كان في قلب الحدث·· اتصلنا به ليقول حقائق لجيل اختلطت عليه الحقائق وتاه وسطها، فلم يبخل رئيس الوزراء الأسبق في قول أسرار جديدة عما يراه حقيقة أكتوبر 88، فكان لنا معه هذا الحوار··· هناك روايتان في الجزائر حول أحداث 5 أكتوبر 1988، الأولى تقول بأنها عفوية، والثانية تقول بأنها مفتعلة، أنت كنت رئيسا للحكومة وقتها، ماذا تقول للجزائريين من حقائق حولها بعد مضي 21 سنة، اليوم؟ بلا تردد أو التواء ومن منصبي آنذاك كرئيس للحكومة، أقول والشهادة لله وللتاريخ أن الأحداث كانت منظمة وليست عفوية، بل أكثر من ذلك، لقد عرفت تنسيقا بالغا من حيث الزمن والوقائع وجرت في تسلسل محبوك بعناية· في سنة 1987 شرع في الإعداد لاستراتيجية على أعلى مستوى في النظام من أجل تغيير وجهه، وذلك من قبل من أدعوهم أنا بحزب فرنسا، فقد كانت أول ورقة تُلعب إبعاد الجنرال مصطفى بلوصيف، من المؤسسة العسكرية وبطبيعة الحال لم يكن بلوصيف هو المستهدف المباشر، بل الرئيس الشاذلي بن جديد لأنه كان رجل ثقته وساعده الأيمن في المؤسسة العسكرية، وكان الهدف أيضا إضعافه من خلال إبعاده، لكن الأمر لم يكن معلنا، حيث أُحيل الجنرال مصطفى بلوصيف على التقاعد وعمره 47 سنة، وهو المؤشر على أن للأمر هدف غير الهدف الظاهر، ووجهت له اتهامات مفبركة لا يستحق على أساسها المحاكمة في 92 ولا السجن بعد ذلك، حيث من بين ما اتهموه به هو شراء شقة في باريس وأمور أخرى تعود إلى 12 سنة خلت، وكانت مجمل تهم الفساد التي وجهت إليه لا تتعدى في قيمتها المالية 27 مليون فرنك فرنسي· وكيف كانت الأوضاع داخل الأفالان بالموازاة مع الاتجاه الذي كان سائدا في المؤسسة العسكرية؟ لم يكن هناك فرق لأن من كانوا في الجيش كانوا أيضا في الحزب، وبالتالي ما كان يحدث على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي يحدث كتحصيل حاصل داخل الحزب، وفي تلك الفترة قبل الأحداث، تم إشاعة أخبار مفادها أن الشاذلي بن جديد لن يكون رئيسا للجمهورية في العهدة القادمة، حيث كانت ستنتهي ولايته بعد شهرين من الأحداث دستوريا، ومن بين الإشاعات أيضا هو أن محمد شريف مساعدية وأحمد طالب الإبراهيمي كانا سيترشحان للرئاسيات، لكن التوجه الحقيقي داخل المؤسسة العسكرية آنذاك تحت قيادة الجنرال العربي بلخير هو أن يتم ضمان العهدة الثالثة لبن جديد، لكن الأمر تغير فيما بعد بشكل فجائي، وقد تبين من خلال الخطاب الذي ألقاه في 19 سبتمبر 1988، أي أسبوعين قبل أحداث أكتوبر أن الجزائر مقبلة حقيقة على أحداث عارمة وأنه سيخلص البلاد من التعفن· وتضمن خطابه على حد ما أذكر ثلاثة محاور أساسية، الأول هو شرح للوضع وقال بن جديد إن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في خطر، والمسؤول على ذلك هو الحكومة وحزب جبهة التحرير الوطني، والمحور الثاني، حاول فيه الشاذلي أن يبرىء نفسه وقال ''أنا شخصيا ضحية الأفالان والحكومة''، إذ ألمح بشكل كبير أنه غير حر في أدائه وتصرفاته وصلاحياته كرئيس، والمحور الثالث قدم نفسه من جديد كبديل لإجراء تغييرات هامة جدا· هل كان الخطاب الذي ألقاه من مقترحه؟ كانت كل الأمور تحدث في الرئاسة سواء من قبله أو من قبل جهات أخرى، لأن العربي بلخير كان مديرا لديوانه، ولقد حصلت على معلومات في الفترة ما بين خطاب الرئيس بن جديد وأحداث أكتوبر من طرف محمد الصالح بلكحلة ،المعروف بعلاقته الوطيدة بمولود حمروش الذي كان أمين عام رئاسة الجمهورية آنذاك، وكان بلكحلة في المحافظة العليا للتخطيط، معلومات مفادها أن مظاهرات خطيرة للطلبة ستحدث في 05 أكتوبر وقالها لي وعلى وجهه ابتسامة عريضة تعني الكثير· كيف كنت في مركز قرار كرئيس للحكومة، بينما تأتيك أنباء لا علم لك بها من طرف جهات لا يفترض أن تتوفر لديها؟ بطبيعة الحال فعندما يحدد فريق في النظام أهدافه ورجاله وتكون أنت خارج ملعبهم ستنعزل، لكن إليك هذه·· أنت تعلم أن رئيس الحكومة يتلقى تقارير أمنية يومية من قبل الأمن الوطني والمخابرات، ومن بين ما اطلعت عليه في إحداها قبل المظاهرات، وكان التقرير من المديرية العامة للأمن الوطني أي تابعة لوزارة الداخلية، بأنه في ولاية تبسة تشيع أخبار في كل الأرجاء بأنه في يوم 5 أكتوبر ستحدث مظاهرات عارمة في العاصمة، وللعلم فإن وزير الداخلية آنذاك هو الهادي لخذيري من تبسة وهذا يعني الكثير، حيث وصلت التحذيرات إلى كافة تجار الولايات الذين أشاعوا بينهم بكل عناية إشاعات تحثهم على غلق دكاكينهم حتى لا تتعرض للاعتداءات· وماذا كان موقفك من كل ما كان يصل إليك من معلومات، بماذا تصرفت؟ أنا مغلوب على أمري كما قلت لك، فكل شيء كان يحدث في الرئاسة، وكانت ملامح الفريق قد تشكلت وكنت أنا خارج اللعبة، ووضعيتي كانت مثل وضعية كثيرين في الدولة من وزراء ومسؤولين سامين· وماذا عن الشاذلي بن جديد؟ كان على علم بكل ما يحدث وكل صغيرة وكبيرة· الدليل لقد استدعانا الشاذلي بن جديد يوم الأحداث على الساعة العاشرة صباحا إلى الرئاسة، وكنت أنا مع محمد الشريف مساعدية والعربي بلخير مدير ديوان رئاسة الجمهورية ووزير الداخلية الهادي لخديري ومولود حمروش أمين عام الرئاسة، وبينما كنت أنا ومساعدية خائفين ومتوترين لهول ما يحدث في الشارع، كان الأربعة مطمئنين ومتبسمين وغير قلقين تماما على ما يحدث في الخارج، وفهمنا نحن الاثنان فيما بعد، أنهم هم من هندسوا للأحداث· وقال الشاذلي في الاجتماع، ''أنتم اللجنة التي ستتكفل بما يحدث، إذهبوا إلى مكتب العربي بلخير وتتبعوا الأوضاع، وإذا رأيتم بأن هناك ما يتطلب إخراج الجيش إلى الشارع، أبلغوني وسأعطي الأوامر لخروج الجيش لقمع المظاهرات إذا أفلتت الأمور، ولما خرجنا من عند الرئيس الشاذلي بن جديد متوجهين إلى رئيس ديوانه الجنرال العربي بلخير، إنفرد هذا الأخير بكل من مولود حمروش والهادي لخذيري وتركني مع شريف مساعدية ننتظر لأكثر من ساعة بينما كانوا هم يخططون بمفردهم، فثارت ثائرة شريف مساعدية وأشار علي بضرورة الدخول عليهم في الاجتماع، وفعلنا·· تفاجأوا لدخولنا عليهم، تبادلوا النظرات ثم صمتوا، فتيقنا مرة أخرى أن الأحداث مصطنعة''· وماذا عن 6 أكتوبر؟ في اليوم الموالي، اتفق كل من وزير الداخلية آنذاك الهادي لخذيري والعربي بلخير على الاتصال بكل من عباسي مدني وعلي بلحاج عن طريق الجنرال محمد بتشين، وتجنيدهما لإثارة مظاهرات واحتجاجات في الشارع معاكسة لمظاهرات 5 أكتوبر· لماذا؟ كان النظام يومها ذكيا جدا، فقد كانت هذه المظاهرات التي سميت بالمظاهرات المعاكسة، تهدف إلى محو وإزالة كل الشكوك حول السلطة التي تسربت عنها أنباء بأنها هي من افتعلت الأحداث، وقبل عباس مدني وعلي بلحاج بذلك وخرجوا إلى الشارع بعد جمعة السابع من أكتوبر، وقد تم إرفاق هذه المظاهرات المعاكسة بإجراء رهيب، حيث سحبت السلطات كل المواد الأساسية الغذائية من السوق لتفتعل الندرة بالموازاة مع خروج عباسي وبلحاج إلى الشارع من أجل أن يقال بأن غلاء المعيشة وندرة الغذاء هي من أغضبت الشعب· لكن كيف تحول عباسي وبلحاج من حلفاء إلى أعداء فيما بعد؟ لم يحسب من افتعلوا أحداث أكتوبر جيدا لهذه الخطوة، فقد انقلبت عليهم الأمور فيما بعد وخرجت عن سيطرتهم، فكانت بالنسبة لعلي بلحاج وعباس مدني فرصة ذهبية لا تعوض من أجل صناعة مكانة سياسية لنفسيهما وهو ما حدث حيث فرضا نفسيهما فرضا، وللعلم فالمواد الغذائية رجعت إلى السوق في يوم 8 أكتوبر، أي بعد ثلاثة أيام من المظاهرات· وفي اليوم التاسع استدعانا الرئيس الشاذلي، المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني وحضر منه سبعة فقط من مجموع 13 عضوا وكنت من بينهم، علاوة على كل من العربي بلخير والهادي لخذيري اللذين لم يكونا عضوين، وكان أول من أخذ الكلمة هو الجنرال رشيد بن يلس، قائلا: ''سيدي الرئيس إن الوضع خطير، وأقول هذا وليس باستطاعتك اتهامي بأنني ضدك، لأنني سأطلب منك أن تسلم الرئاسة وتستقيل''، وهنا قام كل من رابح بيطاط ومحمد الشريف مساعدية وقاصدي مرباح والوزير الأول السابق عبد الغني وقاطعوا بن يلس ولم يدعوه يكمل حديثه، لكن الشاذلي طلب منهم أن يدعوه يتكلم وبقيت الجلسة متوترة· وعندما أخذت الكلمة، قلت أوافق الجنرال رشيد بن يلس في طرحه، لكن بشرط أن يعلن الشاذلي عن تصريحات تسبق الإعلان عن الاستقالة، تتمحور حول ظهور الفوارق الاجتماعية، وتكون الحكومة آنذاك حكومة انتقالية تسيّر البلاد إلى غاية انتهاء عهدته الرئاسية بحلول ديسمبر، وتعلن أيضا بأنك لن تترشح لولاية ثالثة· وماذا كان رد الشاذلي بن جديد؟ رد الشاذلي كان في خطابه للشعب·· حيث قال بأنه لم يكن يتطلع يوما في حياته إلى رئاسة الجمهورية بل هم من كانوا يفرضونها عليه، وكانت تلك الكلمات كافية لتضليل الشعب وإيهامه ورسالة أيضا ليفهم بأنه لن يترشح لعهدة أخرى· في الحادي عشر من أكتوبر بدأت الأمور تهدأ وترجع إلى مجراها الطبيعي، فكل ذلك يبين أن الأحداث كانت مسطرة تسطيرا من العاصمة إلى سطيف وعنابة وعودة إلى المدية والبليدة· الأحداث نتجت عنها تغييرات في قيادات الجيش الشعبي الوطني الذي سحب رموزه أيضا من الأفالان، هل من إضاءة هنا؟ وقعت ستة تغييرات هامة جدا على ما أذكر، إضافة إلى أخرى· فقد أحيل على التقاعد كل من الجنرال مجدوب لكحل عياط رحمه الله، ومحمد علاق، علي بوحجة، الهاشمي هجرس والعربي لحسن وزين العابدين حشيشي·· إنهم وطنيون أُبعدوا بقرار من الشاذلي، ومناصبهم بقيت شاغرة لقرابة السنة· هل تقررت التعددية السياسية قبل أحداث أكتوبر أم بعدها؟ بهذه التغييرات جاءت التعددية السياسية في الجزائر، مما يعني أن الأمر كان مدروسا، وباركت فرنسا هذا التوجه الجديد وأعربت عن ارتياحها لزوال حقبة الحزب الواحد، ولازلت أحفظ بيانات فرنسا التي باركت كل ما حدث من تغيرات علاوة على الانفتاح السياسي· وأنت كيف تم إبعادك؟ أنا قلت بأنني سأسلم المهام في اجتماع 7 اكتوبر 1988 للمكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني، بعد أن أصبحت مدركا لكل الأمور وأنني لست الرجل المناسب للمرحلة القادمة، فقد وقع الاختيار على قاصدي مرباح· كيف ذلك وهو الذي عارض ذهاب الشاذلي؟ قلت لك إن النظام آنذاك كان يتمتع بذكاء خارق، فقد اختير قاصدي مرباح كرئيس حكومة حتى يعطوا لحركتهم مصداقية، فلا يستطيعون وضع فقط من هو موالٍ لهم فقط، فالأمر مفضوح وكان مرباح بارزا يومها في سيره عكس بعض التوجهات، والدليل عدم تركه يشكل حكومته كما ينبغي وغادر بعد أقل من 9 أشهر· وكيف سار المؤتمر السادس للأفالان بعد ذلك، خاصة وأن مساعدية وطالب الإبراهيمي كانا مرشحين للرئاسة؟ هذه إشاعة والدليل أن لا هذا ولا ذاك قد ترشح وقتها للرئاسة، بل فاز الشاذلي لعهدة ثالثة وقد أشرف على الهيئة التحضيرية للمؤتمر مولود حمروش والعربي بلخير·