الحياة تتهندس بالموقع، وكل ما في الحياة متصل بالتموقع، والظفر يقترن بطبيعة التموقع، وعلى ركح المسرح تتجلى مهارة الأداء في الحركة وفي فيض يشحن الركح بحضور الممثلين· 1 المسرح أكثر الفنون تمثلا وتمثيلا للحياة، تمثلا وتمثيلا بكثافة تمتد في فضاء هندسي، والفضاء عتبة وتذييل للنص العرض· كثافة بعرض يتم بجدل الظهور والخفاء، بجدل الشراكة الجماعية والمهارة الفردية، كثافة بمرجعية وحبكة ولعبة وفرجة· بالتموقع في فضاء يكون التمثل والتمثيل للحياة، فالوجود يتم بالتموضع والتموقع، وبهندسة الموقع تنكتب الوقائع التي تؤلف التاريخ· الحياة تتهندس بالموقع، وكل ما في الحياة متصل بالتموقع، والظفر يقترن بطبيعة التموقع، وعلى ركح المسرح تتجلى مهارة الأداء في الحركة وفي فيض يشحن الركح بحضور الممثلين· والفضاء لا يتناهى، الفضاء يتوالد ليتشكل إبداعا، يتشكل مرتبطا بما يعنيه ميشال فوكو بمصطلح الابستيمي أي بالمنظومة القيمية والفكرية التي يختص بها مجتمع في مرحلة ما من تاريخيته، فالكلمات كالأشياء، من تلك المنظومة تتوالد وتتمشهد، والمسرح كلمات وإشارات وأشياء· ومن البدايات تثاقف المسرح مع الأشكال الاحتفالية وتقولب بقوالب تحيل بحضورها إلى استحضارات تعاضد وتفاعل، عناصر في الكواليس، عناصر على الخشبة، عناصر تتابع العرض، وكل منهم جزء من معادلة اللعبة· القواعد تتطور والتجريب يتواصل ليحقق الصيرورة التي تجعل الكينونة نابضة بالحياة·· التجريب لا يعني الانطلاق من فراغ، التجريب ينطلق من تأسيس باستيعاب المتراكم وبالاحتكام لما يجعل اللعبة مسرحية فعلا، لأن ليس كل احتفال مسرحا· علولة كنموذج من نماذجنا المسرحية تبلورت تجربته في سياق حوار مستمر مع الريبرتوار العالمي، مع كلاسيكيات المسرح، مع المسرح الملحمي البريختي، وبالحوار اتجه نحو التراث ليستلهم من الاحتفالية المعروفة ب ''الحلقة'' ما شكل منعطفا في تجربته، وبعد تلك المحطة عاد للريبرتوار العالمي، فاشتغل على نص من الكوميديا دي لارتي، ثم مسرح قصص لعزيز نسين·· كان علولة يتحوّل وفي تحوّله كان سر تطوره، وفي هذا درس لمن يمارسون اليوم مصادرة تجربة علولة باسم إحيائها، فيستنسخون دون إضافات· المسرح بلاغة الكثافة والتكثيف، كلمات ينتظمها نص، فتنتقل أصواتا تنطقها ألسنة وينسجها ديكورا وتهيكلها حركات أجساد وتعضدها موسيقى وتشحنها إضاءة··· فيتكثف النص الأصل ويتعدد لينسج الحالة· المسرح تأليف جماعي، مؤلف يؤلف النص ومخرج يحوّل المكتوب إلى عرض وممثلين يتوزعون عبر أدوار تترجم ركحيا العرض وطاقم فني وتقني يشتغل كل من زاويته ليخرج المنتوج·· وجمهور يتلقى وفي التلقي يتحقق استكمال الحلقة· هو المسرح إذا حياة، هو الحياة بجدلها في تجلٍ جمالي، تجلٍ يتعدد ويتنوع· على الخشبة يتحرك الممثلون بتخطيط لخطواتهم، يشاركهم في الأداء الديكور والإضاءة والموسيقى، يحضر الممثلون بالجسد والصوت، تمتد الحكاية عبر الجسد وتمتد بالصوت وتنتشر عبر التصميم السينوغرافي·· تمتد الحكاية ركحيا منجزة احتفالية تبعث الحالة، حالة التحرر والانطلاق للانبعاث، حالة تحرر جسد ينتصر له الركح، يحضر الجسد بهيا متحررا ومحققا لهويته التي طمست وتطمس بادعاءات وأحكام·· يحضر الجسد ناطقا بما يكثف اللغة· في ''الأجواد'' لعلولة كان سيراط على الخشبة متفجرا بفيض من نبع نص قوي· 2 بدأت الممارسة المسرحية عندنا مع تحوّلات تاريخية أفرزت وعيا في سياق وضع له ملابساته المعلومة· بدأت الممارسة تمرينا لإعادة اكتشاف الذات وبنيتها، بناء الذات المقهورة والمطموسة، فكان المسرح المجال الذي تشكل لمحاورة الذات والآخر، محاورة المثاقفة والتلاقح، فكان الاشتغال على التراثي وعلى ما في الريبرتوار الفرنسي من مسرحيات موليير··· وغيره· وبدأ المسرح دعما لجسور الوصل المنقطعة مع الامتداد العربي، فكان الاحتفاء بالفرق المشرقية التي قدمت إلى البلاد من جورج أبيض إلى يوسف وهبي· وبدأ المسرح بهاجس نضالي، هاجس إصلاحي وهاجس وطني، فاندرج في الأداء التعليمي الذي جعل جمعية العلماء تمنح المسرح اهتماما وأسهم بعض العلماء ورجال التربية والأدب في صياغة تمثيليات، رجال كالشاعر محمد العيد آل خليفة ومحمد صالح رمضان وأحمد توفيق المدني والشيخ عبد الرحمن الجيلالي، وحتى الشيخ البشير الإبراهيمي كتب ما يشبه ذلك، وأسس أحمد رضا حوحو فرقة كانت من رواد المسرح بالفصحى، وبرز خصوصا الطاهر فضلاء الذي تواصل مع يوسف وهبي واستمر مهتما بالمسرح وأشرف سنينا في الإذاعة على برنامج ''مسرح الهواة''· وكانت الكشافة إطارا للتربية بالمسرح، وكان ممن مارسوه في إطارها الشهيد بن مهيدي·· تلك هي المرجعية التي جعلت المسرح فانوسا، وهو ما جعل الشيخ حمادة رائد الأغنية البدوية يصف ولد عبد الرحمن كاكي ب ''الكانكي''· في الثورة كانت فرقة جبهة التحرير سفيرا مع فنانين كمصطفى كاتب ورايس وسيد علي كويرات·· سفيرا بلوحات قدمت الجزائر الثائرة، وكانت رموز أخرى تواجه البطش، رموز كمحمد التوري وحسن حسني ورويشد··· تواصلت الروح لما استقلت البلاد واهتز غيفارا لما شاهد مسرحية كاكي في قاعة إفريقيا، وانطلق كاتب وبودية في التأسيس· وكانت التحوّلات السياسية مؤثرة، فغادر بودية البلاد منغمسا في نضال من أجل فلسطين، وانغمس المسرحيون في نشيد الاشتراكية وواجهوا صراعات الأجهزة· ورغم وطأة الأمر، كانت لصراعات المحاور في السلطة إيجابيات أتاحت العمل لمن تعرّضوا لتهميش أو إقصاء، فاحتضن بن يحيى كاتب وأسندت وزارة العمل بقيادة معزوزي كاتب ياسين··· وظل المسرح صوتا مخترقا في زمن الحزب الواحد، صوتا مرتفعا بهاجس الديمقراطية وهاجس الهوية وهاجس العدالة وهاجس مقاومة الردة والثورة المضادة· تاريخ المسرح هو تاريخ النضال، تاريخ الطموح من طموح حرية الجزائر إلى طموح جزائر العدالة الاجتماعية وجزائر الديمقراطية··· من بدايات القرن الماضي بدأت السيرة الركحية بفصول تواصلت بتراكم وضع على عاتق المسرحيين دينا كبيرا، دين المعنى بتعبير مارسيل غوشيه، معنى أن يتعمق الاشتغال جماليا لبلورة ما يتناسب مع ريبرتوار، والريبرتوار تشكل عبر محطات ولكل محطة ملابساتها التي لا يمكن إسقاطها على ما سبقها ولا على ما لحقها· 3 في راهننا الثقافي يتموقع الفعل المسرحي في المركز المحوري، يتموقع بالفعاليات التي تعرفها مختلف المناطق وبالمهرجانات المتعددة التي تضمها أجندة المهرجانات، يتموقع بزيادة عدد المسارح المعتمدة، ويتموقع بالتربصات وبالاشتغال الأكاديمي· ذلك المعطى الأول المستخلص من معاينتنا للواقع، لكن بالتدقيق أكثر يتبين لنا أن الأمور لا تقاس بظاهر ولا بحسابات تعتمد الكم المسجل من إنتاجات ومهرجانات، الأمور تقاس بنوعية ما يعرض· وفي سياقنا تحضر إشارات: الإشارة الأولى تتعلق بارتجاليات تستعير للتغطية على ضعف النص طريقة التركيز على الاشتغال الكوريغرافي والسينوغرافي، وهو اشتغال لا يثمر إذا لم يتأسس على رؤية فكرية وفنية··· يقول الكاتب محفوظ عبد الرحمن: ''إن المسرح تعبير عن الناس، وعندما لا يكون كذلك تنفضّ الناس عنه، وبناء هذا المسرح ينطلق من فكرة ومن نص، لكن متابعة العروض الجديدة تكشف لنا حرصا زائدا على استخدام لغة الجسد، حرصا يبلغ حدّ الثرثرة في هذه اللغة، ونحن نعلم أن المخرج منذ بدايات فن التمثيل كان عليه الاهتمام بلغة الجسد، لكن عندما تكون هذه اللغة بديلا كاملا عن لغة الحوار ولغة المسرح، فأنا أحسّ بالإهانة، إهانة المسرح وإهانة المقدسات''· إشارة ثانية تحضر· وهي ظاهرة رواج ما يسمى ''الوامنشو'' وظاهرة هيمنة السكاتشات المرتجلة على الحوار وغياب التماسك الدلالي والبناء الدرامي، رواجا يتصل بوضع تتعدد أسبابه، وضع هو من مؤشرات فيها ما يؤشر لما لا يحمد، وضع مرتبط بتراكم حدث طيلة العقدين الماضيين، تراكما جعل مرجعية بعض المسرحيين تتمثل في مدرسة جماعة بلا حدود، فتوسعت محاكاة شطحات ونكت مصطفى وزملائه، مع التنويه بأن ما قدمه فريق بلا حدود جدير بالاعتبار في إطار ما يخصهم· أما في المسرح، فإن الأمر مرتبط بأب الفنون، مرتبط بمسرح له مرجعية، مسرح منتظر منه أن يتجاوز مأزق التوقف عند تجارب علولة وكاكي والقلعة وكاتب ياسين وغيرهم من الرواد الذين رحلوا· مؤشرات قوة تتبلور، فالبلاد لها رصيد تجربة ولها طاقات، أسماء لها وزنها تشتغل في صمت وهدوء وبتواضع، أسماء كالمخرج عز الدين عبار والسينوغرافي يحيى بن عمار والمخرج محمد بختي والكاتب المسرحي سمير مفتاح والكاتب أحميدة عياشي والكاتب والمترجم عبد الله الهامل والمخرج والباحث لخضر منصوري··· وفي البلاد شباب واعد يشتغل بروعة رغم قلة الإمكانيات وغياب الفضاءات وافتقاد الإسناد، شباب في مختلف الجهات، منهم من تمكن من الوصول إلى الجمهور والمشاركة في المهرجانات ومنهم من يكابد رحلة تحقيق الحلم· بمناسبة اليوم العالمي للمسرح، تحية لكل الذين أبدعوا ولكل الذين يحلمون بالإبداع·