تقول الباحثة الفرنسية سيلفي تينو، المختصة في تاريخ الجزائر، إنها وزملاءها في الجامعات الفرنسية، لا يعثرون عن نظراء لهم من الجيل الجزائري الصاعد، وإنهم عند تنظيم اللقاءات والندوات التاريخية لا تتوافر أمامهم سوى قائمة أسماء مرشحة للتقاعد، بينما تتطلب الساحة التاريخية توفير عقول تعيد النظر في الأطروحات السالفة على غرار ما جاء به الثنائي أجرون وجوليان. تعتبر تينو واحدة من الباحثين الجدد بفرنسا، الذين ينشطون في خلايا البحث، فرادى وجماعات، يتحركون في كل الاتجاهات المؤدية إلى مزيد من نقاط منيرة في تاريخ فرنسا الاستعمارية، في وقت تثار فيه عقدة الفرنسي في النظر إلى ماضيه .وهي الإشكالية التي كثيرا ما يطرحها الكتاب والأدباء، عندما يتناولون مواضيع ذات صلة بتاريخ المستعمرات الفرنسية القديمة، سواء في إفريقيا أو آسيا .تينو التي توجد بالجزائر لمدة أسبوع كامل، تحاول التقرب من دوائر البحث الجزائرية، للتعرّف على ما ينجز في مكاتبها، تريد استغلال فرصة الاحتفالات بالذكرى الخمسين لعيد الاستقلال، لترى ما أنجز من أعمال وما ينجز أيضا .وبهذه المناسبة أيضا، نشطت ندوة تاريخية بالمعهد الثقافي الفرنسي بالعاصمة، مساء الأحد الماضي، تحت عنوان :''كتابة تاريخ الجزائر في الفترة الاستعمارية :الإسهامات والآفاق؟'' .وقد حملت معها حقيبتها البحثية، المتكونة من جملة من المقالات العلمية الجريئة، شرحت فيها السلوك الاستعماري لفرنسا في فترة 1830 - ,1962 متنقلة بين التسيير السياسي لشؤون الجزائريين والقبضة العسكرية المحكمة المطبقة عليهم، بما فيها الدور السلبي للمنظمة العسكرية المسلحة، وجرائمها على المدنيين العزل .تينو سيلفي باحثة في المركز الوطني للأبحاث العلمية، متخصصة في القمع الاستعماري في الجزائري، وسيصدر لها عملا مشتركا مع مجموعة باحثين آخرين، قريبا، لدى منشورات البرزخ في الجزائر و''لاديكوفيرت'' بفرنسا مؤلف ضخم بعنوان ''تاريخ الجزائر في الفترة الاستعمارية'' .أما محاضرتها بالمعهد الفرنسي فتدخل في إطار رسالة الدكتوراه التي ناقشتها، أمجزت جزء من مضمونها هنا بالجزائر العام .2003 في تلك الفترة، تتذكر سيلفي ظروف البحث، وهي غارقة في الأرشيف والوثائق، فتقول إنها وجدت نفسها في حالة منغلقة على ذاتها .بالنظر إلى الهوة الفاصلة بينها وبين الواقع .قناعة منها أن الأرشيف لا يضيف للباحث أي شيء سوى المعلومة، بينما الواقع يوفر له معطيات هامة غير موثقة، ولا يمكن للباحث بلوغ تلك المعلومات إذا كان غريبا لغويا ونفسيا عن البلد الذي يبحث في تاريخه. الخمسينية إحتفال رسمي جزائري معلن وصمت فرنسي مطبق تضع تينو محاضرتها وبحثها في سياق تاريخي راهن، وهي الذكرى الخمسين لاسستقلال الجزائر .وترى أن ''2012 هو تاريخ يحمل الكثير من الرمزية، أتمنى أن يوصلنا إلى التخفيف من حدة الاختلاف الذي يبعدنا كفرنسيين وجزائريين''، في إشارة منها إلى الرمزية المتعارضة التي يمنحها الفرنسيون لهذه المناسبة، مقارنة بالجزائر .ففي الوقت الذي تطمح فيه هذه الباحثة إلى أرضية وفاق تاريخي، تفاجأت في الأسابيع الماضية، بتصريح مثير لفرانسوا بيون... مفاده أن فرنساوالجزائر كصفيحتين أرضيتين ازداد التصدع بينهما فتباعدتا أكثر .وبيون في نظر المحاضرة، يمثل الفريق الذي يحيي الذكرى الخمسين بطريقته الخاصة، وتضيف :''في الوقت الذي تحتفل الجزائر بالذكرى رسميا وتحت رعاية السلطات العمومية، نحن في فرنسا نحيي الذكرى بشكل غير رسمي، عن طريق المجتمع المدني من جمعيات وجامعات ومراكز بحث ومجموعات مهتمة، عروض سينمائية، مقاهٍ أدبية، وخاصة عن طريق الثانويات التي احتضنت لقاءات مع قدماء المحاربين والطلبة''، وهنا تشير المتحدثة إلى أن شهر مارس المنصرم، الذي سجل عدد كبير من هذه اللقاءات، مررت الحكومة الفرنسية تحت صمت ملفت للانتباه. الحقيقة التاريخية أو المحاسبة التاريخية بينت سيلفي الفرق الموجود بين الفرد الفرنسي ونظيره الجزائري المغترب :''طبيعة الطلب على التاريخ تختلف، فلأن الفرنسي يجهل ماضي بلده الاستعماري، فهو يبحث عن المعلومة التاريخية، ليعرف ما وقع'' على حد تعبير هذه الباحثة، التي تعد واحدة من الأجيال الصاعدة بفرنسا، المدفوعة بالفضول وحب المعرفة لتصفح صفحات لم تقلبها السلطة الفرنسية كلها على مرأى الأجيال كلها. على ضوء الندوات المنظمة بفرنسا، تؤكد تينو :''أن أسئلة الجمهور الحاضر في القاعة دقيقة للغاية، مباشرة وفي صلب الموضوع، وهي تطرح أسئلة تاريخية بعينها، كعلاقة اليسار بجبهة التحرير الوطني'' .وهنا تفرّق الدكتورة بين السائل الفرنسي والجزائري المغترب، ففي الوقت الذي يبحث فيه الأول عن الحقيقة التاريخية، يريد الثاني أن يعرف ماذا فعلت الجزائر بعد 1962: ''الجزائريون المهاجرون يريدون تقييم ما أنجز في الخمسين سنة من الاستقلال، وهو سؤال لا أستطيع كمؤرخة الإجابة عنه، لأنه من اختصاص السياسيين'' .وقد بيّن كلام الباحثة، مركز اهتمام الجزائري سواء كان مهاجرا أم مقيما في بلده، حيث تتوجه كل الأذهان نحو المحاسبة، ونحو تقديم تقارير تفصيلية عن السنوات التي تلت الاستقلال، بعيدا عن السجال التاريخي الذي يظهر جليا أنه اختفى في زحمة الأحداث الوطنية والإقليمية والدولية .فاحتفال الجزائر بخمسين سنة على الاستقلال، يأتي في ظل ربيع عربي ساخن ودامي أيضا، وعلى وقع سقوط متتالي لرؤوس رؤساء حكموا البلاد عقودا متتالية، وكل أنظار الشعوب الآن متوجهة نحو قصور الحكام، تطالب بحق محاسبة السلطة .هذه الأجواء قد تغفل وتشكل غيمة سميكة، تحجب الرؤيا على الواقعة التاريخية كما حدثت، ويصبح الماضي ضربا من الخيال، لا يفهم إشاراته سوى المهتمين. تسليط الضوء على الولاية السابعة تؤكد الباحثة الفرنسية، أنه في التسعينيات من القرن الماضي إلى مطلع الألفين، ركزت أغلب الدراسات على حرب التحرير الجزائرية، أي اكتفت بمتابعة حيثيات السنوات السبعة التي تلت .1954 وقد شكل هذا التركيز عيبا في الآلة البحثية التاريخية :''التركيز على هذه الفترة أغفل النظر في الأوضاع السياسية والاجتماعية في فرنسا، كيف كانت تدار الثورة هنا في عقر دار المستعمر، ولعل هذه النقطة نسيها المحتفلون بالذكرى الخمسين للاستقلال، وكنت أتمنى لو يسلط الضوء على ما أسماه علي هارون الولاية السابعة''. عمر الأسف عند سيلفي قصير، إذ سرعان ما تتفاءل خيرا بجيل من الشباب الباحثين في فرنسا، تفطنوا إلى المسألة، وشرعوا في التنقيب عن المسكوت عنه، بالتركيز على مجريات الاستعمار منذ .1830 الأنجلوساكسون والألمان.. كفاءة وتحكم لا يمكن - في نظر سيلفي-أن تكتفي فرنساوالجزائر بمراكز بحث خاصة بها، تعمل على أسلوبهما الخاص، في وقت تحقق فيه مجموعات بحث أنجلوساكسونية وألمانية وأخرى أمريكية خطوات متقدمة، في مجال الذاكرة الاستعمارية لفرنسا، أو حرب الجزائر .تدعو المتحدثة إلى الاطلاع على مناهج جديدة يعتمد عليها هؤلاء الباحثون خارج الحدود الفرنسية، خاصة وأنهم تفطنوا إلى أهمية تعلم اللغة العربية، للتقرب من الظاهرة التاريخية :''عندهم خاصية لا نمتلكها نحن الباحثون الفرنسيون، إتقانهم للغة العربية''، في إشارة منها إلى جامس ماك دوغال، بانجامان بروير وبانبان سان... وغيرهم ممن يعملون في فضاء عالمي مفتوح. إعادة النظر في أعمال أجيرون وجوليان تقول المحاضرة بشأن كل من الباحثين شارل اندري اجيرون وشارل اندري جوليان، اللذان يتخذا كمرجع في تاريخ الجزائر، بأن هذين المؤرخين درسا حرب الجزائر من وجهة نظرهما الخاصة، وقناعتهما السياسية أيضا، فكلاهما كانا يؤمنان بحل سلمي للقضية الجزائرية، ويعارضان مسألة الانتقال إلى حمل السلاح لإخراج فرنسا من الجزائر .الرجلان -حسب المصدر ذاته -كانا مع فكرة تمكين الجزائريين من الانتخاب، وإنه لو طبق هذا المبدأ عليهم، لكانت فرنسا باقية في الجزائر لا محالة وفي كامل منطقة المغرب العربي .وتضيف :''أبحاث أجيرون بحاجة إلى مراجعة وإعادة النظر، وكذلك أندري نوشي وجوليان، لأن التاريخ لا يعتمد على التفسير الظرفي، وبالتالي فقد تجاوزها الوقت ومضمونها مبالغ فيه''. تحطيم هذه الأطروحات ''المنقوصة'' في رأي تينو، ممكن جدا بالنظر إلى جيل الباحثين الشباب في فرنسا، الذين يتمتعون بمسافة كافية تجعلهم قادرين على تحطيم أصنام الماضي .وتذكر الباحثة قائمة من أعمال ودراسات زملائها مثل جولي شون رونو حول المسرح الجزائري بين الحربين العالميتين، أوغستان جوميي حول الإباضية في وادي ميزاب، أنيكل أكروا حول قطاع البريد والاتصالات في مستعمرة الجزائر، كلير ماري نوار حول الحركة الاشتراكية في وهران، ناهيك عن رافييل برونيي حول مجزرة الأخضرية في ماي ,1956 ومليكة رحال وبحثها حول علي بومنجل. بحث في فائدة المؤرخ الجزائري الشاب؟ لم يكن الحضور يتوقع ما ستنتهي إليه الباحثة سيلفي تينو، حينما قالت بالحرف الواحد :''نجد مشكلة كبيرة عندما نحاول السعي إلى التوفيق بين رؤى المؤرخين الفرنسيين والجزائريين، ففي الندوات التي ننظمها عندنا لا نجد نظرائنا من الجيل الجديد لنناقش معهم المعطيات''، جملة قد تثير إشكالية كبرى في الجامعة الجزائرية، وتحديدا في معهد التاريخ، الذي يتخرج منه سنويا آلاف الطلبة؟ ماذا يفعل دكاترة التاريخ هناك في أعالي العاصمة؟ لماذا تتكرر الأسماء نفسها على مسامعنا في كل مناسبة تاريخية خارج أو داخل الوطن؟ بعد خمسين عاما لماذا لم تخلف الجزائر أمثال محمد حربي وبلقاسم سعد الله، يحيى بوعزيز ومحفوظ قداش... وغيرهم؟ هذا الشعور عبرت عنه المتحدثة بمرارة الواقع، حينما يصطدم المنظمون في غمرة البحث عن أسماء للمشاركة في اللقاءات، بغياب مختصين في مواضيع بعينها، كأحداث 17 أكتوبر 61 على سبيل المثال، وتضيف مفسرة الوضع :''لا نشعر في فرنسا أن هناك نفس الحركية التي نعيشها في بلدنا تجاه تاريخنا المشترك''، ففي الوقت الذي يساهم فيه الباحث المغترب في تدعيم الفهرس الفرنسي، تقول تينو إن الفهرس الجزائري غير مرئي لديهم، وتضيف :''نحن نتعامل دائما مع الأسماء نفسها والجميع هناك يتساءل أين البقية؟ نريد أن نتعرّف على باحثين شباب، لأنهم المستقبل الذي نريد أن نبنيه معا، أما المؤرخ المتوفر الآن فأعتقد أنهم وصلوا إلى التقاعد وتشبعوا بثقافة فرنسية فأصبح لديهم بروفيل أقرب إلينا من شيء آخر''.