يعد الكاتب الروائي والموسيقار الإنجليزي أنطوني بورجس (1993 1917 -) أكثر الكتاب الإنجليز جرأة، قضى طفولة تعيسة في كنف زوجة أبيه المتسلّطة، تعلّم العزف على آلات الموسيقى على يد أبيه، عمل كضابط في ماليزيا، من أشهر مؤلفاته، البرتقالة الميكانيكية، عسى أحبك، فرناهام نزل الحياة، موت في دبرفورد، مملكة الكفار، روما تحت المطر· لتربيتك الكاثوليكية، في بلد أنجليزي، دور كبير في حذقك الدائم؟ طبعا، الكاثوليكيون أناس جهلة، خاصة أولئك الذين يعيشون بالشمال بمانشستر، يعتقدون أنهم عرق مختلف، أهل الجنوب لا يعتبرونهم كذلك، ما أدى إلى حدوث انقسام حاد تزعمته مارغريت تاتشر جاعلة منه موضة جديدة، أثبتت فرقة البيتلز أنها موجودة رغم عدم انتماء أعضائها إلى لندن، اشتهروا لأنهم لم يكونوا إنجليز، كانوا كاثوليكيين من إيرلندا، لهذا استعملوا لغة عالمية جد مفهومة، نحن في الشمال الشرقي نعتبر أنفسنا قريبين جدا من مدريد أو روما أو باريس، في حين لا نشعر بمثل هذا الإحساس إزاء لندن، هذا ما أكدت عليه طوال حياتي، فلندن مدينة غريبة جدا· في سنة 1923 دخلت المدرسة، كنت طفلا ضعيف البنية، لأنني كنت أفتقد الأم الحقيقية، رغم أنني لم أكن أعاني من سوء التغذية، تعلّمت الكاثوليكية التي تدعو إلى معاقبة النفس من الداخل، الانتماء إلى الكاثوليكية يعني، فيما يعني، الانتماء إلى فئة أقلية تعاني الاحتقار من قبل طلبة مدرسة سان اغوستين، علّمني، أقراني من التلاميذ، تلقيب هؤلاء، بالكلاب المسعورة، ردا على تعريفهم لي بالقط القذر، كنت أجهل التوراة، لكن هو كتاب قذر بكل تأكيد، أفهموني أن التوراة ليس كتابا قذرا فحسب، بل كتابا خطيرا أيضا، إنه السبب الرئيسي في فقدان الإيمان الكاثوليكي، أرى مثل هذا الحكم، على الأقل من الناحية التاريخية، صحيحا إلى حد كبير· عندما غادر جاك ويلسن مقاعد الدراسة في الحادية عشر من عمره أدركت أن إنجلترا لم تصنع فحسب، بل آيلة للتمزق بسبب غبائها وارتمائها في أحضان الشيطان، فالمسيح حاضر دائما بالمذبح··· وليس في تلك الأماكن التي زادت من الشرخ الذي يعاني من المجتمع، إنه صرح وطني يتنكر للوحدة الإنجليزية للماضي وللمستقبل· انضممت إلى مدرسة ''خافريانوس''، وهي مؤسسة تحمل اسم أحد كهنة الهنود الحمر، إنه أحد الأعمدة الإسبان المواجهين لإعادة الإصلاح وأحد السبعة المؤسسين لجمعية ''يسوع''، إذن فلا شيء إنجليزي هنا· بالإضافة لكونك كاثوليكي، عشت طفولة تعيسة جدا··· لقد فقد العديد من أبناء جيلي آباءهم بسبب الأنفلونزا الإسبانية عندما زارنا أبي وجدني مريضا في فراشي وأمامي أختي التي فارقت الحياة (عندما بلغت السن الكافية التي تجعلني أقف على حقيقة حقد أمي ورعايتها لي مرغمة، تيقنت من مشاعرها الجامدة المحدودة، وعدم اهتمامها بمستقبلي، وزواجها الثاني كي تتخلص مني)، لذا أصبحت أحسد كل من له أم، فأنا لم أعرف الأم قط أعني أما أثق فيها· ما الأثر الذي تركته تلك المشاعر الباردة في أعمالك! لم أتحدث عن هذا لأنني أعلم أن النقاد سيتلقفون هذا الأمر بسرعة، غير أنني أقول بأني تحدثت عن هذا بشكل غير مباشر، فحياتي وأعمالي تأثرت برودة المشاعر، الأمر الذي جعلني لا أحسن التعبير عن الحنان· كان لديّ انطباع بأن أخفي هذه المشاعر، كنت أرى أن كلمة أحبك تحدث صدمة سريعة في النفس، أما الآن أصبحت أجد سهولة في قول كلمة أحبك لزوجتي الإيطالية، غير أنني أجد صعوبة في قول هذه الكلمة للنساء الإنجليزيات· كنت دائما أجد صعوبة في إقامة علاقة معهن، تعرّفت على العديد من النساء من مختلف المناطق، وجدتهن باردات لا يستجبن جيدا لكلمة ''أحبك''، ربما هذا الذي أقوله ليس صحيحا، غير أنني أعتقد أن الإنسان الذي لديه أماً يعيش بشكل أفضل، لا أستطيع أن أعبر عن حناني لإبني، لا أستطيع أن أقضي على برودة مشاعري، لقد لاحظ إبني بنفسه هذا الأمر، إن التعاسة التي يشعر بها أغلب الناس ناجمة عن العلاقات الأسرية، فالعائلة هي أهم شيء، فالشخص يولد ضمن أفراد عائلته ويموت بينهم، فليذهب الكل إلى الجحيم، الحكومة، الدولة إلا العائلة فلا· هل عوّض الأدب هذه النقائص كلها؟ بالطبع، أي نجاح مهما كان صغيرا يمنحك ثقة بالنفس، أنا لم أنل نجاحا إلى غاية اليوم، ولكن إذا ما تمكنت من كتابة كتاب فستشعر بإحساس أفضل، على الأقل ستشعر بأنك قمت بشيء ما، فالكتابة تمنحك شعورا بالأمان الداخلي، لقد ساعدتني الموسيقى أيضا عندما أستمع لتوزيع موسيقي أنجزته بنفسي أشعر بالاعتزاز غير أن تأليف كتابة يمنحك شعورا مميزا، فالموسيقى لا تملك دلالات أما الكتاب فهو مليء بالمعاني والدلالات، كتبت الكثير، البعض من الناس يرى أنني أسرفت في الكتابة، أرى أن هذا الحكم هو ضرب من ضروب السفه والبله، لاحظي في إنجلترا لا يرتاحون لمن يكتب كثيرا، فالكتاب المنتمون لجماعة بلومبسبوري، فرجنيا وولف أيان فوستر، برنارد روسل كلهم ينتمون إلى الطبقة المهيمنة، كلهم درسوا في جامعة كامبرديج، كان كلهم أغنياء يعتبرون، ويلس الكاتب الممتاز الذي يؤلف في كل سنة أربعة أعمال، كاتبا غوغائيا· أما فوستر الذي لم يكتب في حياته سوى ستة كتب، فيعتبرونه فارس الكلمة، هذا ليس جديدا في إنجلترا، هذا تقليد سائد منذ عهد شكسبير الذي عانى من الاحتقار لأنه لم يكن ينتمي إلى نخبة أوكسفورد أو كامبرديج يلقبونه بالغراب المتطفل ذي الريش المنمق والذي يجرؤ على الكتابة للأفاضل· فالواحد منا لا يزال يكتب لأن الكتابة بالنسبة له هي الوسيلة الوحيدة للاسترزاق، إنها طريق شاق مضنٍ فيه تنافس كبير، عندما أدخل إلى مكتبة ما وألاحظ ذلك التنافس الشرس أشعر بخفقان شديد، هناك سبب آخر لمواصلة الكتابة وهو تلك الرغبة الجامحة في تطويع ذلك العدو الصعب المراس المتمثل في اللغة التي لا نستطيع السيطرة عليها قط، لذا نحن دائما في حالة التعلم، الأمر الذي يطبع مجهوداتنا بطابع الحيوية، فالكاتب يموت وهو يكافح ويصارع، أما (السيرة الذاتية) فإنها معركة أخرى· هل تعلمت أشياء أخرى وأنت تكتب السيرة الذاتية؟ طبعا، تعلمت الكثير خاصة عن حياتي فيما مضى، أما عن حياتي الحالية فأتمنى أن أتعلم أشياء عنها عند كتابة الجزء الثاني· في هذا الكتاب اتخذت منحي كما لو أنني أكتب عن شخص آخر، عن طفل يمر بمختلف أطوار الطفولة، وأنا أكتب اكتشفت أنه لا يوجد ما يسمى بالشخصية الموحدة، فبإمكان الشخص الواحد أن يمتلك عدة شخصيات، فالشيء الموحد هو جسم الإنسان والبيت الذي يأويه، لقد انتقدت الكثير معتبرا أن هذا الكتاب ضخم جدا - هذه وجهات نظر - فسيمون دي بوفوار اتهمت على أنها كاتبة مطنبة، فردت بأن الشخص الذي يعجبه كتاب ما حتى وإن كان من أربعة آلاف صفحة، لا يراه ضخما ومن لا يعجبه كتاب ما يراه ضخما حتى وإن كان مكونا من صفحتين· رائع معك على طول الخط، سيكون الكتاب القادم أكثر سمكا، لقد هاجموني في إنجلترا لأنني كنت نزيها أكثر من اللازم، قالوا لي ما كان لك أن تتحدث عن زوجتك ولا عن الجنس، كنت قد قرأت اعترافات روسو، أراها جريئة جدا، فالإنجليز والإيرلنديين يرون أن الجنس هو أكبر الآثام، لهذا نجد أن الأرلنديين والأسكتلنديين لا يهتمون بالجنس، لا يمارسون الحب إلا قليلا، فهم يرون في المتعة الجنسية سببا في نسيان الفرد لربه، آمن بهذه الفكرة أورويل في كتابه 1984 حيث أن نجد أن الجنس محرّم تماما، يقول إذا أحببت امرأة فلا تحب جسدها· لقد قامت حواء بالمعصية، النساء مصدر خطر، يريد أن يقول من جهة أخرى أن الخطيئة هي مصدر المتعة، إنه مفهوم مخزي، لقد عشت مع مجتمعات مثل أباجن بورنيو· فسكان هذه المنطقة لا يؤمنون بمثل هذا المفهوم، يمارسون الجنس بكل حرية لأنهم يرونه سببا في تجديد دمائهم التي هم في حاجة إليها· هل الرغبة الجنسية هي أحد دوافع الإبداع؟ إطلاقا، فالدافعان يسيران مع بعضهما البعض، فالطاقة الفنية هي طاقة جنسية، لا أعتقد أنه بالإمكان أن تكتب عملا إبداعيا وأن تعزف عزفا موسيقيا، فالكتّاب الكبار كلهم كانت لهم قوة جنسية معتبرة كجورج صاند، بالزاك، ميغل انجل· وماذا عن جويس؟ جويس أيرلندي، كان سكيرا، أما روبير بارنس الاسكتلندي لم يكن يشرب كثيرا إلا أنه كان عاشقا ولهانا، مثل هذا الأمر نادر الحدوث بأسكتلندا، أما بيرون فكان الجنس نفسه، كذلك الشأن بالنسبة للشخصيات السياسية ذات الكاريزما فمن المؤكد أنها تملك قوة جنسية معتبرة· ليست لديّ نية مبينة في تحويل الجنس إلى شيء آخر، لكني أقول إن الجنس شيء موجود، عندما منحتني مارغريت تاتشر جائزة ضمنت التفاتتها لأنني أعلم أن لها قوة جنسية معتبرة، غير أنها تفتقد للروح الفكاهية فهي لا تعرف الضحك على نفسها· هل تعتقد أن الحكومة البريطانية تكافئ مصالحها المتعددة ولا تفعل ذلك مع الأدب؟ في بريطانيا لا يحبون كثيرا الأدب بل يحبون كرة القدم أكثر، حتى كلمة أستاذ لا يستعملونها بين أوساط الأدباء ويستعملونها في مواقع أخرى، عكسكم أنتم الإسبان والإيطاليين أو الفرنسيين· في سنة 1987 منحتني الحكومة الفرنسية لقب قائد الفنون والأداب، انتظرت طويلا حتى أحظى بتكريم صاحبة الجلالة، انتظرت شهورا طويلة لقد غضب ويليم جولد ينج صاحب جائزة نوبل للأداب لأنه لاحظ أن عمال الفنادق التي كان ينزل بها لا يعرفونه· في الحقيقة، يجب ألا نلقي بالا لمثل هذا ولكن أحيانا نجد دمائنا تغلي في عروقنا بسبب مثل هذه الأمور· ربما لهذا السبب ترك جويس البلد وراح يكتب في المهجر··· لا، هذه قصة أخرى، لم يكن ممكنا الكتابة في أيرلندا، فهناك تكثر الثرثرة كانت رواية عوليس عملا لم تكتمل كتابته قط، شأنها شأن فصول مسرحيات برندان، فلا أحد منا كان يحس أن كاتبا قد جلس إلى مكتبه وانخرط في كتابتها، كان يترجل الفصول وحركات الممثلين على الركح مباشرة، مات هذا الكاتب بسبب الخمر وإيرالندا· من حسن حظنا أن جويس قد أقام بباريس هل تستطيع أنت الذي تعرف جيدا أعماله أن تبين لنا ما يعيب عوليس لا أعتقد أنه ثمة هناك شيء يعيبها باستثناء طبعا أنها ليست رواية، إنها عبارة عن كتاب طويل بها ثلاثة شخصيات يلتقون في يوم واحد، ليس لديهم وقت للتغيير· أما دون كيخوتي فيها مغامرات كثيرة، يشيخ البطل ثم يموت، لذا تحس بالزمن وأنت تقرأها، وهذا ما لا نجده لدى عوليس، حيث نتعرف فقط على الشخصيات التي تتعارف فيما بينها· إنها عمل كبير ولكنه ليس رواية، قرأت الترجمة الكتالانية إنها رائعة، من الصعب الترجمة إلى الإنجلزية لأنها لغة جد خاصة، إنها عبارة عن لغة تمزج الألمانية بالأنجلوساكسونية، فهي ليست لغة جادة مثل الإسبانية· في عوليس يقترح جويس عدة أساليب يلخص بها تاريخ اللغة (في الفصل 41 يتحدث عن الأمومة) تبدأ الرواية بإتحاد المذكر مع المؤنت وإتحاد اللاتينية مع الأنجلوساكسونية، في نهاية الفصل يزداد مولود ثم نلتقي بلغة المستقبل ، فإتحاد المذكر مع المؤنث لا يمكن أن نجده في الإسبانية· فدون كيخوتي عمل كوميدي ساخر ممتع، أعتقد أن الإسبان يشعرون بسعادة عندما يكتبون بجد· هل أنت قارئ جيد؟ عندما يشيخ الأشخاص يندمون على عدم قراءتهم لبعض الكتب التي كان يجب عليهم قراءتها، لا أعيد قراءة الكيخوتي لأنني قرأته عدة مرات بالإنجليزية والإسبانية (بدأت قراءة هذا الكتاب في سن مبكرة في الحادية عشر) لم يقرأ توماس مان كما يجب، بدأت قراءته هذا العام، نفس الشيء بالنسبة لجالدوس، أنا الآن بصدد قراءة توركيمادا، لم يترجم إلى الإنجليزية إلا مؤخرا، وأنا الآن بصدد الكتابة عنه، أعدت قراءة بروست هذا ما يجعلني أقول أنني قد تحوّلت إلى قارئ كبير، أشعر بإحساس خاص عندما أشرع في القراءة وأنا لوحدي، عندما تحمل الكتاب في جيبك تشعر أنك حرّ لأنك لا تقوم بتشغيل جهاز ما، القراءة متعة كبيرة، إنها متعة كبيرة بالنسبة لي الآن· تعلمت كثيرا من جالدوس عندما كتبت سيمفونية نابولية، فالجالدوس كتب عملا شبيها بعملي حيث استعمل السمفونية البطلة، إنه عمل غير معروف بإنجلترا، لا أحد الآن يقرأ في إسبانيا، بلاسكو أبانياز الذي عنى لي الكثير عندما كنت صغيرا· أجرى الحوار: أنطونيو فارجاس ألميدة ترجمة من الإسبانية: يوسف بوطاروق