الأديبة: غادة السمان عندما حصلت على رقم فاكس بيتها في باريس من إحدى الصديقات في بيروت، كنت أشك في أن ترد على اتصالي، لأنها ظلت دائما إسما محاطا بالكثير من الأسرار والضباب في علاقتها بالإعلام والصحافة. * لكني فوجئت بعد 3 أيام بفاكس بخط يدها الجميل ينزل قاعة التحرير »بكل سرور أوافق على الحوار وأنا بانتظار الأسئلة على الفاكس«. وكنّا طوال مدة الحوار نتواصل عن طريق الفاكس تخبرني أنها »أجابت عن نصف الأسئلة وتوقفت لأنها دخلت في حالة كتابة روايتها الجديدة التي ستصدر قريبا... »أيام الحب والياسمين«، أو أنها غادرت إلى سويسرا وستعود إلى باريس. وفي المواعيد المحددة بدقة مدهشة سلفا من طرفها. وصلني نص الحوار مرفقا بصور حديثة جدا لغادة لم تنشر من قبل، نص يعبق بعطرها وتمردها يشبه إلى حد كبير نصوص كتبها الأربعين، نص كتبته غادة بحضور 584 بومة تحدق في نهر السين وبرج إيفل. * * * غادة السمان بقدر حضورها الأدبي بقدر غيابها عن منابر الإعلام والتصريحات. لماذا كل هذه العزلة والتحفظ؟ * ** بدوري أسالك هل بوسعك أن تقومي بإهدائي عمرا إضافيا إلى عمري الحالي الذي استهلكه في الكتابة؟ إذا كان ذلك بوسعك، أعدك بالحضور على المنابر الإعلامية كلها ونثر التصريحات المتلفزة. لكنني أصدرت حتى اليوم أكثر من أربعين كتابا من »عيناك قدري« إلى »القلب العاري عاشقا« وحاولت فيها تجاوز نفسي، كما ترجم بعض أعمالي إلى أربع عشرة لغة أجنبية وصدر عني 15 كتابا وكما ترين »العمر قصير والفن شاسع« كما يقول غوتيه المبدع الكبير.. * وليس بوسع عاشق الأبجدية الإمساك بالخيوط كلها، ولا مفر له من الاختيار. وأنا انحزت إلى الأبجدية قبل »الإعلام« من زمان. وأذكر كمثال، أنني بعدما أصدرت كتابي »رحيل المرافئ القديمة« حصلت على أرفع جائزة أدبية لبنانية تقدمها »جمعية أصدقاء الكتاب« الراقية باسم رئيس الجمهورية. لكنني ليلة استلام »جائزة الإبداع« هذه كنت مستغرقة في كتابة روايتي »بيروت 75«. وهكذا اتصلت بهم للاعتذار لكنهم أصرّوا على حضوري. وأنقذتني حماتي السيدة سارة غندور الداعوق رئيسة »جمعية العناية بالطفل والأم«، سيدة شهيرة لبنانية من سيدات العمل الخيري، وذهبت هي واستلمت الجائزة وأنا أنجزت »بيروت 75« روايتي الأولى ولم أسمح للنجاح باغتيالي وكان ذلك في أواسط السبعينيات. وما أكثر الأدباء الذين اغتالهم نجاحهم ولم ينجحوا بعده في تجاوز عطائهم الأول روايتي »بيروت 75« بقيت في قلوب القراء أكثر من صور استلام أية جائزة أو أي حوار متلفز. * * * يقال انك ترفضين أي حوار تلفزيوني منذ السبعينيات عندما اكتشفت في القاهرة أن المذيعة التي حاورتك لم تقرأ أيّا من أعمالك، لماذا برأيك اليوم تنتشر في الشارع العربي ظاهرة العزوف عن القراءة؟ * ** ها أنت تعودين بي إلى ذكرى طريفة، يومها فوجئت بأن مقدمة البرامج لا تعرف حتى أسماء كتبي، ولم تكن يومئذ كثيرة كما هي الآن، بل كانت ثلاثة كتب فقط، وهي اليوم ما يزيد عن أربعين كتابا... وفوجئت هي بردة فعلي العفوية حيث نهضت وهربت من الأستوديو، والمذيعة تركض خلفي وأنا الفقرة الهاربة من البرنامج. وحاولت عبثا إعادتي إلى الكاميرا... وأنا أركض صوب الشارع وأضحك. * أما عن ظاهرة العزوف عن القراءة في الشارع العربي فالكل مسئول عنها باستثناء القارئ. هذا إذا فرضنا جدلا أن القراء العرب يتناقصون. * حين يكون علينا أن نختار بين الرغيف والكتاب نختار الرغيف طبعا. وحيث لا تُتاح لنا فرصة التعليم المجاني »والأمية آفة خطيرة عربية« لا نستطيع لوم أحد لأنه لم يشترِ كتابا لا يقدر على مطالعته... هل تريدين أن أتابع سرد مآسينا العربية؟ * أعتقد أن »الشارع العربي« مشكور على ما يطالعه، مهما كان قليلا، بدلا من لومه لأنه لا يطالع. * ويستحسن ألا ننسى المؤثرات العصرية الجميلة، حيث يطالع المرء على »الانترنيت« كتبه المضلة وصحفه، والمهم أن يطالع... تطور أداة القراءة من ورق البردي إلى الانترنيت أمر عادي والمهم فعل التواصل الفكري على نحو ما... * * * تستعدين لإصدار رواية جديدة »أيام الحب والياسمين«، عن ماذا ستكتبين هذه المرة؟ * ** باختصار، روايتي هي عن »الحب والياسمين« بالتفصيل علمني الزمان عدم التحدث عما أكتبه فأنا بعد هذا العمر الطويل مع الأبجدية مازلت تجربتي منفتحة للدهشة والمفاجأة، ولا أدري إلى أية غابة سيقودني قلمي خلال الكتابة مما يبدل المخطط الأصلي للرواية و»النوايا«الأبجدية أو الكتاب بأكمله. ثم أنني أعلن أحيانا عن صدور كتاب وأنجز كتابا آخر. لقد أعلنت مثلا عن صدور »الرغيف ينبض كالقلب« لكنني أصدرت »اعتقال لحظة هاربة« و»الحب من الوريد إلى الوريد«. الكتاب كاللص لا يدري ما الذي سيغنمه في »غارته الأبجدية«. * * * لست أدري لِمَ تبدو لي دائما مجموعتك القصصية »عيناك قدري« مختلفة نوعا ما عن باقي نِتَاجِكِ، حيث بدت لي فيها النماذج النسوية أقل تمرّدا؛ شخصيات في مفترق الطرق »فليس هناك شيء أجمل ولا أصعب من أن تكوني امرأة«، هكذا تقول إحدى البطلات. هل يعني هذا أن غادة السمان يومها لم تكن بعد قد حسمت في خياراتها؟ * ** لم أخطط يوما لما تقوله أو تفعله بطلات أو أبطال قصصي، بل أترك الحقيقة الفنية تقودني، وأبطالي يتحدثون ويملون علي أصواتهم. * الآن مثلا أستطيع أن أرى انه ما كان بوسع أبطال وبطلات كتابي الأول »عيناك قدري« التصرف على نحو آخر، ومعظمهن بنات دمشقيات أو ريفيات سوريات من أوائل الستينيات... ومن الخطإ الفني القصصي أن تتحدث واحدة منهن مثل سيمون دو بفوار مثلا. الفن القصصي عندي هو المعادل الفني الإبداعي للحقيقة وهو بالتأكيد ليس أداة تبشيرية للوعظ، وربما لذلك كتبت في الفترة ذاتها الكثير من مقالاتي »النسوية« مثل »دستورنا نحن الفتيات المتحجرات« و»فلنطالب بتحرير الرجل أيضا« و»فلنصلّ من أجل الجارية التي تجلد وترضى بذلك«. ربما كتبت ذلك لأقول بصوتي ما لم يكن بوسعي إرغام بطلات قصصي على قوله دون أن تفقد القصة فنيتها. * منذ بداياتي أدركت على نحو عفوي أن القصة ليست أداة تبشيرية بل هي أولا فن وعلى الكاتب ألا يخون ذلك فبدون الفن، لا تعود للقصة قيمة لا تبشيرية نسوية ولا إنسانية ولا إبداعية. * على الصعيد النسوي ومنذ بداياتي، حسمت خياراتي وهي أن الرجل ليس العدو الحقيقي والتخلف هو عدونا معا. * ولذا لم أقع يوما في فخ التوهم أن الأنثى هي الأصل، أو الذكر فتكاملهما هو الأصل، والإنسانية هي المفتاح. * وأدعوك للتعارف مع كتابي القصصي الأخير »القمر المربع« وهو كتاب فاز بجائزة الكتاب المترجم من العربية للانجليزية من جامعة أركنساس ومؤخرا من إسبانيا جائزة »أندلوسيا« وصدر بعدة لغات. وبالذات مع قصتي فيه »سجل أنا لست عربية« وستجدين بطلة لا تكره الرجل لكنها تدافع عن حقها في تعامل المجتمع معها كإنسانة مساوية في إنسانيتها للرجل على الرغم من الفروق البيولوجية، ثم إن تلك الفروق البيولوجية التي يوجهها البعض ضدها هي في حقيقة الأمر لصالحها، فالمرأة رجل قادر على الإنجاب، أما الرجل فعاقر بالمنظار الأنثوي إنه فاشل في الحمل والإرضاع وإلا لطلبنا من الرجال مشاركتنا في ذلك. * * * ذكرتِ في حوار سابق أن سمير ذكرى سيحول روايتك »فسيفساء دمشقية« إلى فيلم سينمائي، هل تتوقعين أن يكون نجاح الفيلم بنفس نجاح الرواية؟ * ** أتمنى نجاح الفيلم أكثر من الروية، فالفيلم طفل روايتي وفي حوار مؤخرا مع المخرج في جريدة »الثورة السورية« يقول إنه سيبدأ التصوير عما قريب »شهر جوان« والسينما أداة فنية جذابة وحين يتعامل معها مخرج موهوب مثل سمير ذكرى تصير أكثر جاذبية؟. * * * روايتك »بيروت 75« تنبّأت بالخراب الذي حدث في لبنان، من أين تأتي غادة بحس العرافة؟ * ** أكرر أنا عميلة غير سرية للحقيقة، وكل كاتب عميل للحقيقة مثلي سيحاول أن يتحرّى ما يدور حقا. لن يكفى بالتعارف مع بيروت الجامعة الأمريكية »حيث كنت أدرس« أو مع بيروت بهجة العيش والحياة الوردية والسهرات بل سيحاول الخروج إلى دنيا الناس ومعاناتهم وأحزانهم وما فعلته. قبل أن أكتب »بيروت 75«، ذهبت إلى المناطق اللبنانية كلها، حيث الفقر والمعاناة، وكتبت عن ذلك كله في تحقيقات صحفية لمنبري، كما ذهبت إلى مستشفيات المجانين والسجون وعايشت معذبي مجتمعنا، وركبت القوارب مع الصيادين ليلا وعايشت مآسيهم، وبعد ذلك كله جاءت نبوءة عرافتي في رواية »بيروت 75«. ولا أنكر أنها أدهشتني وأخافتني وأنا أسطرها والكتابة »المنطقية« لا تستطيع الوصول إلى لحظة الرؤيا الأبجدية تلك ولعله ولابد من تغذية حس النبوءة ذلك بملامسة الحقيقة... وما من نبوءة بدون تحسس وجوه المتألمين كما يتحسس الأعمى كتابا بلغة برايل... ولحظتها كتبت نبوءة عرافة »بيروت 75« حين صرخت برعب »أرى كثيرا من الدم« وبعدها بأشهر انفجرت الحرب اللبنانية وتجدين عرافتي في »رباعية بيروت« كلها، أي في »كوابيس بيروت« أيضا وكوابيس الغربة »ليل المليار«، وفي الجزء الأخير من الرباعية الصادرة في 2003 وهو سهرة تنكرية للموت، ولأسف تحققت نبوءات عرافتي كلها في »رباعية بيروت«. * * * تعتزمين إصدار مذكراتك هل بقي لغادة بعض الأسرار التي لم تكشف عنها بعد، خاصة بعد رائعتك »فسيفساء دمشقية« التي قال النقاد إن فيها الكثير من سيرتك الشخصية؟ * ** لقد خاب أملي في الشائعات عني وعلي كتابة سيرتي. حين أطالع بعض ما يكتب عن حياتي الشخصية، أقول نفسي أيتها المرأة أنت تستحقين شائعات أفضل ثم أنني لم أكشف حقا عن الكثير من أسراري في روايتي تلك. »فسيفساء دمشقية« هي أولا رواية استغرقت مني كتابتها سبعة أعوام، ومن فني بالدرجة الأولى، وفيها منى، لا بالضرورة في إحدى البطلات ك»زين« فأحداثها تتوقف وعمر زين 16 سنة بل وأيضا في ذكورها وبقية نسائها... لكن الحقيقة الفنية فيها غلبت الذكريات والرواية عندي لا تستطيع أن تكون سيرة ذاتية وعملا إبداعيا في آنٍ.. أنها تخلق مناخا حياتيا واجتماعيا معيّنا ولكنها ليست السيرة الذاتية للكاتب حقا. * * * كتابك »امرأة عربية وحرة« سبق أن هوجمت مقالاته من قبل مفتي الديار الشامية علي الطنطاوي واتهمك بالدعوة لتشجيع الانحلال في المجتمع وقيل يومها إن غادة استندت إلى منصب والدها عميد الجامعة في رد التهمة؟ * ** استندت إلى صديقي الأول الكبير الذي تصادف أنه كان والدي، وصديقا حميما أيضا للشيخ علي الطنطاوي... ولا صلة لمنصب والدي كوزير أو عميد الجامعة في ذلك ولكن بصفته كصديق للطرفين قام بفك الاشتباك وتهدئة النزاع وبإعلان هدنة. الشيخ الطنطاوي احترم الاتفاق، أما أنا فاتبعت تمردي في كل حرف سطرته. * * * غادة السمان تعشق كثيرا البوم وتتفاءل به، لماذا اخترت هذا الطائر تحديدا لاتخاذه رمزا لمنشوراتك رغم أن الثقافة العربية تتشاءم منه؟ * ** لا أحب التشاؤم المتوارث دونما مبرر عقلاني. ولأن الثقافة الشعبية العربية تتشاءم منه أعلنت الحب عليه أرفض التشاؤم اللاعقلاني حيث يقوم المرء بإلقاء تبعة مصائبه على طائر ليلي بريء من مخلوقات الله الجميلة بدلا من مواجهة الأسباب الحقيقية لتعاسته والإشارة بإصبع الاتهام إلى المسئول الحقيقي عن بؤسه والانتفاض ضده. والمدهش أن الثقافة الشعبية عندنا تتشاءم من البوم على الرغم من أن ذلك الموقف يناقض النصوص الدينية المقدسة التي حرمت التطير في آيات قرآنية عديدة. ولكن أهم أسباب حبي للبوم ليست مناكدة السائد فحسب، بل وأولا الإعجاب بجمال ذلك الطائر، وبسحر عينيه، وتلك قضية غرام شخصية بيني وبينه.. وأنا في بيتي محاطة بطيور البوم وعددها في آخر إحصاء ليلي لي معها 584 بومة وكلها يحدق الآن في نهر السين وبرج إيفل ويتلصص على ما اكتبه لك، وحين أنام سيغادر البوم بيتي ليطير بحرية ويعود إلى أوكاره عندي لحظة استيقظ صباحا لأشرب قهوتي وأقول للبوم النائم صباح الخير يا جميل. * * * يقال أن الراحل نزار قباني، الذي تجمعك به علاقة قرابة رثى والدتك الراحلة السيدة سلمى رويحية بقصيدة نادرة لم تنشر إلى اليوم، كيف كانت علاقتك بنزار الإنسان ولماذا لم تنشر تلك القصيدة إلى اليوم؟ * ** لم تنشر القصيدة بسبب فوضي أوراقي وانشغالي دائما عن تنظيمها بكتابة الجديد، دوما أقول المهم أن أكتب جديدي، وحين أموت لن يكون بوسعي أو بوسع أحد آخر القيام بذلك، ولكن أي محب لحرفي يستطيع ترتيب أوراقي ونشرها وفي تلك القصيدة التي كتبها نزار حين كنت طفلة يحنو عليّ فقدي الكبير لأمي التي للأسف لم أعرفها ولا أذكر شيئا عنها وبالمقابل أعدك بالبحث عن القصيدة ونشرها ومادمت قد استفسرت عنها، سأرسل لك نسخة أنشرها في منبرك في اليوم ذاته وقت نشرها في منبر مشرقي... وهذا وعد، وقد يدهشك أنني سأفي به.