مهما كان بارعا وحارا ومقنعا، ما نراه على خشبات المسرح، أو.. كانت جذوره في الحياة، وأغصانه في مجرات الخيال، فإن الحقيقة غالبا... موجودة خلف الكواليس! مهما كان الممثل حاذقا، والجوقات من ورائه صادحة، فهذا... مجرد تمثيل للحياة على خشبات المعنى، تتلامح بين ستائر المجاز وإضاءة الدلالة. وقد كان الممثل.. واحدا، لا تثنيه فرادته، ولا تجمعه جمعا سالما. وكان وحيدا أمام الحشد، قبالة مرآة نرجسيته، ومن ورائه تحتشد الجوقات، يضع على وجهه قناعا، أو.. يرتدي القناع وجهه، وفي ظنه، في كل يقينه: أن القناع يؤكد الإقناع، ويُعْدِي الحشود بالاقتناع، ويرسخ القناعة المسرحية. وكان يحسب “تمثيله" حقيقة صافية، لا كواليس فيها ولا أقنعة، والجمهور يعرف: أنه يمثل فحسب، وأنه استعار قناع سواه، وأن خلف قناع حضوره تتربص هشاشة الغياب. مع ذاك... يستمر “التمثيل" ويتغاضى الجمهور، مستغرقا في اللعبة، يستحسن ويصفق ويستزيد، كأنما.. يخشى أن تنتهي اللعبة، وتخلو الخشبة من حيواتها، وينسرب كل شيء، كما الجمهور ذاته... إلى كواليسه. ثم تعددت الأقنعة، فصار الممثل يستبدل قناعا.. بقناع، يخرج من قناع شخصية، ليدخل في سواها، والجوقات وراءه، تمهد له انتقالاته وتُقَوْنِن له قواعد الاستبدال. في عصر الممثل الأوحد، كانت الجماعة: جوقة أصوات تردد الكلمات ظهرا عن قلب، حتى لكأنها.. صداه، لكأن أصواتها.. صوته، من حيث لا تستطيع الجوقات أن ترتجل الحياة خارج دورها المرسوم، ولا تستطيع حتى الأقنعة أن تخرج من توابيت نصوصها إلى شرفات الحياة. وكانت الجموع.. الحشود.. الجماهير، تتفرج أو تحسب أنها تتفرج فحسب، بينما الفرجة ذاتها.. اشتراك في اللعبة، واللعبة ذاتها.. لا تستمد شرعيتها وسطوة تمثيلها من غير فرجة وتفرج ومتفرجين. فلما تعدد الممثل على الخشبة، وصار.. إثنين فثلاثا فسبعا فأربعين فألفا، اندثرت الجوقات وانتهى عصر الأقنعة. صار الممثلون أقنعة ذواتهم، وتوارت الشخصيات خلف كواليسها، وتحوّلت الخشبة إلى أرض من رماد الأقنعة، صار المسرح كونا معولما، والكواليس... مطابخ استثماراته وحروبه ومجازره المتواليات. وصرنا.. جميعا، خارج المسرح، نشارك في التمثيل والتمثل والمماثلة، لكن... في ظلال العتمة. أقنعتنا.. كواليسنا، كواليسنا.. مستودعات الأقنعة. من منكم بلا قناع، فليرجم بالكواليس أقنعة سواه. متى ستصير الأرض.. فضاء، من غير كواليس، ولا أقنعة؟! متى سيعتزل الممثلون؟! متى سينتحر المخرجون؟! متى.. سيزول من صبغياتنا: صانعو الأقنعة؟! ثم يصعد الجمهور.. جميعه، إلى الخشبة!!