شُفتيني وأنا ميّت؟ أجنن وأنا ميت؟.... قد نجد تفسيرا غريزيا لهذه العبارة في كتاب هنري برغسون عن الضحك، حقا ما أجمل الموتى، خاصة أولئك العرب منهم، وسيما كميت عربي فبذلك فاحلم إذن، ممكيجا بمساحيق رغباتنا العربية المكبوتة في البطولة، إنه ذلك الميت النجم، الذي تجمّله فرشاة خبراء التزيين في استوديوهات الفضائيات... إنهم يستثمرون الفراغ الداخلي لجثثنا، فالميت مضمون الفراغ من الداخل، منزوع الداخل بالأحرى، لا وحل في وعاء جسده الطيني، ولا برامج مخططات عدوانية محتملة، قد تثب جهتنا ماثلة من غرفة عمليات داخله، إن الميت وهو ينقل على المباشر، بطل نموذجي - بتعبير الاشتراكيين - حي مؤقت متأهب لتأدية دور أخير، بكامل موهبة موته، إنه يحتاج وهو مستلق، إلى ديكور جميل يؤثثه فحسب، إلى صرخات طفلة، أو إلى دمعة رجل، إلى ابتسامة مستهترة، لامبالية بديكتاتورية النهاية المتعجرفة، إلى مشهد شفاه متقن، بمقاييس فرحة أو طمأنينة واعدة متوعدة، كتلك التي تنتشر ببريستيجها الغامض على وجوه الموتى غير التقليديين، أو فالأقل - لأقارب الدقة ولأجانب التحويم - على شفاه الموتى المحظوظين... ما الذي يجعل ميتا يبتسم؟ الألم ربما من يدري، يجيب أحدهم؟ كما قد تكون القضية عرضة لترتيب الصدفة لا أكثر. تحتاج جثة نجمنا إلى قطرات دم كذلك،ئمن المستحسن أن تكون طازجة لامعة قدر الإمكان، موزعة بعناية مدروسة، غير مبالغ فيها طبعا، يتعلق الأمر بتناسق الألوان، بلوحة رباعية الأبعاد، يتدخل في تشكيلها فنانون تشكيليون ربما، وليس مخرجين تنفيذيين، سيضيفون قليلا من الحُمرة القانئة على خضرة البدلة العسكرية ولا شك، أو حتى على البدلة المدنية، لا شيء يمنع، ولا فرق مادام هناك فنانو ألوان محترفين ومتوفرين، فالدم فاتن وجميل، إنه يملك قدرة عجيبة على التأقلم مع كل ألوان الطيف، ومع ألوان قوس قزح إذا استدعى الواجب الاحتفالي، إن الدم يذكرنا بداخلنا الحيوي المنسي المحيد، وبالروح الإنسانية في أبسط تعريفاتها، بعيدا عن ثرثة المفاهيم الفلسفية، وعن غثيان كلمات الصوفية، وحتى عن فيزياء معادلات علماء الطبيعة، إنها جاذبية الدم، وكأن مصير كتاب التاريخ أن يكتب بدم أبدا، وإن كنا لا نطّلع غالبا إلا على فهرسه المائي العذب... هل فكرتم في ذلك يوما؟ مَن منا لم يتمن يوما أن يلقي نظرة على نفسه وهو ميت، ولو نظرة واحدة؟ إننا نظن أننا سنكون إذ ذاك هناك، أكثر أبهة ونحن نمارس المشهد الأول للموت بعنفوان وطاقة واستمتاع لا نظير لها، نؤمن بأننا سنكون أشد قدرة على التعبيرعن جمالنا المضطهد المحبوس في داخلنا عن الناس، يحدث ذلك في اعتقادنا عندما نفقد مسؤوليتنا ولو مؤقتا على جسدنا، هناك حيث نكون أبرع في شفط انتباه الآخرين نحو أرواحنا التي تكون على أهبة السماء، الآخرون إياهم الذين يروننا بمنظار الجمال المنسلخ عن شبهات المادة، والأهم من كل هذا أننا نظن بأننا قابلون للتصديق، على بعد نظرة من الحقيقة لا أكثر ومؤهلون لحيازة صفة البراءة... من منا لم يقتنع يوما بوسامة جثته؟ كيف لا والحال هذه،ئوملايين المشاهدين المسمّرين أمام شاشات الفضائيات، يلبسون عليك من هوسهم الغريزي بالبطولة، إنهم يخيطون لك كفنا بقماش فنطازيتهم، بثوب أمانيهم الخرافية الشاردة المزركشة، وفي الآن نفسه بمللهم من جدوى الحياة العربية التي لا تستطيع أن تثبت فيها للآخرين بأنك إنسان حتى... سيبثونك على الهواء مباشرة ومسجلا أيضا إذا طاب لك ذلك، وجميع حقوقك وواجباتك محفوظة في ذلك فلا عليك، ليراك العالم، كل العالم، كم من عاشقة حسناء مفترضة ستتمنى التقاط صورة بجنبك؟ وكم من مخطئ في وصف حق شجاعتك سيصيبه الإعجاب بك؟ لسيقضي ليلته تلك، ليلة موتك متمثلا نفسه إياك؟ إنه الإغراء بالجثث، أفكر أنها غريزة بشرية، وعلى قدر مقاس إلحاحها فينا، نرى كل هؤلاء - متعهدي المقابر- متعهدي الميتة الأبرع، يتهافتون علينا، وهم يحاولون - بحسن نية لا أشك - أن يوفروا لنا مقبرة جميلة مريحة، بمساحة جهاز تلفزيون، جبّانة مربعة أو مستطيلة تنقل إلى البيوت، إلى الغرف المكيفة، تطالعنا ونحن على الأرائك، وفي كامل ارتخائنا ونحن نحتسي قهوتنا الساخنة... لكن لأجل ماذا كل ذلك؟ هل هذا ترويح بتسلية الموت، أم هو ترويج لعُملة الموت؟ لفائدة أي بنك سيكون إذن، بل ولأجل اقتناء أي سلعة كل هذا الصخب الإشهاري المزدهر؟ هل هي تجارة الموت؟ أم أنني غبي جدا والقضية لا تعدو أن تكون دروسا مُعمقة في الحياة؟ تخيلوا معي وصلات إشهارية لمتعهدي الموت، لا أعرف لأي شركة بالضبط، لا يهم أن تعرفوا أنتم أيضا، تقول الومضة* : مت معنا بأمان وضمان * ..* ستكون أجمل ميت في الدنيا * ....* يا عيني عليك وأنت جثة وردية هامدة * .... *معنا فقط سيكون للموت طعمه الحقيقي والأصيل * .... * مع موت اكسبراس حيث للموت متعة ولذة لا تقاومان * ستوب... ولكن من سيدفع لبث هذا الإشهار؟ أم أنه سيكون مجانيا لفائدة جمعيات خيرية؟ من سيدفع؟ لست غبيا لأقول إنهم بائعوا الأسلحة، لن أقول ذلك ولو تلميحا. هذا سؤال سيجيب عليه جرير ربما، اطرحوه على جرير زميل الفرزدق، ولمن لا يعرف جرير، فهو صوت إذاعة بني تميم التي تبث على أمواج أثير الركبان والعربان، ربما كذلك سيجيبنا عمرو بن كلثوم، الناطق الرسمي باسم نفسه، وباسم الديوان الملكي لقبيلة تغلب معا، قد ننتظرجوابا هنا، فقد امتهن الشعراء قديما الحرفة نفسها تقريبا، التي تحترفها الفضائيات اليوم، الحث على الشجاعة والتطبيل للبطولة والإقدام، إنه عينه الحث على الموت والتحريض عليه، يمارسون كلامهم في المدح والرثاء وفي الهجاء، تحت الرعاية السامية للسيف والرمح والنطع، إنهم يَمدحون بالبسالة، ويرثون بمكياج القوة والبطش، ويهجون بالجبن وبالهيبة من المنية، ألم يكونوا من عبدة مناة آلهة الموت عندهم؟ فمَنْ هَابَ أَسْبَابَ المَنَايَا يَنَلْنَهُ وَإِنْ يَرْقَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ، أليس كذلك يا زهير يا ابن أبي سلمى، السالم على الدوام، هل كان جرير والمتنبي من بعده إذن فضائية تعرض ومضات إشهارية مدفوعة الأجر لا غير؟ لكم أن تتخيلوا كم كانت لتكلف ومضة إشهارية قصيرة يشرف على إخراجها الفقيد جرير أو المتنبي رحمه الله، ولكن هل كان في ذلك العصر مصانع للأسلحة؟ إسألوا سيف الدولة... أو حتى الحجاج بن يوسف. إن الشعر غريزة إنسانية، إنه تصرف فطري بشري، مثله في ذلك مثل الحب، والكراهية، والضحك، والبكاء، الشعر يشبه تفتح زهرة، أو انغلاق شوكة إذا شئت، الشعر غريزة تلقائية حتى وهو في أوج إيقاعه العبقريّ الذي يبدو وكأنه مختلس، غريزة كذلك في موسيقاه المُدربة على إيقاع الإنسان، في طلته، وفي قفلته، يمكنني الاقتناع بكل هذا على الأقل مؤقتا، وينبغي عليّ أن أقتنع لفائدة هذه المقالة على الأقل.. لكن الشعر تعكر، بعد أن اكتشفته فضائيات الإشهار ووكالاتها قديما وحديثا، مثلما انتبهت الفضائيات اليوم إلى سلطة اللون، والصورة، إن الشعر مثل اللون الأحمر أعلاه تماما، القانئ الذي يمكن أن يدفء حضن وردة، كما باستطاعته أن يتواطأ مع جثة قتيل على ما تبقى من مائها الصافي، الشعر قد يكون ذلك الأحمر الاصطناعي المرعب، الذي قد يشعرك بطعم الانتشاء الجماليّ، انتشاء بنكهة الدولار. هجينا صار الشعر كحيوان كافكا الغريب، ذلك المسخ الذي نصفه قط ونصفه الآخر حَمل، فإذا رأى القط ولى هاربا، وإن أبصر حمَلا هاجمه، هكذا صار الشعر عصيا على الفهم، كالحب في البَغاء، كالدغدغة في عصر لم نعد نعي أضحكٌ ما يقهقهه أم مجرد مناورة لتحييد اقتصاد سوق المآتم، مسخا إذن صار الشعر يا كافكا، أعيدت برمجته بأيادٍ ليست من جسده في شيء، لكنها مع ذلك، يراها الكل وهي تخرج من تحت عباءة الوزن والقافية، الأيدي الوفية لخيانتها، وكأن أصحاب السلطة إياهم، إنما اختلقوائبسط يد الشعر التي هي يدهم، فقط ليعرضوا قوتهم وبأسهم، كي يستعرضوا صورتهم لا صورة الشعر، وبلاغة سيفهم لا بلاغته، وكأن الشعر حدث ثانوي في القصيدة، من يستطيع أن يثبت لي أن نصاعة الصورة التي تبثها الفضائيات في زمن الحرب، هي أهم من نقل الموت مجردا من أي عمليات تجميل، دعوني أقتنع معكم الآن قبل أن أغادر، أنه لا أحد يفكر الآن في الشخصيات التي روّج لها جرير وأن الكل يعرف قدر صاحب الفخامة السيد المحترم جرير، وأن لا أحد يذكر سيف الدولة مثل ذكره لأبي الطيب المتنبي، لشعره وليس لميتته التي لم تنقلها فضائيات سيف الدولة ولا أرضياته، دعوني أتفق معكم كذلك بأنّ لا أحد يعرف المّلاك الفعليين للفضائيات... شُفتوني وأنا صايم.... ندوخ وانا صايم؟