يلمح بعضهم إلى العودة الروسية، عودة للجيوستراتيجي، عودة للأمني وتمثلاته، عودة للرمزية الروسية في الاسم والثقل والهيمان، عودة للفكر الروسي ببصمته الوعرة وشوفينيته التي لا تضاهى، يندر لها المثيل ويغيب عنها القياس والتطابق، عبر التناوب المشبوه على سدّة الكرملين بين الرّديغين المرحين، الرئيس بوتين والرئيس ميدفيديف وعبر الطريقة هذه في الظرافة والتهتّك وخفة الكائن التي لا تحتمل في كائنين هما بوتين وميدفيديف، فلاديمير وديمتري، أي عبر هذا السلوك الغرائبي، الدرامي، السينمائي وبسببه تشرق روسيا اليوم كتابة وربورتاجات، آداب وتحاليل وكاريكاتورات، صنعة مقالات ورؤى ومقاربات.. تشرق روسيا - حيث لا شمس في روسيا - مثيرة جدلا وشهوات وهوس، المجلات تفرد لها الملفات، القنوات تتابع المسار الروسي واتجاهات ريحه، وأهل الفكر والأدب والجمال ما ابتدعوا شيئا من خيالهم، فروسيا لها التاريخ كله في وهجه وبريقه، في عنفه واندفاعاته، في هيجانه المسعور وفي لفيف دباباته وطائراته وصواريخه، وجه من أوجه الغرابة ملهم وباعث للسخرية حتى.. لا في العنجهية والصلابة والحدّة خلاف عالمي، أممي، إذ لطالما كانت روسيا القياصرة المبكرون الأوائل في التاريخ هي هكذا في المتن الثقافي وفي النثر التوثيقي وفي المدونات وأدب الرحلة، قوم شداد غلاظ، يعصون الله، فلا ديانة لهم إلاّ أن فيهم ومن بينهم النصراني الأرثودوكسي والمسلم على عجمة لسانه ولبس تأويله للدين واليهودي بأقلويته وتطرفه، مزارعون أجلاف وفقراء أقاليم وجمهوريات منتمية إلى الدولة العظمى، الموحّدة لهم، الظالمة الاستبدادية التي لا يسمع بها إلا في دويّ الحروب وتصوينات مجلس الأمن أو إرهابات مجلس الدوما.. روسيا في المخيال والفنتازم مرعبة حقا تزن بالأطنان وتزن بالطنين حتى تتعب الأذن وتغادر الرهافة وتتيبس القريحة... ليس لها وجه ظريف صحيح إلا في هذا التناوب المشبوه بين الرفيقين الأعظمين ميدفيديف وبوتين، إنه ضحك ولهو ولعب وجد وسلاسة وديمقراطية وأسلوب حياة، وستظل الكتب تصدر وبحوث الأنترنت تتوالى والملتقيات تعقد حول الدب الأبيض، القطب الشيوعي السابق حول بلاد شولوخوف والدكتور زيفاكو والفن البيزنطي وموسيقى كورساكوف وتشايكوفسكي وكتابات استرافنسكي في الباليه ومسرح البولشوي ومسرح استانسيلافيسكي في الذاكرة الآبائية، الروس كانوا عظمة، عتاة عنيدون، مصدر اباء ومنعة وقطع سلاح وتفجير ونووي، كانوا المثال في الساحة، اللاّعب المحترف في أرضه وخارج أرضه، السلطان الموهوب الموفور الهبات والهيبة، يحضر عند آبائنا صورا لنيكيتا خروشوف، لليونيد بريجئيف، الحرب الباردة وحرب النجوم، القبضة بالنار والحديد ومغالبة أمريكا والصعود إلى القمر ولم نحفظ نحن جيل الأبناء من الأبجدية الروسية إلا يوري غاغارين، كنا نتخيله وهو يرفس بقدميه القمر كأنها الحقيقة ونحن نعجز من وضعها في نصابها الدنيوي، العقلاني، شيء من السحر والخرافة صنعه الروسي وهو يضحك علينا كما في أفلام الكارتون وكنا نقرأ الكراسات الدعائية والمجلات الصغيرة التي نعثر عليها عرضا أو في زيارات معرض الجزائر الدولي السنوي مدفوعين إلى أقصى الأحلام بالسفر إلى سانت بترسبرغ، أو لينينغراد أو كازان، وعواصم أخرى من جمهوريات الشرق الأوروبي بودابيست وفرصونيا وبلغراد وبراغ وبرلين وصرفيا ووارسوا وألماتا وسبليت... إن الحلم الروسي- بالحق - لم شاغلا لشبيبتنا - طفولة ومراهقة ورشدا - فمن منتصف الثمانينيات تسرّب إلى أسماعنا سرب حكايا عن بطولات الأفغان وجهادهم في صد العدوان والمكائد والقهر، فبدأنا نسمع عن أفغانستان وحربهم الدامية عن كراماتهم اللاّمتناهية، عن أطفال الجهاد الذين يخرسون فوهة الدبابة وفوهة اللسان وفوهة القلم، كانت الحكايا تستميلنا إلا قليلا، فنبهت ونخنع ونتأمل ونستقرئ طوالع العظماء من الروسيين والأفغان على حد سواء... من قسطنطين تشيرلينكو إلى أرندي غروميكو إلى ميخائيل غورباتشوف، ومن نجيب اللّه إلى عبد رب الرسول سياف وقلب الدين حكمتيار وبرهان الدين رباني وصبغة الله مجدّدي أتانا، هكذا الحكي الروسي في غرائبيته، نثر ومتن قتالي وخطاب في الموت والاحتلال والقبض الشرس على جزء من هذا العالم التعيس، النّحس، بل كانت خبريات البرافدا والنوفسي وجهالات الكاجي بي من ذلك الخطب العظيم الذي يمسّ الشفاف ومجامع القلب والنهى ويعطي لحكاية حكايتنا الشيء الممكن من المعرفة المكابرة وحسن ادعاء في الفهم السياسي الدرامي لهذا العالم، نقلا عن مصادر مهموسة غير مأذونة هي الأب الغارق في نومه على مخدة الإمبراطور.. لقد ظهر ميخائيل غورباتشيف على أول ما بدأنا نفهم في السياسة، رجلا كامل الصفات، ألطف من متغطرسين سابقين، حميم في روسيا العداوات والأحقاد، غير محارب ولا أيديولوجي متهور ستاليني، تعلوه شارة حمراء وعلى جبهته لطخة دم معروفة شكلت صورته السلمية اللاّصدامية، تخلى غورباتشوف عن تشريعات الحكومة الاستبدادية، سنّ سياسة الغلاسنوست، أدخل إلى الأدب السياسي العالمي اصطلاح البيرسبيترويكا، تفكك الإتحاد السوفياتي إلى دول وأقاليم مستقلة بعضها قام بالحرب والانتفاضات وبعضها لا، دمرت الصواريخ الباليستيكية وانتصر المنطق الريغاني، فرغبة رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية آنذاك، رونالد ريغن، أن تنفرد أمريكا بالقاطرة على مبعدة من الرجل الأبيض المريض المتهالك من حرب أفغانستان.. لم تكن غير أربع سنوات أو أدنى من تلك الفترة العاجة بالتحوّلات في الرأس الروسي مرّت من قبل صعود الإصلاحاتية الغورباتشوفية، فلقد قاطعت روسيا - بجمهورياتها الموالية لها - ألعاب أولمبياد لوس أنجيليس عام 1984 ودعت كعادتها سابقا إلى ألعاب الصداقة والشبيبة في موسكو، وتأخرت عن بلاد العم سام في رياضات كثيرة فردية وجماعية رغم فضائل الرياضي الروسي وذكائه، ولم يعرف العرب منهم إلا كمشة على الأصابع يعدون كسيرغي بوبكا في القفز بالزانة والحارس السبعيني الكبير ياشين واللاعبين اللذين انتقلا من ديناموكييف إلى أسي ميلانو زفادوق وبلا نوف، بينما واصلا لاعبا الشطرنج الماهرين ايغوربلانوف وأنا طوبي كاريوف سيطرتهما الملكية على هذه اللعبة لأزمنة طويلة. من ذاكرة آبائية شحيحة ومن نثارات حلم روسي صغير لم يكتمل عند شبيتنا توقفت روسيا القيصرية عن الإنجاب والنجابة صعد إلى عرش الكريملين ديمقراطوي قيصري على هيئة بوريس يلتسين معتل، شارب خمرة مثابر حتى في نومه، أبو نوبات قلبية وصرع ومرض جسد الحالة الروسية المنطفئة عن العالم، المتوارية، الهاربة إلى مصائر الجهلانية والذوبان، إن عصر يلتسين كان يرشح روسيا إلى حتفها الأخير رغم معونات بيل كلينتون وسخائه مع عدو الأمس، حقد طبقي أعمى جارف، هزائم متوالية للروبل أمام العملات الأخرى، انتفاضة سكان الأكواخ، بروز للمافياويات الإقتصادية.. مع يلتسين كانت الروس تعمل في الوثائق فقط، الدولة حاضرة في وثائقها وفي تليفزيونها إلى غاية خروج بوتين، بوتين الغريب، الساحر، الذي يملك نظرة عميقة خبيثة ونظرات مثيرة نحو المستقبل، جاء هذا بوتين من أقبية المخابرات مدعوما بعواطف الأصحاب والرفاق ''يريدونه حازما، مشية رشيقة لرجل رياضي، وعينين باردتين بالفعل، كان معظم الشعب يريد رجلا قويا في الكريملن، لأنهم سئموا من مشاهدة يلتسين وهو يتداعى...''. تمكن بوتين من الزعامة وأسبابها، فلقد تفطن إلى نواقصه فاشتراها بالمال والإعلام، الأصدقاء في ازدياد، المعارضون أميل إلى هشاشة حالهم، المستغلون يتراجعون، المتملقون يملأون الكؤوس ويمسحون البلاط، صار هكذا بوتين أمام العالم يسرق الدهشة والظرافة وخفة الكائن من حضوره الديمقراطي وغيابه الديمقراطي، ثم عودته ذهابا وإيابا نحو المنطقة الحاكمة، بل إن عودته الأخيرة أثارت الريبة في النمط السياسي الجديد الذي تلقنه روسيا للعالم الثالث خاصة بتفريغ الوعاء التداولي الديمقراطي من عناصره المهمة، لم يبدل بوتين من المنزل إلا أثاثه، كما لاحظت كاتبة روسية معروفة، حسنا لقد أمرت المكاتب من أن تعلي الصور وتستمسك بالسّمك الكبير من حجم 32 متر، وطلب من أطفال سانت بتروسبورغ قراءة كتاب رسمي عن حياة وطفولة بوتين، وافتتح مطعم بوتين هناك، وأدخل على المتحف المحلي كرسي وطاولة استعملهما الزعيم الجديد القديم الجديد.. على الجميع أن يركب مركبة البوتينية أن ينادى الممثلون والأرانب وحماة الوضع البوتيني كي يحكم مرة أخرى وكي يبعثها - هذه الروسيا - من أنقاضها.. تخرج روسيا من غورباتشيفية غير مكتملة البريسترويكا إلى يلتسينية متهالكة ليتسلّمها الزمن البوتيني المتكرر في عدة عهدات، وإنها لتدور، لازالت تدور بتعبير غاليلي لكن بينهما بين فلاديمير وديمتري أو بين ديمتري وفلاديمير .