يتحدث المجاهد طاهر حسين، باحتشام كبير عن مشاركته في الثورة التحريرية في الولاية الرابعة، وبدل أن يجيبك عن أسئلة تخصه، يدعوك إلى التقرب من أسماء كثيرة خدمت القضية، بما فيها الفرنسيين أصدقاء الثورة. روايته لبعض التفاصيل والمعلومات تكتسي طابعا إنسانيا محضا، فهو الرجل الذي شعر بالجوع والحرمان في الجبل، ولامس جدران الخوف ويعترف اليوم أنه كان إنسانا وليس بطلا إغريقيا. لا ينتمي عمي طاهر إلى جيل “النوفمبريين" لكنه يعرف الكثير من خبايا الصراعات التي وصفها بالجهوية تارة، ويربطها بمشاعر الصداقة والقرابة على حساب الكفاءة والتجلد. في هذا اللقاء عشية الفاتح نوفمبر، يقول المجاهد إن إضراب 8 أيام كان “خطأ فادحا" اقترفته قيادة جبهة التحرير، وأن المناسبة كشفت هروب زعماء مثل عبان وبن خدة وكريم ودحلب إلى الخارج، تاركين ياسف سعدي وحيدا في مواجهة تبعات الإضراب، فسعدي تحلى بالمسؤولية والشجاعة في هذه الفترة. في الحوار تفاصيل أخرى عن قضية “سي صالح". هو ابن أحد أكبر الأحياء العاصمية شعبية وإيغالا في العمل الثوري، في أعالي البهجة، سكن عمي الطاهر حي كلوس صالمبي سابقا (المدنية حاليا)، ولد في أحد بيوت المدينةالبيضاء ذات يوم من سنة 1947، لكن طفولته تفتقت في صالمبي، حيث سكنت عائلته بجوار المسكن التاريخي، حيث اجتمع القادة 22 الذين حضروا لإعلان الكفاح المسلح.. لم يكن منزل عائلة دريش بعيدا عن أنظار الطفل طاهر آنذاك، وكانت تصله أخبار المناضلين في شكل قصص وحكايات لم يكن يفقه منها الكثير، إلا أنه كان يشعر أن تحرك هؤلاء الرجال كان هاما ومصيريا. يتذكر عمي طاهر بكثير من الدقة والتفاصيل كل مراحل الثورة التحريرية، ويعرف حيثياتها التي سبقت ساعة اندلاع الثورة في الفاتح نوفمبر. رغم أنه لم يكن من الرعيل الأول الذي التحق بالركب، إلا أنه يقر أنه ترعرع وسط أجواء سادها الإعجاب والانتباه لتحركات القادة الأوائل للمهمة المصرية. كان عمره 16 عاما عندما أطلقت أول رصاصة منذرة الكفاح المسلح، كان يجيد القراءة والكتابة، لهذا كان يجلسه رجال الحي إلى جوارهم، ليقرأ لهم ما ينشر من أنباء على صفحات الجرائد الفرنسية: “كان هناك شخصا اسمه (محمد النيقرو) كان يشتري لي أحدى الجرائد الفرنسية مثل “لاديباش"، وكنت أقرأ على مسامعه والآخرين المقالات والأخبار، كنت أقرأ باللغة الفرنسية، لأن أغلب الرجال آنذاك لم يسعفهم حظ التعلم، إلا أنهم كانوا يفهمون جيدا مضمون المقالات، وكانوا يعلقون عليها ويناقشونها، دون أن أحتاج إلى شرح أي كلمة"، كان هذا أحد المشاهد التي رسخت في ذهن عمي طاهر، تماما كما احتفظ بذلك الشعور الغريب الذي انتاب كل محيط ساعة إعلان الثورة: “في 53-54 لم نكن نعلم أي من الأطراف بالضبط دشن الثورة... لم تكن الأسماء تهمنا بقدر أهمية الحدث، كنا سعداء جدا"، يردف واصفا سعادة تلقى في غمرتها الجزائريين بيان أول نوفمبر 54 كخطاب منفرد دون آمالهم وسطر مستقبلهم، رغم أن الغالبية لم يكونوا يقرأون، كما أكد المتحدث. الطريق إلى الأخضرية كلمة السر (اليوم بوزريعة راهي مغيمة) كان على عمي طاهر أن يبلي بلاء حسنا ليقنع التنظيم بأحقيته في الالتحاق بالرفاق في الجبل، كان شباب ذلك الوقت يتنافس في الفوز “بالصعود". وكان الامتحان يختلف من مجموعة إلى مجموعة أخرى. كما كان الحال بالنسبة للطاهر ورفاقه، الذين كلفهم مسؤول الفيدائيين المدعو “كوَار" إلى تصفية أحد الخونة: “قمت بهذه العملية في حق خائن الوطن والشعب، لا أريد أن أذكر اسمه، احتراما لباقي عائلته التي ما تزال في الجزائر.. فالأمر يحز في نفسي عندما يتعلق الأمر بجزائري، فقد قمنا بتصفية الكثير من الخونة بأمر من القيادة، ولو كان الأمر يتعلق بفرنسي مثل اندري رجيس الذي قتل في 25 أكتوبر 56، لكنت ذكرت لك كل الأسماء التي صفيت في بداية الثورة"، يقول المجاهد. تنفيذه الصارم للعملية، استحق أثره الانتقال إلى “باليسترو"، وللوصول إليها في جوان 58، كان عليه أن يلتقي بأحدهم ينتظره قبالة حصن 23، وقد طلب منه أن يتقدم إليه ويلقي عليه التحية وكلمة السر (اليوم بوزريعة راهي مغيمة)، لتكون مفتاح تواصل بين الرجلين اللذين استقلا إحدى حافلات “موساوي" آنذاك (الجزائر- البويرة) صوب الهدف: “هناك اضطررنا للمشي زهاء 15 كلم على الأقدام، صعدنا ونزلنا وديانا، لم أعد أشعر بقدمي، حتى حذائي (الموكاسان) لم يعد مجديا..". أول شيء قام به عمي طاهر عند بلوغه الهدف، هو تغيير اسمه، فأصبح يلقب ب “جلول" لينغمس في حياة الجنود ويمتثل لقوانين قادته، ينتقل بين غابات “كنيشة" و«بشابطية" و«أولاد ميهوب"، حيث ظل هناك إلى غاية 62: “كانت الأيام عصيبة علينا في الجبل، كان النهار في فصل الصيف لا ينتهي، وكان الخريف رحيما علينا، إلا أن الثلج كان فعلا الجنرال الأبيض الذي قهرنا قوانا تماما". عبان، كريم، دحلب وبن خدة تخلوا عن ياسف سعدي عدنا مع عمي الطاهر إلى أيام ما اصطلح عليه ب “معركة الجزائر"، وكيف عاش كشاب الغليان الداخلي لمنطقة الجزائر، فقال: “أولا لسنا نحن من سميناها معركة الجزائر، بل هو جاك لوبريفوست صحفي في فرانس5، فضخم الحدث وقدمه كانه معركة كبيرة، مع أنها لم تكن كذلك لأنه لم تكن هناك مواجهة بين قوتين متعادلتين في الإمكانات الحربية". وعن المنطقة الحرة التي أنشئت عقب مؤتمر الصومام أردف: “بعد تأسيس لجنة التأسيس والتنفيذ، كان سعدي يومها قائدا عسكريا، وقبله كان مصطفى فتَال، وكانت اللجنة ستنصب عبد المالك تمام كقائد عسكري سياسي في المنطقة الحرة قبل أن تستقر عند شخص سعدي". قاسم المجاهد أقرانه مأساة إضراب الثمانية أيام، الذي أضر في نظره، بمسار الثورة في مدينة الجزائر قال: “الإضراب خطأ فادح، فكما تعلمين إن المسؤولين اختلفوا في الرأي بشأن عدد الأيام، فمنهم من قال إن 3 أيام تكفي، ومنهم من أصر على الثمانية.. إلا أن الإصرار لم يأخذ بعين الاعتبار المخابئ التي كانت تأوي المسؤولين ولم يضعوا في الحسبان العمليات التمشيطية المكثفة، والاعتقالات الجماعية التي ستوقع فيما بعد بعدد من الفاعلين بما فيهم ياسف سعدي وزهرة ظريف وخاصة الشهيد العربي بن مهيدي، ناهيك عن اضطرار العديد من الناس إلى الفرار للجبل خوفا من انتقام فرنسا، والخسائر المادية التي تكبدها الشعب بعد أن انتهك الجيش الفرنسي الدكاكين ووزع السلع مجانا للمعمّرين... عشنا جحيما حقيقيا في تلك الأيام". الخوف الذي انتاب قلوب الجزائريين خلال الإضراب، عشعش في دواخلهم جميعا، لكنهم تحمّلوا الأمر اقتناعا منهم بأهمية الالتزام بنداء الثورة. إلا أن عمي طاهر يسجل ملاحظته قائلا: “خلال الإضراب وجد ياسف سعدي نفسه وحيدا في مواجهة تبعات هذه الخطوة، بعد أن تخلى عنه القادة، فكريم بلقاسم وبن خدة هربوا إلى تونس، أما عبان رمضان وسعد دحلب فدخلوا للمغرب، فيما ألقي القبض على خامسهم"، ويضيف المتحدث: “ياسف واجه الأمر وحيدا، وكان عليه أن يسير الأوضاع برزانة، رغم مستواه المتواضع إلا أنه أظهر تحكما في الرجال، عرف كيف يدير الوضع". أما عن يوم سقوطه في يد الشرطة الاستعمارية، أكد طاهر حسين أن “ياسف عندما جاءت الشرطة لاعتقاله رفقة زهرة ظريف في 24 سبتمبر 57 لا أعتقد أنه سلم نفسه لهم بسهولة، بدليل أنه بادلهم إطلاق النار والقنابل اليدوية، كما كانت حالته الصحية متعبة بسبب إصابته بالأنفلونزا الآسيوية التي اجتاحت البلاد في تلك الحقبة، وأصابت عددا من الجزائريين". يتذكر المجاهد في معرض حديثه خيانة حسان قندريش لصديقه ياسف سعدي، الذي يكون هو من أوشى به وبدبيح شريف ورامال ونور الدين في 26 أوت 57، الذين سقطوا إثر مواجهة في شارع سان فانسون دوبول بالعاصمة"، ويشير المصدر ذاته إلى أن ياسف “اقترف خطأ تكتيكيا حينما أكثر من المراسلات في تلك المرحلة، وكان عليه توخي السرية والتكتم أكثر من اللازم"، يعلق عمي طاهر. ديدوش مراد يتكفل بعشاء اجتماع 22 أن تسكن بقرب بيت عائلة دريش، يعني أنك في قلب الحدث الثوري الذي شهدته بلدية المرادية التاريخية. يؤكد عمي طاهر - بحكم قربه من المكان - أن إلياس دريش كان يسكن في 3 شارع لارودوت في بيت صغيرة قرب مقبرة المدنية، كان نصف الحي بيوتا قصديرية، وعندما طلب ديدوش من إلياس توفير مكان لاجتماع المجموعة، كان عليه توفير الأمن والراحة لهم، فكان بيت والده بصالمبي المكان المناسب للحدث. كما تكفل الشهيد ديدوش بمأكل الفريق، وأعطى لدريش مبلغ 5 آلاف فرنك فرنسي قديم تكاليف العشاء الذي كان عبارة عن طبق كسكسي تقليدي أعدته نسوة العائلة. دام الاجتماع، يقول المجاهد، يوما كاملا: “الأكيد أنه كان يوم أحد وليس يوما آخر، لأنه اليوم الذي تقل فيه حراسة الشرطة، بحكم أنه يوم الله في معتقد المسيحيين"، يوضح المجاهد الذي انتقد التواريخ المغلوطة التي تقول مثلا إن اجتماع الستة كان في 24 وليس 23 أكتوبر الذي لا يصادف الأحد يوم العطلة الأسبوعية. حينما أقصت الجهوية بيطاط يروي لنا طاهر حسين، أنه في ليلة 31 أكتوبر إلى 1 نوفمبر 54 “ نشب خلاف بين رابح بيطاط وديدوش مراد بسبب منطقة الشرق، حيث رفض زيغود يوسف وبن طوبال أن يتولى بيطاط هذه المسؤولية في هذه الجهة من الوطن، رغم أنه من مواليد عين الكرمة (ولاية قسنطينة عام 1925)"، وعن خلفيات الرفض يؤكد المصدر ذاته: “أعتقد أن الجهوية ضربت أطنابها بين الجماعة القادة، وميل زيغود إلى ديدوش على حساب بيطاط، كان من باب الصداقة التي جمعتهما ليس أكثر"، مشيرا إلى أن بيطاط لم يساير هذا الضغط ولم يعارض قرار أبعاده من الشمال القسنطيني، ويضيف: “أصلا هجومات 20 أوت 55 نفذها زيغود انتقاما لصديقه ديدوش". 58-60 سنوات التيه والجوع في الجبال «كنا في الولاية الرابعة نعاني الأمرين، الجوع والفقر والحاجة، دون أن يسأل فينا قائد من القادة التاريخيين، وكانت تصلنا أخبارهم وتواجدهم هنا وهناك، في عواصم كبيرة، وفي مستوى يليق بهم، بينما كنا نحن الجنود نتضور جوعا"، بهذه العبارات الصريحة، وصف لنا عمي طاهر أحد مشاعر الحرمان التي كان يتحدث عنها المجاهدون في الجبل. بعيدا عن الكليشه الرومانسي الذي تعودنا عليه، والذي صور لنا المجاهد أو الشهيد إنسان خارق للعادة؟ يقول طاهر حسين بهذا الشأن: “بداية كنا نشعر بثقل الحسابات الجهوية بين الجماعات، كانت تصلنا أخبار عن صراعات وخلافات دامية في سبيل الكرسي والمسؤولية، كنا محبطين في الولاية الرابعة، حيث عانين كثيرا من الجوع والحرمان من أدنى اهتمام، بينما كانوا هم يتمتعون بالراحة"، ويضيف شارحا: “في فترة 58-60 تقلص عدد أفراد الكتيبات من 130 إلى سبعة أشخاص فقط، وفيها من اختفى وأصبح الجنود يصارعون من أجل البقاء، هدفهم الوحيد إنقاذ أنفسهم من الهلاك الحتمي، خاصة بعد الحصار الذي تضاعف عليهم وقطع خطي شال وموريس المؤونة عليهم..". يؤكد المجاهد أن سي صالح “نبه بومدين والحكومة المؤقتة بحال الجبل وأخبرهم بالمعاناة الكبيرة واليومية، كان ردهم الوحيد (اصبروا نحن نحاول).. أذكر أيضا أن كريم بلقاسم في سعي شخصي منه، اقترح إرسال طائرات عمودية من المغرب نحو الحدود الجزائرية لتلقي بالسلاح والمؤونة للمجاهدين، كما دعا إلى حفر أنفاق طويلة توصل الثوار بالجهة الأخرى إلا أنها كانت مقترحات غير معقولة ساعتها تتطلب إمكانات وسواعد كثيرة". في تلك المرحلة كان هذا المجاهد وأصحابه يشعر “بالتيه" كما قال، “كنا في حصلة ومأزق لم نكن نصبر عليه لولا الأمل الدفين وترقبنا لساعة إعلان وقف الحرب والعودة إلى الديار". مشددا في السياق ذاته: “الثورة كانت شقاء إنسانيا كبيرا لا تنسوا ذلك". ما حل بسي صالح وجيلالي بونعامة ولخضر بوشمع كثيرة هي النقاط الغامضة في تاريخ ثورة الجزائر التحريرية، وكثيرة هي التفسيرات والروايات أيضا، كما هو الشأن بالنسبة لقضية “سي صالح" التي عاد إليها، مؤخرا، البروفيسور موريس فايس، مؤرخ فرنسي متخصص في السياسات الأجنبية وملف الدفاع، بمناسبة الطبعة ال 17 الصالون الدولي للكتاب، حين قال إن سي صالح زعموم، “تمت تصفيته من قبل إما مصالح فرنسية خاصة أو جيش التحرير الوطني"، مستندا إلى تصريحات غاي بارمينيي شهر مارس الماضي. من جهته، يقول المجاهد: “عندما استشهد بوقمرة استلم القيادة محمد زعموم المدعو سي صالح، وكان جيلالي بونعامة ملحقا عسكريا، وبوشمع لخضر مكلفا بالاتصال والاستعلامات. في تلك المرحلة، أعلن ديغول عما أسماه بسلم الشجعان، وكان هناك من أراد استغلال الفرصة للقاء الرئيس الفرنسي، وقد سافر سي صالح ورفيقاه سرا في جوان 60، دون إبلاغ القيادة، وهناك استقبلهم ديغول، الذي رفض مصافحتهم، وتيقن فيما بعد أن هذه المجموعة لا تزن شيئا أمام من أراد التأثير عليهم لصالح بلده... عند عودتهم إلى الجزائر غير بونعامة رأيه وراح يغير أقواله، مؤكدا أنه سافرا مجبرا تحت التهديد"، ويضيف السارد: “سمعنا فيما بعد بمقتل لخضر بوشمع دون محاكمة طبعا، تبعه أسماء أخرى مثل عبد اللطيف طولبة وآخرين قبلوا السفر إلى فرنسا.. أما زعموم، فكان من الصعب المساس به بسهولة، فقد كان نوفمبريا مقتدرا، إلى أن سقط في مشدالة في 29 أوت 61"، في نظر عمي طاهر “سي صالح شهيد مهما كانت طريقة موته، ولا أستطيع أن أجزم ما يذهب إليه المؤرخون والباحثون اليوم، في مسألة التصفية... مع أن المنطق يقول إنه اغتيل بسبب خروجه عن قانون الجماعة". جدير بالذكر - يضيف - “جيلالي بونعامة يسقط قتيلا في 20 أوت 61 هو الآخر، وظلت جثته غير موجودة بل إن الجبهة لم تمنحه رتبة العقيد التي كان يصبو إليها، كان ذلك ما يشبه العقوبة".