الحلقة الأخيرة من ندوات النقاش المنعقدة في متحف الفنون المعاصرة بالعاصمة تحت عنوان ''أمة في المنفى'' والمقامة على شرف الذكرى الأولى لرحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، مثلت تجاوزا مهما لواقع التأبينيات التي تقام لتكريم المبدعين الراحلين، ذلك في جهة اهتمامها بإخضاع التجربة للرؤية النقدية أكثر من ''أسطرتها وتقديسها''، كما هو معهود في الواقع العربي· وقد شارك في الندوة التي أدارها الشاعر مولود حكيم (مدير الثقافة بولاية تلمسان)، كل من الشاعر والناقد المغربي محمد بنيس، والكاتب الجنوب إفريقي برتين باخ، والشاعر الفلسطيني نجوان درويش (رئيس تحرير مجلة من وإلى)، بالإضافة إلى الشاعر الكبير عباس بيضون (المشرف على الملحق الثقافي لجريدة السفير اللبنانية)· استهل المداخلات الشاعر محمد بنيس بورقة تحت عنوان ''أفق القصيدة: في غنائيات محمود درويش'' التي قال إنها ''غنائيات حققت انتصار القصيدة على واقع الهزيمة'' الذي خيم على الأمة العربية بعد نكسة عام 1967، مؤكدا أن تجربة درويش قد شيدت بناء جديدا للقصيدة ''تجاوزت من خلاله الوقت الواقعي نحو وقت افتراضي شاسع''، وقدمت ''قراءة غير عادية للتاريخ''، موضحا بإسهاب ''أن القصيدة -بهذا الفهم- فتحت أفقا شعريا لم تعد فيه فلسطين ثابتاً في مدارج الواقع اليومي''، بل أضحت ''معنى شعري'' وسؤال القصيدة التي لا تنتهي أبدا''· أما الشاعر نجوان درويش الذي يمثل حساسية حداثية جديدة، فقد رأى ضرورة إقامة الفصل الموضوعي بين درويش الشاعر ودرويش الأسطورة، وأن الوقت قد آن لقراءة التجربة بعين نقدية تفصل بين الشخصي والموضوعي / أو الفني·· مؤكدا ''أن هناك ضرورة موضوعية للنظر إلى التجربة بعيدا عن سلطة الرمزية''· وذهب نجوان بكثير من الصراحة والجرأة نحو إخضاع التجربة للرؤية النقدية الموضوعية، مركزا على المؤثرات الخارجية والذاتية لقصيدة درويش، مؤكدا ''أن درويش كان من المبدعين الذين يخفون تلك المؤثرات ولا يشون بها أبدا''، موضحا ''أن تجربة محمود المهمة والفريدة لم تخل من التأثير والتأثر''، حيث أكد أن المتمعن في التجربة الفنية لدرويش يكتشف أنه تأثر بعدد من الشعراء، وأن هناك نوعا من ''التناص'' يمكن ملاحظته في عدد من الأعمال، حيث عرفت تجربته مبكرا التأثر بتجربة ''وديع البستاني'' ثم ب ''لوركا''، مستشهدا بعدد من النصوص، منها القصيدة التي نشرها قبل وفاته ''لاعب النرد'' التي قال أنها تبدو متأثرة بقصيدة لعباس بيضون، حيث لهما مطلعين متشابهين ''من أنا مَنْ أَنا لأقول لكمْ· ما أَقول لكمْ ؟'' والأمر نفسه بالنسبة لعلاقة نص درويش بأعمال شعراء عالميين كبار، أو شعراء عرب معاصرين، منهم ''أدونيس'' وغيره من الشعراء الذين قرأ لهم درويش دون أن يصرح تأثره بتجاربهم الشعرية، أو أنهم يشكلون مصدرا من مصادره الإبداعية· وقد مثَل تدخل ''نجوان'' خلال الندوة استثناء فريدا من حيث محاولته تغليب الموضوعي على الذاتي والكاريزمي في شخصية وتجربة درويش كرمز، ألف الجميع التعاطي معه بكثير من ''القدسية''، إن صح الوصف· الشاعر عباس بيضون من جهته أقر جزئيا بواقع ''الأسطرة'' القائم في التعاطي مع قصيدة درويش، مؤكدا أن ذلك كان يمثل ''شيئا مزعجا لدرويش نفسه'' ولذلك - يقول بيضون - سعى درويش ليقول لقرائه ''انظروا إلى فني ·· لا تقفوا عند تلك المدارج، التي غالبا ما تكون الأكثر عمومية''· مقدما قراءة للتجربة من خلال المفاضلة التي ظلت قائمة في حياة درويش بين ''صنيع شعري محبوك وانشغال جماهيري كاسح''· وتوقف بيضون لدى ''مكابدات درويش الطويلة من أجل تحرير القصيدة ''من الفهم'' الانتصاري /الحربي، مقراً أنه نجح في الانتصار على شاعر القبيلة والمرجلة لصالح شاعر العالم والإنسانية حيث تحولت حتى فلسطين - وفق هذه التجربة - إلى استعارة كبرى ولغة سردية· وتوقف بيضون لدى القصائد الأخيرة لدرويش التي مثلت ''نقلة نوعية'' في مسيرته الفنية، حيث أصبح الشعر هو العنوان والموضوع والخلاصة، مرحلة قال إنها بدت مشبعة بأبعاد إنسانية عميقة، ومشرعة لكل الاحتمالات حتى تلك التي تمد جسوراً شعرية مع ''عدوه العالق معه في ذات الحفرة''·· مرحلة سعت لتقشير الحقيقة في واقع مشوب بالوهم·