يتفق أهل الفكر والثقافة والمعرفة بأن الأمية ظاهرة اجتماعية سلبية ملازمة للإنسان في الدول المتخلفة والمغلوبة على أمرها، وحتى تلك الدول المتطورة لم تكن بمنأى عنها، كما تستعمل الأمية في بعض الحالات كوسيلة قهر واستغلال من الإنسان العارف للقراءة والكتابة، وتفضيله عن ذلك الإنسان الموصوف ب ''الأمي'' أو ''الجاهل'' وإن كان مؤدي المعني غير ذلك، إلا أنه وبعد التطور السريع للحياة البشرية وانقسامها إلى شعوب وأمم وقبائل وأقطار ودول أخذت فيها ظاهرة الأمية عدة مفاهيم وتعاريف حصرتها منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم ''اليونسكو'' عام 1958م في عدم قدرة الأمي على قراءة وكتابة عبارة بسيطة عن حياته اليومية أو عن كل ما يتعلق بمسيرة عمله بأية لغة لم يكتسبها من مدرسة ابتدائية أو مؤسسة تجاوز سنة الالتحاق بها. لكن بفضل التطور الفكري والمعرفي الذي واكب مختلف الحضارات، أخذ الأمي والأمية المعاصرة والأمية الحضارية وما تفرع عنهم من أميات عديدة ومتعددة كالأمية الثقافية والأمية الوظيفية والأمية التكنولوجية والأمية العلمية (المعلوماتية البيئية السمعية البصرية الصحية الجمالية) والأمية الدينية واللغوية والسياسية، التي أصبح فيها للأمي تعريف آخر، بأنه ذلك الشخص المستقل الذي لا دليل له ولا فضل لأحد عليه، لا تحكمه قواعد لغوية أو علمية في مختلف أقواله وتصريحاته، لأنه عاجز عن التواصل مع غيره، خارج الخطاب الشفهي المتداول بين المجموعة الإنسانية الواحدة، لكن وبفضل تطور وسائل الاتصال بين المجموعات البشرية وتوسيع دائرة التعلم والكتابة واستعمال الحروف، وكتابة الكلمات لأكثر من ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد لدى الأمم والشعوب السبّاقة لمعرفة الكتابة والقراءة وتعليمها للآخرين عن طريق المدرسة والمؤسسة ووسائل التواصل، التي رافقت التقدم الحضاري، أخذ مفهوم آخر تمثل في ذلك الشخص الذي لا يعرف كيف يعيش ولا يعرف ماذا يدور حوله من أحداث فكرية معرفية وسياسية في مختلف الأنظمة الليبرالية والاشتراكية، هذه الأخيرة التي أخذ فيها معنى رفض النزعة العرقية والتعصب والعنصرية الثقافية والمعرفية بين الأمي الجاهل وبين العارف المثقف العصري الذي لا يعرف كيف يوظف قواعد النحو والصيغ البلاغية والمفاهيم والمصطلحات ومعالجة المعلومات الإعلامية كالسمعي البصري والصحافة المكتوبة والتواصل الاجتماعي والإلكتروني، وغيرها من أساليب اللغة المستعملة في إيصال الفكرة إلى الآخر، من خلال الكفاءة العالية لاستخدام وسائل الاتصال التكنولوجي الحديث، تلك الأمية المتعارف عليها بين الأميين والعارفين التي لا تشكل خطرا على الحياة اليومية للمواطن، اللهم إلا التخلف والانصياع للآخر. لكن الخطر الجارف هو ما يكمن في تلك الأمية المتعلقة بالسياسيين الأميين المعبّر عنها عند العارفين، بالأمية السياسية، التي يقصى فيها المواطن من المشاركة أو المساهمة في صنع القرار، بإبعاده عن كل ما يتعلق بالشأن العام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، والجهل بالآليات القانونية للدولة وكيفية تسييرها ومعالجتها للمشاريع والقضايا والأزمات والعلاقات الداخلية والتعامل الخارجي. والجزائر كغيرها من الدول أصيبت بالتخلف والحرمان الثقافي والإعلامي وعاشت ردحا من الزمن تحت نير الاستعمار وأجواء الحروب والاضطرابات السياسية والاجتماعية الطويلة، كادت أن تفقدها هويتها وثوابتها بسبب تفشي ظاهرة الأمية السلبية بمختلف أشكالها، لكن ومنذ استعادة السيادة الوطنية والاستقلال 1962 عرفت الجزائر طفرة نوعية مميزة في مجال التربية والتعليم الإجباري، ساعد بالقضاء على مختلف أشكال ومخلفات الأمية التي كانت متفشية في الذهنيات والأفكار الشعبية، اللهم إلا تلك الأمية السياسية التي ما زالت تنشر ضلالها بين العقليات والأفكار المتحجرة التي أفرزها دستور فيفري عام 1989 المتضمن التعددية الحزبية، تاريخ ظهور الأمية السياسية في الجزائر، حيث أصبحت فيه السياسة وظيفة ومنصب عمل لمن لا عمل له، تجمع فيه الوصوليون والانتهازيون ومرتزقة ''الهدرة'' والثرثرة ومدعو السياسة من الأميين وأنصاف المثقفين الذين أدخلوا البلاد والعباد في مآزق سياسية وأغرقوا الأمة في جدالات عقيمة لا فائدة منها، دفعت بالجميع إلى تلك الدوامة المأسوية التي أنهكت البلد وأثقلت كاهل الشعب وجمدت الحركة السياسية الوطنية الحقة (العشرية السوداء) بفولكلورية المجتمع الجزائري، بسبب غياب الآليات القانونية والرؤية الواضحة والمنهج السياسي الذي تحدد من خلاله الممارسة السياسية وكيفية التعاطي مع القضايا والإشكالات السياسية المطروحة، تلك الممارسة التي تتطلب درجة فكرية ومعرفية وحنكة سياسية تؤهل المحترف السياسي لاستيعاب القضايا الاستراتيجية المصيرية الدقيقة للمنظومة السياسية، التي تهدف الدولة إلى إنجازها وترسيخها وفق القوانين والتشريعات اللازمة لتلك الخطة المرحلية الحساسة، بعيدا عن سياسة الغرائز العشائرية والأهواء الأيديولوجية والميولات الحزبية والانتماءات المذهبية وكل ما يتعارض والمصلحة العليا للوطن. الأمية السياسية التي ما زالت الدولة تدفع تبعاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتنموية، نتاج طروحات الأمي السياسي الجاهل بمبادئ وقيم وأصول وأساسيات العمل السياسي، بل التمادي في نشرها بين الناخبين من خلال تلك الخطابات الأضحوكية التي لم توضح للمنتخب مدى أهمية مشاركته في الحياة السياسية وإحساسه بالمواطنة وحقوقه المكفولة دستوريا. تلك الخطابات الأضحوكية المنفرة الخالية من الضوابط اللغوية وفنيات الخطابة البديعية والبيانية، وتوظيف المصطلحات والأفكار العلمية والسياسية والنطق السليم المعبّر عن طموحات وانشغالات المجتمع، المراد مشاركته ومساهمته في التحوّل السياسي والديمقراطي، الذي تطمح إليه الجماهير والأمم والشعوب بعيدا عن الوعود الكاذبة والواهية كاستغلال شواطئ البحر الأبيض المتوسط ونقلها إلى برج باجي مختار صيفا، التي وعدت بها أحزاب الطبيعة، أو ضمان مقعد وحورية في الجنة لكل من يصوت على قوائم الأحزاب الدينية (عودة صكوك الغفران) عقد معاهدات دولية حول السكن والعمل بالخارج لكل من يريد الهجرة (أداب الحرقة) بالمجان ودون تأشيرة لكل من ينتخب على الأحزاب الديمقراطية، وهنا يموت أو يعيش قاسي لكل من ينتخب أو لا ينتخب على الأحزاب الوطنية، ذلك إلى جانب خروقات قادة الأحزاب وممثليهم ومناضليهم (إن وجدوا..) للمادة الثالثة مكرر من دستور 2008 المصدر والمرجع الأساسي للتشريع الجزائري التي تنص على أن (اللغة العربية هي اللغة الوطنية الرسمية، تمازيغت هي كذلك لغة وطنية تعمل الدولة على ترقيتها وتطويرها بكل تنوعاتها اللسانية المستعملة عبر التراب الوطني) التي أصبحت في حاجة إلى أمن قومي لغوي وثقافي، أولئك الذين يطمحون أن يكونوا في يوم من الأيام (إن كان للحياة بقية) سادة أو قادة هذا الوطن العملاق بأرضه وشعبه وتنوع ثقافته. وهم غير قادرين على مخاطبته بلسانه (الشاوية القبائلية الطارقية المزابية الحسانية تاشلحيت) بل التمادي في عدم احترام قوانين الجمهورية خاصة القانون رقم 91 - 05 المعدل والمتمم، المؤرخ بيوم 16 / 01 / 1991 المتعلق باللغة العربية رمز الهوية الوطنية وغيرها من القوانين المنظمة للحياة والعلاقات الاجتماعية المتمثلة في الإدارة الجزائرية، حيث مازال أولئك ''الهدارون''. والثرثارون لم يفلتوا من دائرة الأمية السياسية بمخاطبة جيل الاستقلال من الفلاحين والتجار والحرفيين بتلك المناطق وأماكن أخرى ''بهدرة'' لا شرقية ولا غربية، لا وقع لها في ذاكرة المواطن المنتخب، مما زاده هروبا وعزوفا عند كل موعد انتخابي، خاصة موعد الانتخابات البرلمانية التي لم يهتم بها المترشحون قبل المنتخبين، لرفعهم شعارات مرعبة وقوائم لأسماء فتانة ومنفرة، مغذية للأمية السياسية التي غابت عنها الثقافة الانتخابية والوعي السياسي الذي يمكن من ترغيب وتحبيب المواطن وتقريبه من ممارسة حقه الانتخابي والسياسي عند كل استحقاق تصحيحي أو تنظيمي أو تشريعي كالذي سيجري يوم 10 / 05 / .2012