صفحات تمتد لتتجمع مؤلفة مدونات علم وفكر وتاريخ، صفحات مما كانت تنبض به مساجدنا ومنها مساجد وهران كعينة ما كان يشحنها بدروس وحلقات علماء ومشايخ، يجدر بنا استحضارهم كواجب نحو الذاكرة وكضرورة استلهام واعتبار وكوصل مطلوب للتعافي من البتر الذي جعلنا رهائن التيه ورهائن جذب التيارات المتدافعة. الشيخ المكنوس بمسجد الباشا المجاور لحي الإمام الهواري كان لسنين الشيخ عبد القادر المكنوس حاضرا بهيبة ووقار، حاضرا بقوة الشخصية وعمق الطرح. كان الشيخ صهرا لأحد أكبر علماء وهران، الشيخ الطيب مهاجي والد الطالب الشهيد إبراهيم زدور. كان الشيخ مع تمكنه في العلوم الشرعية، مستوعبا للواقع، متابعا فطنا للحدث، قارئا باللغتين. كان الشيخ يواجه المشاكل مباشرة ويتحدث بحزم لا يهادن فيه ولا يخضع الشرع لتأويلات مزاجية، ترضية للنافذين أو ركوبا لموجة جماهيرية. كان يربط الدرس بالحدث وبالواقع، وكان يقرأ ما يحدث بالتأسيس على الشرع، وكان فقهه عميقا يحيط بالأحكام والمقاصد. كانت إجاباته على الاستفسارات بليغة وموجزة بتكثيف حاسم، مما يروى أن استدعاءات توالت عليه من محافظة الشرطة في فترة الحزب الواحد، ولم يستجب فجاءه مفوض الشرطة ليستفسر عن سبب عدم تنفيذ التبليغ فكان الرد الشيخ: وأنت لماذا تجيب دعوات المؤذن خمس مرات في كل يوم؟ عقب إرساء التعددية ومد التيار الراديكالي للفيس، سألت الشيخ فعبر عن قلق وعن نقد لبعض ما تبلور من سلوكات وأطروحات. الشيخ معمر حني من العلماء الكبار الذين عرفتهم مساجد وهران الشيخ معمر حني.. والشيخ معمر من علماء جمعية العلماء المسلمين، قدم إلى وهران التي استقر فيها بعد محطات حافلة، وواصل مشواره في وهران بمساجد كقباء. كان الشيخ ممن يشار إليهم بعمق الفقه وبالتبحر في القراءات، فالتفت حوله حلقات طلبة العلم بمسجد قباء، وكان العطاء كبيرا بقدر صاحبه. كان الشيخ مثالا للزهد والبعد عن الأضواء، إخلاصا للرسالة العلمية وترفعا وعفة من الشيخ.. كان حكيما في تعاطيه مع من يتعاطى معهم في مساجد تجمع كل الفئات.. ومما يروى حادثة لها علاقة بظاهرة التنطع والتعالم التي اكتسحت فأثرت على التدين وتسببت في اختلالات تفاقمت فوصلت إلى ما وصلت إليه على امتداد بلاد المسلمين. الحادثة المذكورة جرت للشيخ أثناء إلقائه درسا، وفي الدرس ذكر حديثا دون أن يسنده لأنه في مقام لا يستدعي عرض السند فاعترضه شابا مطالبا بالسند، فسارع الشيخ إلى استثمار الموقف لتوجيه درسا لذلك الشاب بطريقة بيداغوجية متميزة، ذكر الشيخ بعشوائية أسماء على أنها سند الحديث فنوّه الشاب بذلك وسارع الشيخ ليبين له أنها أسماء لا علاقة لها بالسند وإنما ذكرها لتلقين الشاب درسا حتى يتعظ، شاب لا يعرف رجال السند ويطالب بما لا يمتلك الدراية به. دروس الشيخ الياجوري الشيخ الياجوري من علماء جمعية العلماء، شيخ تميز بنزعته الثورية وبتسيسه. كانت دروسه بالمساجد منزاحة عن النمطية ومتصلة بالواقع، اتصالا جعله فقيها للواقع، ينتقي الشواهد ويقدم القراءة الشرعية المقاصدية بلغة واضحة ومباشرة. كان يحدث الناس عن العمق الاجتماعي، عن الحياة بكل انشغالاتها وتفاصيلها لأن الدين الحق متصل بفقه ناضج للدنيا، لأن من لم يفلح في دنياه، لا يمكن أن يفلح في آخرته. ومن الأدعية المأثورة عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة الدنيا زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر). كانت دروسه مشحونة بالثورة، كانت كلماته تنبض بجرأة وتجديد العالم العامل المجاهد الذي عاش سنين من عمره خلال العهد الاستعماري في السجون والمحتشدات والمنافي.. كان يحضر معه إلى المسجد كتبا ك «الإنسان ذلك المجهول» لألكسيس كاريل، وكان يقرأ مذكرات دوغول... ذهب مرة إلى مكتبة متحف زبانا فلما وجد أن كتاب الرأسمال لماركس مفقودا، أسرع فأحضره لأنه كتابا من الضروري توفره في المكتبة. الياجوري كان يركز على المضمون الاجتماعي ويرافع من أجل قيم العدالة والحرية. كان يثور ضد كل أشكال الدروشة وكل ما يراه مخالفا لروح الدين ولمقتضيات الحياة.. بعض مواقفه مرتبطة بسياقات ولا يمكن فهمها دون ربطها بسياقاتها كموقفه الرافض لكل ما له صلة بالتصوف. كان درسه ينطلق من حادث أو ذكرى، ويمتد الدرس جامعا بين الإسناد النصي القرآني والحديثي وبين الواقع، وكان الأسلوب بصراحة ومباشرة وبنقدية لا تجامل ولا تركب الموجات ولا تنساق وراء ما يريد الناس سماعه.. مرة قرر ألا يلقي درسا بل يسمع ما يقوله الذين اجتمعوا لسماع درسه، لكن الصمت عم ولم يبادر واحد منهم بالكلام فثار الشيخ وقال: «الجامع مبني بالحجر والجالسين في وسطه حجر» ثم قام منصرفا. الشيخ الأطرش من علماء الجزائر الكبار المرحوم الشيخ أحمد السنوسي الأطرش، شيخ متبحر في علوم مختلفة، في الشرعيات والتاريخ... عالم تميز ببساطته وتواضعه الكبير الذي جعله متواصلا مع الجميع، وجعله محبوبا، حبا تجلى في جنازته التي استقطبت من استقطبتهم دروسه بمسجد الموحدين خصوصا. الشيخ تميز بكثافة نشاطه في المسجد وبالتحديد مسجد الموحدين الذي كان إضافة للدروس وخطبة الجمعة ينظم فيه حلقات في علم الأصول وغيره، حلقات تركت آثارها، وكانت له إسهامات في التدريس بالجامعة ومشاركة في الملتقيات والندوات، وكان في المجلس العلمي لنظارة الشؤون الدينية. تجربته الطويلة في التدريس بالطور المتوسط برزت بآثارها في الطريقة البيداغوجية التي ارتقت بعمق وسعة معرفته وبما تراكم في رصيده من خبرات بالتجارب الغنية في الإصلاح والكفاح. المرحوم كانت تثيره الفوضى التي تفشت، فاختلت الموازين وعم تدينا غير منضبط بضوابط الشريعة ومقاصدها. ومرة في معرض كتاب بالمكتبة الجهوية أعرب عن حزنه على غياب استراتيجية وطنية للتكفل بالتراث الفقهي، استراتيجية كالتي يعتمدها الأشقاء المغاربة.. المرحوم بلور الوسطية بكل معانيها ودلالاتها. الشيخ عبد القادر الزبير الشيخ الزبير ظاهرة في الخطابة وفي التأثير بأسلوب بسيط كالأسلوب الذي كان يخاطب به الشيخ محمد كتو مستمعي الإذاعة كل صباح. كان الشيخ الزبير في مسجد عبد الله بن سلام يفسر القرآن أسبوعيا ويقتبس من الآيات ما يتصل بواقع الناس، اقتباسا يعرضه ببيداغوجية متميزة، تمزج الدرس بطرائف تريح نفسيا وتضمن سلاسة التوصيل وإثمار التلقي. الفعالية والأصالة إن كل فكرة، كما ذكر المرحوم بن نبي، تنطوي على بعدين، بعد الأصالة وبعد الفعالية، فالكثير من الأفكار الرائعة والمهمة تموت أو تتوثن بسبب غياب الفعالية، والكثير من الدعوات الهدامة تتبلور وتسري بسبب فعالية التوصيل. المسلمون في حاجة إلى فقيه كالشيخ العز بن عبد السلام الذي تصدى للمماليك في مصر وألزمهم بسلطان الحجة... المسلمون في حاجة لفقه ينقلهم من حال إلى حال، فقه يفتح أمامهم الآفاق ويحقق لهم وعيهم بإنسانيتهم.. فقه ينتصر لقيم الكرامة والعدالة والحرية.. فقه كالذي بلوره عندنا العلامة ابن باديس وكالذي كان ينبض به ويبثه علماء ربانيون حقا والعالم الرباني من اجتمعت فيه خاصيات التعلم والعمل والتعليم.. أليس من العار أن نرى حركات لاهوت التحرر التي بادر بها رجال الكنيسة في أمريكا اللاتينية، حركات في مواجهة جمهوريات الموز الدكتاتورية ونرى رجال الكنيسة الذين ساندوا الثورة الجزائرية، في حين أئمة مسلمين انقلبوا على الشرع وروحه وناصروا الطغيان وسكتوا عن التجاوزات الكبيرة واهتموا بالفرعيات والصغائر كمفتي تونس الذي لم يعبأ بكل مظالم النظام وحاشيته ولا بتجريد البلد من أصولها واستئصال معالم التدين فيها، كل ما شغله انتحار مظلوم ويفتي كأنه اكتشف أمرا جديدا وتوصل لفتح هائل لما ذكر حرمة الانتحار.. وفي مصر تصدى الأنبا شنودة لتطبيع السادات مع إسرائيل، في حين بارك الأزهر الأمر وقاسه على صلح الحديبية... وتتوالى في الساحة فتاوى يشيب لهولها الوليد... إن العالم والداعية يمثلان النموذج، والنموذج يتشكل بمؤهلات معرفية وسلوكية، ببصيرة وتبصر. إن الخطاب الديني المنشود هو الخطاب الذي يمتد إلى الصميم وينغرس في العمق، هو الخطاب الذي يرفع الالتباس بين ما هو شريعة وما هو فقه، بين ما هو وحي وما هو رأي، بين العام والخاص، بين شمولية الرسالة الإسلامية وخصوصية كل مجتمع. هو الخطاب الذي ينطق بلغة العصر ويستوعب لغة شباب ترعرع على بلاغة المباشر والمختصر والبسيط، شباب له طموحاته وله آلامه وآماله التي من المفترض على الأئمة والدعاة تفهمها والتواصل معه بكيفية حوارية وبإشراكه في التعبير والإصغاء لرأيه، التواصل معه بعيدا عن النبرة المنبرية وبعيدا عن الوعظية الجامدة وبعيدا عن قائمة الحرام واللايجوز. لنا في الجزائر نماذج جسدت العمل المنشود، نموذج ابن باديس ونماذج كالشيخ الأطرش والشيخ محمد شارف رحمة الله عليهم..