظ كلماته ويرددها كل ذات عيد استقلال وحرية بصوت أميرة الطرب العربي السيدة وردة الجزائرية في أنشودة »من بعيد« و»نداء الضمير«.
من هو الدكتور صالح خرفي؟ الدكتور صالح خرفي من مواليد القرارة بوادي ميزاب، وكان ميلاده سنة ,1932 وعندما بلغ مبلغ السن الدراسي التحق بمدرسة جمعية العلماء بباتنة سنة 1938م ليواصل بها دراسته، ثم عاد إلى مسقط رأسه مدينة لقرارة ليواصل دراسته بها حيث التحق بمدرسة الحياة، فحفظ القرآن الكريم سنة ,1946 ثم واصل دراسته الثانوية في معهد الحياة حيث درس العلوم الشرعية والأدبية، وعندما أصبح له محصولا علميا من هذه العلوم غادر أرض الجزائر الى تونس، حيث انتسب إلى جامع الزيتونة سنة 1953 ومدرسة الخلدونية حيث أخذ على علمائها. لم تنحصر حياته بتونس في العلم فقط، بل تعدته الى القيام بنشاطات أدبية وثقافية متنوعة من مجال الصحافة بكتابة مقالات في الجرائد، بالإضافة الى قنوات الإذاعة حيث كانت تبث قصائده الشعرية، كما كان من بين المنخرطين في منظمة اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين فرع تونس سنة ,1956 كانت حينها الثورة في أشدها مندلعة في سائر الوطن الجزائري، وللتعريف بهذه الثورة المباركة شد الشاعر صالح خرفي الرحال الى المشرق باسم مستعار، وشارك في الكثير من الندوات الفكرية والأدبية معرفا بالقضية الجزائرية ملقيا قصائده المدوية وممجدا للبطولات التي يسجلها شعبه في المدن والجبال والصحاري. في سنة 1957 حل بمصر واستقر بعاصمتها القاهرة والتحق بكلية الآداب في قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة، حيث نال منها سنة 1960 شهادة ليسانس. عاد من القاهرة إلى تونس في مهمة كلفته بها وزارة الداخلية في الحكومة المؤقتة الجزائرية الى غاية استقلال الجزائر، حيث عاد الى الوطن وأسندت إليه مسؤولية العلاقات الثقافية بين الجزائر والبلاد العربية في وزارة التربية الوطنية. لم يتوقف صالح خرفي عن طلب العلم والبحث والدراسة، حيث سجل رسالة ماجستير في نفس الجامعة التي تخرج منها وكانت تدور حول شعر المقاومة الجزائرية، ونوقشت رسالته وتحصل على شهادة الماجستير بتقدير امتياز، كما تفرغ سنتي 68-1969 لإعداد رسالة الدكتوراه التي خصصها ل»الشعر الجزائري الحديث« ونال هذه الشهادة سنة 1970م. عاد الى الجزائر وتولى سنة 1971 رئاسة معهد اللغة والأدب العربي وبقي في منصبه هذا الى سنة 1976م، حيث غادر الجزائر بعد أن تم تعيينه في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ليستقر في القاهرة الى بداية الثمانينيات، لتنتقل الجامعة العربية بمقرها ومصالحها المختلفة الى تونس، فينتقل صالح خرفي الى تونس الشقيقة بعد اتفاقية كامد يفيد المشؤومة. في تونس واصل نشاطه وتولى رئاسة تحرير »المجلة العربية للثقافة« سنة 1981 واستمر في إدارتها الى غاية التسعينيات من القرن الماضي. أحيل على التقاعد وبقي الشاعر الدكتور صالح خرفي في تونس مواصلا أبحاثه العلمية، خصوصا تاريخ الحركة الوطنية التونسية وشخصية عبد العزيز الثعالبي، حيث أخرج حول حياة هذا المناضل المجاهد وهذا الزعيم كتابا تحت عنوان »الشيخ عبد العزيز الثعالبي.. من آثاره وأخباره في المشرق والمغرب«. ثم ألف كتابه الذي ظل مخطوطا »الرسالة المحمدية« ومن إنتاجه الفكري المطبوع: » شعراء من الجزائر، صفحات من الجزائر، الشعر الجزائري الحديث، الجزائر والأصالة الثورية، شعر المقاومة الجزائرية، في ذكرى الأمير عبد القادر الجزائري، في رحاب المغرب العربي، صرخة الجزائر الثائرة، أطلس المعجزات، في الأدب الجزائري الحديث، عمر بن قدور الجزائري، حمود رمضان، محمد السعيد الزاهري، محمد العيد آل خليفة، الأديب الشهيد أحمد رضا حوحو في الحجاز«. الدكتور صالح خرفي رحمه الله، تتلمذ على شيوخ لهم ثقلهم العلمي والاجتماعي أمثال الشيخ بيوض، الشيخ عدوان، الأستاذ محمد علي دبوز، الناصر المرموري والشيخ إبراهيم آداود. كما كان الدكتور صالح خرفي من المعجبين بالإمام محمد البشير الإبراهيمي وكانت له علاقة به أيام تواجده بالقاهرة.أما شيوخه ومن أثروا فيه خارج الجزائر، خصوصا أيام دراسته بالزيتونة، الشيخ الفاضل بن عاشور. وفي القاهرة كان صالح خرفي مستواه العلمي والمعرفي عاليا، وهذا يرجع الى التحصيل الذي حصله في معهد الحياة وجامعة الزيتونة، إضافة الى احتكاكه بكبار شيوخ العلم ورجالات الفكر في كل من الجزائروتونس. انتقل الدكتور صالح خرفي الى رحمة ربه في 24 نوفمبر من عام 1998 بتونس إثر مرض أصابه، ونقل جثمانه رحمة الله عليه إلى مسقط رأسه بالقرارة بوادي ميزاب. تحضرني هنا رواية سمعتها ولست أدري مدى صحتها، أن الدكتور صالح خرفي رحمه الله كان في ملتقى أو في ناد من النوادي الثقافية بالقاهرة أيام الثورة التحريرية وكانت أيامها الثورة الجزائرية في عز عطائها النضالي والجهادي وكانت تشكل قضية الأمة العربية فعليها اتحدت رغم خلافاتها السياسية والإيديولوجية، كان الدكتور صالح خرفي في هذا النشاط الثقافي والذي كانت الثورة الجزائرية محوره، وقد ظن من كان ينشط أن الجزائريين ضعفاء في اللغة العربية أو هكذا سولت لهم أفكارهم، فكتب الشاعر صالح خرفي قصيدته الموسومة بنداء الضمير وبخط مغربي وطلب من منشط تلك الأمسية أن يقرأها على مسامع الحاضرين، ولكن المنشط لم يستطع حل حروف الخط المغربي مما اضطره الى أن يطلب من صالح خرفي الصعود الى المنصة فصعد وقرأ وصيته »نداء الضمير« والتي جاء فيها : ''يا حبيبي ذكريات الأمس لم تبرح خيالي كيف تغفو مقلتي عن حبنا عبر الليالي لا تلمني إن ترامت بي أمواج البعاد لا تلمني لم يزل يخفق للحب فؤادي غير أن القلب هزته نداءات شجية صعدتها في دجى الليل قلوب عربية فتراءت لي وراء الصوت أعلام البشائر فوهبت الحب قربانا وبايعت الجزائر'' هذه القصيدة الرائعة التي لحنها الموسيقار المبدع رياض السنباطي وغنتها أميرة الطرب العربي السيدة وردة الجزائرية في ستينيات القرن الماضي (1960)، أي قبل استقلال الجزائر، حيث تواصل أبيات القصيدة لتؤكد أنها قيلت قبل الإستقلال : '' فتعالت صرخة الرعب بأمواج البلايا فاستحال الورد شوكا ودماء وضحايا يا حبيبي لم أخن عهدي ولا خنت هوانا غير أن الحب أمسى ثورة بين الحنايا لك حبي يوم تعلو بسمة النصر سمانا ويزيل الظلم والآلام فجر من دمانا سوف ألقاك مع النصر وأفراح البشائر سوف نبني عشنا في ظل تحرير الجزائر'' وعندما ألقى الدكتور صالح خرفي هذه القصيدة رافقتها موجة من التصفيق والإعجاب، وبعد الاستقلال غنت له وردة أغنية أخرى أصبحت مقرونة بعيد استقلال الجزائر، الأغنية التي كتبها الدكتور صالح خرفي ولحنها الموسيقار بليغ حمدي وغنتها المطربة وردة الجزائرية في الجزائر ونالت شهرة كبيرة، وهي أغنية ''من بعيد''.. '' من بعيد.. أدعوك يا أملي وأهتف من بعيد''... هو ذا الشاعر الفحل الذي وهب عمره كله للثقافة العربية وللوطن، وواصل مسيرته الوطنية مجاهدا بقلمه وشعره، إنه الشاعر الفحل صالح خرفي، لو كان هذا الشاعر في أرض غير أرض الجزائر لوضع له تمثال نظرا للأعمال الجليلة التي قدمها والآثار العلمية التي تركها، وهي عشرات المصنفات.. فرحم الله الشاعر وجزاه عنا حسن الجزاء.