يتخذ حي سيدي يحيى بالعاصمة خلال ليالي رمضان حلة أكثر حيوية من تلك التي تكسو جوانبه في ليالي الشهور الأخرى، وفي الواقع فإن عدة عوامل انجذاب تؤتي مفعولها في هذا الحي المفعم بالمطاعم والمقاهي والمحلات التجارية، ومن بين هذه العوامل، تميز الحي بطابعه الراقي جدا وتوفر الأمن بقوة على نحو يجعل الحي المشار إليه مقصد العائلات وإطارات الدولة والقطاع الخاص معا. لا تنقطع الحركة أبدا خلال ليالي رمضان في حي سيدي يحيى، بل إنها تمتد على ما يبدو إلى آخر الدقائق من السهرات الرمضانية وقبيل أذان الفجر، وربما كان للعامل المرتبط بأفول السهرات الرمضانية في وقت مبكر نسبيا، بمناطق العاصمة الأخرى، دور هو أيضا في توجه العائلات ومختلف الباحثين عن أجواء السهرات الرمضانية الهادئة نحو هذا الحي الذي يوفر فضاءات عديدة للتلاقي وترحابا منقطع النظير من لدن العاملين في مختلف المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية التي يعج بها المكان. ويبدو المكان مثل المركز التجاري «العملاق» الموجود على الطبيعة وفي الهواء الطلق، وما يلفت الانتباه بحي سيدي يحيى هو تنوع الخدمات المقدمة بالمكان سواء كان ذلك للمتنزهين، فرادى أو عائلات، أو الفضوليين، أو الزبائن الذين قد يبحثون عن شراء مختلف السلع من مواد استهلاكية واسعة الطلب، أو ملابس مستوردة عالية الجودة أو حتى كماليات أخرى تشمل أجهزة إلكترونية متينة الصناعة أو ساعات ونظارات فاخرة قادمة مباشرة من وراء البحر. ويحرص أصحاب المحلات والمقاهي والمطاعم الموجودة في المكان، على إعطاء اسماء لافتة لمختلف المرافق التي يديرونها، ومن ذلك مثلا محل «نوماد» المختص في الملابس الرجالية العالية الجودة ولاسيما البدل المستوردة من وراء البحر، والتي تحمل في الغالب «ماركات» إيطالية معروفة. ومن بين الفضاءات التي يكثر الإقبال على اكتشاف منتوجاتها من جانب الزبائن والفضوليين فضاء «سوني سنتر» الموجود في إحدى زوايا الحي والمختص في بيع أجهزة إلكترونية متنوعة وفائقة الجودة مثل «الراديو كاسيت» وتليفزيونات البلازما حاملة للماركة العالمية المعروفة «سوني» وبالإمكان على مستوى هذا الفضاء التجاري الحصول مثلا على جهاز «بلازما» صغير الحجم بمبلغ مالي يقارب 20 ألف دينار، في حين أن شاشة مماثلة كبيرة الحجم يصل ثمنها على مستوى المركز إلى أكثر من 200 ألف دينار. ويقول بائع بالمركز المشار إليه إن كل الأجهزة المعروضة على مستوى المركز، هي أجهزة أصلية المنشأ ومستوردة من وراء البحار، لاسيما وأن «إمبراطورية سوني» المعروفة بإنتاجها للأجهزة الإلكترونية عالميا ليس لديها أي متعامل شريك في الجزائر، يقوم بصناعة أو تركيب مختلف الأجهزة الإلكترونية التي تقوم بإنتاجها هذه المجموعة العالمية اليابانية الأصل. الطابع «الراقي» وتوفر الأمن.. عاملا جذب نحو حي سيدي يحيى يشبه الحي ليلا من خلال طريقة اصطفاف مختلف المحلات والمقاهي والمطاعم وانبعاث الأضواء البراقة منها إلى حد بعيد الشوارع الباريسية الحديثة التي يأتيها السياح من كافة بقاع العالم. ويبدو أن هذا الطابع «الراقي» للحي ولاسيما من خلال الزبائن ذوي المكانة الاجتماعية المتميزة الذين يقصدونه كل ليلة.. هو العامل الرئيسي الذي من أجله يأتيه الفضوليون فضلا عن العائلات والزبائن الباحثين عن منتوجات تابعة لعلامات تجارية عالمية. لقد التقينا بالصدفة شابا سوريا داخل أحد المقاهي، وفي منظور هذا الشاب السوري، الطالب في مجال الهندسة المدنية بدمشق والقادم لزيارة والده المقيم بالجزائر، فإن قدومه المتكرر لحي سيدي يحيى يعود في المقام الأول، كما قال «إلى كونه حي راقي بجميع المقاييس فضلا عن كونه حي آمن بالنظر إلى السلوك المتحضر للقاطنين من حوله، وكذا التواجد الكبير لرجال الشرطة في مختلف جوانبه ليلا تحسبا لأي طارىء». وفي الواقع فإن طبيعة الخدمات التي تقدمها بعض المحلات، من حيث كونها تبيع حلويات ومنتوجات شامية، فضلا عن تقديم «الشيشة» كما هو الشأن في مقهى «بلازا» تغري الكثيرين من بلدان المشرق العربي، سواء كانوا مقيمين أو مجرد زائرين إلى بلادنا، من أجل القدوم إلى حي سيدي يحيى والاستمتاع بأجواء الليالي الرمضانية في مقاهيه خصوصا التي يحرص فيها عمال ونادلون متمرسون وموغلون في الطيبة، على حسن استقبال الزبائن. ولا تنعدم هذه الميزة المرتبطة بجنس استقبال الزبائن في مقهى «كوفي شوب» مثلا بحي سيدي يحيى، لهذا المقهى المكون من طابقين اثنين، يحرص العاملون فيه على ألا تفارق الابتسامة وجوههم أمام الزبائن، وهؤلاء قد يكونون أشخاصا فرادى أو عائلات بأكملها تكون عادة في حاجة إلى أماكن هادئة تضمن احترام الآداب والتقاليد في مثل هذه المقاهي، تدل طبيعة الأحاديث التي تدور بين الزبائن حول كؤوس «الشاي» و«القهوة» وزجاجات المياه المعدنية في ليالي رمضان، على مكانة الأشخاص في السلم الاجتماعي ومستوياتهم التعليمية، وعندما تجد أن هذه الأحاديث تتمحور أحيانا حول طرق عمل الشركات متعددة الجنسيات في بلادنا واستراتيجياتها التسويقية، أو أنها تتمحور حول كيفية تنظيم «أولمبياد» لندن والبعد التجاري لهذا الحدث الرياضي العالمي الكبير، فمن الواضح أن الذين يرتادون المكان هم من ذوي مهن حرة، أو إطارات في عالم التجارة والمال، والأكثر من ذلك، فإن بعض الشهادات التي حصلت عليها «الجزائر نيوز» من بعض العاملين في هذه المقاهي، تشير إلى كون ضباطا سامين في الجيش وأجهزة أمنية مختلفة، ومسؤولين كبار في مؤسسات عمومية، وأطباء مرموقين يعملون لحسابهم الخاص، يأتون أيضا إلى حي سيدي يحيى من أجل تبادل أطراف الحديث حول كؤوس «شاي» أو «قهوة» ساخنة. يتموقع المركز التجاري «زمزم» مثل العلامة الفارقة على مستوى المكان، وفي الواقع فإن هذا المركز التجاري الذي يضم عددا من المحلات المختصة في الحلويات والملابس النسائية السامية، يضم أيضا قاعة سينما مختصة للصغار، فهي بمثابة فضاء للترفيه تستعين به العائلات في إشباع فضول وحيوية الأطفال عندما تأتي من أجل التسوق. وأكد أحد أعوان الأمن الموجودين على مستوى هذا المركز أن طريقة عرض الأفلام بقاعة السينما الموجودة بالمركز هي طريقة مميزة ولا تشبه ما هو موجود في قاعات العرض السينمائية الكلاسيكية، حيث يتم في هذه القاعة تمكين الزبائن من رؤية أفلام قصيرة ولمدة زمنية محدودة جدا وذلك بواسطة خوذة خاصة توضع على الرأس، حيث يتم توفير تشكيلات واسعة من الأفلام لفائدة الزبائن، وبأثمان معقولة جدا. يبدو المكان وكأنه قطعة مفقودة من مظاهر الحداثة و«العولمة» في بلادنا، وليس غريبا في سيدي يحيى أن تكون اللغات الأجنبية واللغة الفرنسية خصوصا، هي الطاغية في أحاديث مرتادي طول الشارع الذي يضم على جانبيه ما يصل إلى حوالي مائة مرفق ما بين مطاعم ومحلات تجارية ومقاهي تعمل على تقديم خدمات مميزة. ولما كانت «الحداثة» في عصرنا الحالي مرتبطة ارتباطا وثيقا، ليس فقط باللغات الأجنبية (على اعتبار أن الحضارة متمركزة في بلدان الشمال وليس في بلدان الجنوب) ولكن أيضا بالتكنولوجيا.. فإن حي سيدي يحيى يوفر تشكيلات متنوعة ولماركات عالمية معروفة في مجال الاعلام الآلي والهواتف الجوالة، وهي تجهيزات يتم بيعها بأثمان مرتفعة نسبيا بالنظر إلى جودتها الفائقة وكونها منتوجات أصلية وغير مقلدة على ما يبدو. ومن هذا الباب يمكن العثور على هواتف جوالة من نوع «سامسونغ» و«نوكيا»، بأثمان لا تقل في الغالب عن 20 ألف دينار، في عدد من المحلات الموجودة على جانبي الشارع التجاري بسيدي يحيى، حتى وإن كانت نفس الميزات المتعلقة بالجودة وأصلية المنتوج المرتفع الثمن تنطبق على العطور الفاخرة التي يتم بيعها بهذا المكان، إلا أن هذه الميزات تجتمع بشكل أقوى عندما يتعلق الأمر بالحواسيب النقالة، حيث يمكن مثلا العثور على حاسوب من نوع «ماك بوك» «ماك» نسبة الى علامة «ماكينتوش» الأمريكية الشهيرة بمبلغ يفوق 230 ألف دينار جزائري. شهرة المكان تمتد إلى التسعينيات خلال سنوات التسعينيات لم يكن المكان بمثل الرونق المعماري والجمالي الموجود به حاليا والذي اكتسبه على مر السنين، لكن التجار في سيدي يحيى كانوا مجتهدين جدا، ومسافرين كبار إلى الخارج على نحو جعلهم يوفرون كافة أنواع السلع المحلية والأجنبية، ومن الواضح أن هذه العقلية التجارية القوية هي التي بدأت في ذلك الوقت تعطي المكان شهرة واسعة حيث أصبح «سيدي يحيى» مكانا تقصده الطبقة الراقية التي يبحث المنتمون إليها عن منتوجات متميزة دائما حتى ولو كانت أثمانها مرتفعة. هذه الخلاصة التاريخية عن كيفية تطور المكان ليصبح على ما هو عليه، هي التي يقدمها على الأقل، أحد أبناء الحي (فضل عدم الكشف عن هويته) وهو الذي عايش مراحل تطوره منذ أكثر من 20 عاما، حتى أصبح مقصدا للنخب وعدد كبير من العائلات ولا سيما خلال السهرات الرمضانية التي تمتد هناك إلى دقائق فقط قبل موعد أذان الفجر. ويقول ذات المتحدث إن ما ساعد في اجتذاب المكان لأعداد كبيرة من النخب والإطارات والعائلات، هو كون «أولاد الحومة عاقلين بزاف» ويقصد بهؤلاء جميع القاطنين بالفيلات والعمارات المحيطة بالشارع التجاري لسيدي يحيى، حيث يبدي هؤلاء، حسب ذات المتحدث دائما، احتراما كبيرا للزائرين والفضوليين وكذا الزبائن الذين يقصدون المكان و«لا يفكرون أبدا في إزعاجهم». ومن منظور ذات المتحدث، فإنه يحدث «وجود بعض المراهقين والشباب المزاجيين ليلا بهذا المكان وفي بعض الليالي، لكن هؤلاء ينتمون إلى أحياء مجاورة وليس إلى حي سيدي يحيى، والشرطة تكون لهم دائما بالمرصاد إذا ما فكروا في تخطي الحدود»، يضيف ذات المتحدث، كون المكان يملك طابعا راقيا جدا، لا يعني أن الأغنياء فقط هم من يقصدونه، فالتجار بسيدي يحيى، ولاسيما ملاك المساحات التجارية الكبرى، يعرفون كيف يطبقون هوامش ربح معقولة على المنتوجات ذات الاستهلاك الواسع، رغم أنهم يعوضونها عندما يتعلق الأمر بالكماليات والمنتوجات المستوردة، وهكذا يمكن التعامل مع الجميع وإرضاء كافة قاصدي المكان على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية، وفق ما يؤكده ذات المتحدث دائما. ربما كانت النقطة السوداء الوحيدة على مستوى المكان هي صعوبة إيجاد مكان لإيقاف السيارة، صحيح أن هناك موقف للسيارات لكن بعض الشهادات التي تحصلنا عليها تفيد أن هذا الموقف الذي يقع تحت الأرض، ضيق ولا يتسع لعدد كبير من السيارات. في حدود الساعة الثانية عشر ليلا من إحدى الليالي الرمضانية ودعنا المكان ورجال الشرطة منهمكون في تنظيم حركة مرور السيارات الكثيفة، في حين أن محدثنا قال لنا بلهجة واثقة إن هذه هي البداية فقط، وأن المكان سيعرف اكتظاظا أكبر إلى غاية حلول أذان الفجر.