في بدايات الحراك الثوري العربي، وبعد أن أوضحت التجربة التونسية بأن هناك إمكانية للاعتماد على موقف وطني للقوات المسلحة بعيدا عن طموحات السيطرة السياسية، تفاءل المراقبون بالدور المستجد للجيوش العربية في حقبة ما بعد الاستبداد. جيوش تنوعت مصادر شرعيتها، فمنها من استمدها من خلال قيادته لعملية التحرر من الاستعمار الأجنبي. وآخرون أسندوا شرعيتهم إلى دورهم في الثورة ''الانقلاب الذي أطاح بأنظمة ''رجعية'' خلفتها القوى الاستعمارية. أما النوع الثالث، فاعتبر بأن دوره في حماية البلاد من الأجنبي والذود عن حماها مقابل الأطماع الخارجية هو مصدر شرعية لا لُبس فيه ويؤّهل لكل ما سيليه من طموحات. هذه ''الشرعية'' متعددة الأوجه، لم يتم الاعتماد عليها في تعزيز دور القوات المسلحة وإعطائها مزيد من المزايا واعتبارها الحصن المنيع للدولة السياسية القائمة فحسب، بل هي استخدمت لكي تبرر لهذه القوى بأن تسيطر على مفاصل العمل السياسي وتهيمن على مصائر الجموع التي منحتها الثقة. وبالطبع، فليس من المقبول بنظر أبطال الأمة هؤلاء أن يعتبر البعض من ''الآثمين'' بأن لديهم أطماع سياسية أو أنهم قد قاموا بانقلابات عسكرية أو أن لهم مصالح اقتصادية مرتبطة بمدى سيطرتهم على الحكم. في أغلب الحالات، ومنذ نشوء الدولة الوطنية بعد عملية الاستقلال والتحرر من الاستعمار الأجنبي، فقد اعتبر العسكر بأن لديهم الطاقة الكامنة والقدرة الكاملة، ليس فقط للذود عن الحدود وتأمين الاستقلال من الجهة العسكرية، بل للعمل على تنمية المجتمعات التي هم أوصياء عليها وتخطيط مستقبلها السياسي ووضع الأطر الاقتصادية اللازمة لتنميتها وإخراجها من الأزمات التي خلّفها المستعمر الغاشم. وكذا، فقد كانت لهم وجهة نظرهم غير القابلة للنقاش فيما يتعلق بالأمور التربوية وتنشئة الأجيال ورسم السياسات الاجتماعية وحتى الحد أو رفع الحد عن النسل. إن مجرد التشكيك اللفظي أو التحليلي في عدم الاختصاص، أو اعتبار بأنه يكفي فخراً للقوى المسلحة دورها الوطني الأكبر المرتبط بحماية البلاد من خطر العدو الخارجي وتأمين الاستقرار الإقليمي، هو جريمة لا تغتفر ويمكن لها بأن تؤدي إلى ''إضعاف الروح الوطنية ووهن عزيمة الأمة'' في مواجهاتها المتخيلة من قبل المعنيين أنفسهم. وهم الذين، ومنذ وصولهم إلى الحكم أو تلاعبهم به، تخلّوا تماما عن القيام بما يمليه عليهم قسمهم والمتعلق بحماية البلاد والعباد والانصراف عن الشؤون العامة وترسيخ الجهود للعب الدور ''المقدّس'' الذي يساهم في بناء صورتهم الوردية. وتوجهوا إلى الساحة الداخلية سياسة واقتصادا وأسسوا لمنظومة أمنوقراطية تساعدهم في مسيرتهم نحو الهيمنة وتأمين الصالح الخاص. ولقد أثبتت التجارب ''التقنية'' الحقيقية التي واجهت بعضا من البلدان العربية التي ''تمتعت'' بسطوة العسكر على أمورها السياسية والاقتصادية، بأن الانصراف عن الدور الأساسي للقوات المسلحة إلى أمور الحياة اليومية والانهماك في الأعمال، يؤدي إلى حالات من الفشل العسكري لا تلبث الجهات المعنية باعتبارها جزءاً من المؤامرة التي تحيكها قوى مرئية وغير مرئية على منعة واستقرار البلاد التي تتمتع بطهورية وحكمة وحنكة وبُعد نظر القائمين عليها. فكم هي الأحداث التي تشير، وبوضوح، إلى فشل القوى المتحكمة في أداء نصف دورها التقني أو ربعه حتى. وكم هو حزين ومؤلم رؤيتها تتقهقر متحصنة بعبارة دائمة الحضور: ''نحن الذين نختار الزمان والمكان للمواجهة ولا يفرضه علينا أحد''. وبالتالي، فنحن نهرب ونتخاذل في الذود عن حدود البلاد على أن نستعيد زمام المبادرة فور انتهاء عملية إهلاك المجتمع وسلبه ما تبقى له من إمكانات ومن طاقات. لقد أوضحت تجارب إفريقيا الدور السلبي لانهماك قوى الجيش في السياسة، وكذلك تبيّن للعرب سوء هذا الدور وإساءته المزدوجة. فمن جهة، الجهاز العسكري نفسه هو ضحية لهذه الممارسة إذا يفقد مصداقيته واحترامه اللذان ارتبطا، ربما وهماً، بصورة مثالية رافقت نشوئه وتطور دوره الذي أمده بالشرعية المبدئية في الأطوار التمهيدية لنشوء الدولة الوطنية. من جهة أخرى، فقد وقعت المجتمعات ضحية للطموحات السياسية والسعي نحو الهيمنة التي رافقت الممارسات العامة للقوى المسلحة. والرابح الأكبر من هذه المعادلة، هو العدو الخارجي إن وجد فعلا. تجربة تونس الإيجابية أحيت الأمل بدور العسكر في تأمين انتقال سلمي للحكم من نظام مستبد، كان العسكر التونسيون من ضحاياه أيضا، إلى نظام أكثر ارتباطا بمتطلبات الممارسة السياسية الطبيعية على الرغم من هنّاته ومخاضاته. في المقابل، يبدو أن التجربة المصرية تنقض الاستثناء وترسّخ القاعدة التي تشير إلى أن العسكر ليسوا بزاهدين عن السلطة السياسية التي لهم بها علاقة متجذرة. وإن تخليهم عن المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية ليس بوارد في الفترة القريبة على أقل تقدير. فعلى الرغم من وقوفهم النسبي على الحياد أمام ثورة شباب وشابات مصر، فقد تدخلوا في مرحلة حرجة حاسمين الأمور لإنقاذ المؤسسة ولصالح تنحي ابن المؤسسة حسني مبارك. وقد ألبسهم المتفائلون ثوبا ليس لهم واعتبروا بأنهم يعيدون إنتاج النموذج التونسي، وأظهر هذا التحليل ضعف تبصّر بالحالة التونسية ومعطياتها، إضافة إلى ضعف تحليل للواقع المصري بأبعاده التاريخية الحديثة. وكذلك، فقد توضّح بأن الدور السياسي للجيوش العربية هو أمر هام ومعقد يحتاج إلى دراسات طموحة وإلى مقارنات موسّعة. فالتجربة التركية وتجارب أمريكا اللاتينية يمكنها أن تكون بعيدة جغرافيا، ولكنها تحمل في طياتها بعض الأمور المشتركة وبعض الطموحات المتقاطعة. ما يجري على الساحة العربية يشير إلى أن زمن السيطرة العسكرية سياسيا واقتصاديا ليس في نزعه الأخير، وبأن ضعف القدرات السياسية لدى القوى المدنية لأسباب عديدة يحملون جزءا ضئيلا من مسؤوليتها، قد أتاح للقوى العسكرية بأن تعزز الهيمنة. ويبدو أن السيناريو المصري هو أكبر دليل على ''حنكة'' إدارة الأزمات التي أوصلت إلى انتخاب رئيس محدود الصلاحية وإلى حل للبرلمان المنتخب وإلى إعلان دستوري يعيد عقارب الساعة إلى الوراء بانتظار تكاتف العمل السياسي بعيدا عن المهاترات والطمع وصغائر الأمور. صديق يمني عزيز قال: لقد سرقوا لنا نجوم الليل ليضعوها على أكتافهم في النهار.