هذه شهادة محمد ب، وهو ناشط سوري تعرّض لإصابة على مستوى الوجه في الأسبوع الثالث لانطلاق الثورة السورية بمدينة درعا، يروي فيها تجربته الإنسانية والسياسية، بعد مرور عام على انطلاق قطار الثورة، الشهادة ننشرها كما كتبها باللغة الإنجليزية في مدونته على موقع das magazine الألماني. 19 ماي 2011، هذا التاريخ قد لا يعني شيئاً للكثير من الناس .لكنه أكثر من مهم بالنسبة لي ..إنه اليوم الذي تحوّلت فيه من ناشط داخل سوريا إلى لاجئ! في هذا التاريخ تحديداً (19 ماي) استيقظت مفجوعاً وخائفاً على وقع كابوس فظيع أرقني.. كانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً عندما هرعت من الفراش نحو والدتي أقول لها: ''لا بد أن أغادر المنزل في أسرع وقت ممكن، لا أريد أن يصيبكم مكروه بسببي ...''، حاولت أمي تهدئة روعي وهي تبذل جهدها لفك أسرار الكابوس ''رأيت رجال الأمن يقتحمون منزلنا ويضربون إخوتي ..لا أريد أن أرى ذلك واقعاً، لذلك عليّ المغادرة'' قلت لها وأنا أقرر الخطوة القادمة، لكنها أصرت ''ما رأيت كان مجرد حلم مزعج ..يا بني قالت، قبل أن تضمني إليها بحنان.. وتمنيت لو أن هذا الاحتضان استمر إلى الأبد، لكنني كنت قد اتخذت قراري. لم أكن أريد أن تؤذى عائلتي بسببي .منذ أن اخترقت رصاصات الأسد وجهي وخلفت إصابات بليغة فيه ..وكان ذلك الجرح دليلاً واضحاً للإدانة بتهمة المشاركة في المظاهرات المناهضة للنظام، حيث كان الأمن يحيط كل زاويا درعا، ويقتحم منازلها بحثاً عن الناشطين المعارضين للنظام. لم أكن أريد أن يتم القبض على إخوتي بسببي، كما لا أريد أن أقتل أمام أعين والدتي ..ليس لأنني كنت خائفا من الموت، حيث كنت على مقربة منه قبل ثلاثة أسابيع من ذلك التاريخ -عندما تعرّضت لإصابة بالغة على مستوى الوجه - ولسبب ما، فإن تلك الإصابة لم تكن مؤلمة بالنسبة لي، وأنا لا أمانع أن أموت من أجل حرية بلدي .ولكن أنا أحب حياتي لمجرد أنني أخشى من دموع أمي ..تلك الدموع التي كانت تنهمر خشية عليّ ..وأنا أحاول طمأنتها :''غيابي لن يدوم لفترة طويلة.. سأعود عندما تندمل جروحي''. كانت وجهتي مصر، حيث لديّ صديق مقرب، ونظرا لإصراري قررت مبدئياً أن أنتقل إلى دمشق، حيث أن الوضع أقل سوءا، ذهبت إلى غرفتي وبدأت أستجمع حقيبتي الصغيرة .لم يبق لديّ الكثير من الملابس بعد أن مزّقت معظمها خلال المظاهرات، كما لا يمكن شراء ملابس جديدة بسبب إغلاق الأسواق .ذهبت لغرف إخوتي لتوديعهم .لكنهم كان يغطون في نوم عميق ..قلت يكفي أن أراهم نائمين، فليس هناك ما يستحق الوداع. غطيت وجهي بوشاح كبير، حتى لا يلاحظ أحد إصابتي .كان الناس في الطريق المؤدي إلى دمشق يعتقدون أنني أغطي وجهي بسبب البرد .ومن على الحافلة الصغيرة التي أقلتنا شاهدت رتل الدبابات تملأ الشوارع، والجنود في كل مكان يوقفون السيارات ويدققون في بطاقات الهوية بحثا عن الإرهابيين! مررنا بخمس نقاط تفتيش من البيت إلى المحطة، وفي كل مرة كنت أدعو الله أن لا يكتشفوا أمري وأقع في أيدهم ..كان مشهد الجنود مرعب وهم يرفعون عتادهم وأسلحتهم أمام المدنيين، ولكن على الرغم من بشاعة المشهد، ولسبب ما، لم أشعر بالخوف على الإطلاق. عادة ما تكون هذه الرحلة من درعا إلى دمشق تستغرق 90 دقيقة، ولكن في ذلك اليوم استغرقت نحو أربع ساعات، بسبب وجود نقاط التفتيش المنتشرة على طول الطريق .مرت علينا أكثر من 20 نقاط التفتيش، وظللت أقول لنفسي :''لقد واجهت أصعب من هذا، لا بأسب، وبعد كل نقطة تفتيش كنت أشعر بمزيد من الثقة. كان الوضع هادئا جدا عندما وصلت دمشق، والحياة في الشارع بدت طبيعية، لكن سرعان ما شعرت بالخوف .عندما اكتشفت زيف ذلك الشعور، وأن العديد من رجال الأمن ينتشرون في الشوارع بملابس مدنية، وتتدلى بنادقهم من تحت معاطفهم... شعرت فجأة أن شخصا ما يطاردني .غيّرت الاتجاه، وقررت عدم التوجه إلى أصدقائي. وعبر شوارع ملتفة سلكت دربا آخر إلى أن تأكدت تخلصي من هذا الشخص الذي كان يسير ورائي، لذلك ذهبت إلى مطعم بدا لي خاليا تقريبا، مما شجعني على طلب بعض الطعام ..في تلك اللحظة لم أكن أقوى على تناول الطعام بسبب كسر في عظام الوجه ..لا أستطع حتى فتح فمي بشكل صحيح.. وشرب كوب من الماء يأخذ مني نصف ساعة، وذلك باستخدام ملعقة للشرب.. وهو الأمر الذي كان يلح عليّ بضرورة الانتقال إلى مصر للعلاج. إتصلت بصديقي وحدثته بلغة مشفرة عن الوضع في دمشق وسألته ما إذا كان بإمكاني أن أنزل ضيفا عليه .أجابني :''بالطبع، لا تضيع المزيد من الوقت، احجز رحلتك وغادر دمشق فوراً''. بينما كنت في طريقي إلى المطار حاولت مراراً الاتصال بوالدتي، لكن الخطوط جميعها كانت معطلة، قلت ربما من الأفضل أن أتصل بها من مكان آمن في مصر'' .بعد ساعات من الانتظار توجهت نحو بوابة المغادرة في المطار، كان الضابط القابع خلف المكتب يفحص بعناية جواز سفري ويقارن اسمي بأوراق معدة لديه، وكنت أعرف أن تلك الأوراق كانت القوائم السوداء للأشخاص المطلوبين للفروع الأمنية. شعرت برعب عظيم، وزاد فزعي عندما طلب مني خلع الوشاح الذي ارتديه في وجهي ..لقد فعلت ذلك في حين خوفي كان يقتلني وساقي لم تكن قادرة على حمل جسدي النحيل، لكنني حاولت جاهداً إخفاء ذلك، وكنت موقناً بعد كل تلك الحواجز الأمنية التي مررت بها في طريقي لا يمكن أن يكون اسمي مدونا في القوائم السوداء. سألني الضابط عن الندوب على وجهي وإذا كنت قد شاركت في المظاهرات، أجبت بالنفي، مؤكداً أنها إصابة تعرضت لها في حادث مرور بدمشق، طلب مني أن أتبعه نحو غرفة صغيرة تحوي طاولة وكرسيين، دخلت خلفه وجلست وجواز سفري لا يزال في يده، بعد بضع ثوان دخل إثنين من الضباط وبدآ في طرح الأسئلة ..وكانا يتحدثان ويسألان في الوقت نفسه. لم أكن أفهم معظم أسئلتهم، لكن السؤال الذي تكرر كثيرا كان عن الجروح والندوب في وجهي وما إذا كنت قد شاركت في المظاهرات .ظللت هادئا قدر ما أستطيع، وقلت لهم إن ذلك جراء حادث مرور مروع تعرّضت له في دمشق، علق أحدهم: ''لقد أصدر جواز سفرك في درعا، لذلك يجب أن تكون من درعا وإصابتك هذه لابد وأنها نتيجة مشاركتك في المظاهرات''، أجبته بثقة: ''هذا صحيح !جواز سفري صادر من درعا لأنني في الأصل درعاوي، لكن أنا لا أعيش هناك .لقد ولدت في دمشق، حيث أعيش منذ ولدت، وأنا طالب في جامعة دمشق وهذا مثبت في وثائقي وجواز السفر كذلك، ولا علاقة لي بالمظاهرات''. شعرت أنهما لا يصدقاني ..خطرت فكرة في ذهني قبل أن أضيف: ''أنا ذاهب لزيارة صديقي في مصر، وسأعود قريبا لإجراء امتحاناتي في الجامعة، انظر !لقد حجزت تذكرة العودة إلى دمشق بعد أسبوعين''، قلت ذلك في الوقت الذي أخرجت فيه التذكرة من جيبي، ودسست فيها بعض المال. وسلمتها للضابط ...تفحص التذكرة جيدا ووضع المال بسرعة في الدرج ثم نظر إلى زميله لبضع ثوانٍ وأعطاني مرة أخرى جواز سفري والتذكرة، وقال لي تستطيع أن تذهب الآن .وهرعت إلى الطائرة. جلست في مقعدي بالطائرة، وأبقيت عيني على البوابة، لأنني كنت أخشى في كل لحظة أن يدلف رجال الشرطة نحو الطائرة بحثاً عني ولم تتبدد مخاوفي إلا بعد إقلاع الطائرة. جلست أمام النافذة ونظرت إلى الأسفل وبلدي تغرق في محيط من الغيوم وتبعد أكثر في كل لحظة، تشبثت بالأمل وبالثقة وقلت: ''لا تقلقي يا أمي، سأعود إليك مهما طال الزمن ...ربما كانوا قادرين على إخراجي من وطني، لكنهم لن يقووا على إخراجه من دواخلي''.