بعد الجريمة التي ارتكبت بهدم حي الدرب، معلم مستغانم التاريخي وقصبتها العتيقة، السلطات في مستغانم، ترتكب جريمة ثانية ضد سلامندر، وذاكرتها الثقافية ''مسرح الموجة''·· السكوت عن ذلك لا يجوز· الجرافة·· كانت تقف في مواجهة المبنى الحزين الصامد كالوحش·· كان صوتها مرعبا·· يجلس داخلها رجل كأنه بدون ملامح·· يرتفع صوتها مدويا يتعالى تحت تلك السماء القاتمة·· تتعب الجرافة، تأتي أخرى، يرتفع صوتها كالرعب من جديد، كأنها تريد أن تدك كل ذلك التاريخ من الأحلام والصور والأصوات والألوان التي امتلأت بها ذاكرة هذا المسرح الغريب، الضاج، الحافل بالزمن الذي لا يموت ولا يندثر، والغاص بالأفراح والأشجان والخيالات المتدفقة، المتجذرة في الذاكرة، ذاكرة كل الذين واللواتي جاؤوا وجئن إلى هنا، إلى هذا المزار حيث الاحتفال والحياة، إلى هنا حيث سلامندر تكشف عن شمسها الحارقة المليئة بالحنان، وعن البحر الموشوم بالزرقة الفاتحة وبياض الأفق، وعن الرمل والحجارة المبللة بالأقدام والأجساد العارية·· إلى هنا حيث زمن سلامندر زمن أصوات الأطفال المشاكسين وضحكات البنات السمراوات النزقة· كانت الجرافة تصيء، تسقط الظلمة·· في السماء اختفت النجوم·· أين هم الفنانون؟! ابحث عن وجودههم، عن ملامحهم الكئيبة·· عن نظراتهم جاؤوا إلى هنا·· ليكونوا شهادة على لحظة اغتيال مسرح، مسرح الموجة··· رن هاتفي النقال·· كات الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحا·· كان الجو خانقا والرطوبة شديدة، كنت متوجها عند صديق بالحراش·· كان صوت عبد القادر جريو، في العشرينات من عمره، ذا بشرة قمحية، عينان خضروان، يسكنه المسرح كالداء القاتل·· اكتشفته منذ سنوات على خشبة المسرح بالعاصمة، في المهرجان المحترف للمسرح، كانت المسرحية لكاتب ياسين، اختطف الأضواء حينذاك·· كان شابا غرا مليئا بالطموح والبراءة، ثم رأيته في مسرحية فالصو·· وبعدها كان أحد الممثلين في مسرحية سيدي بلعباس الأخيرة ''نون'' التي قدمت نصها للمخرج عز الدين عيار، تقمص عبد القادر دورا معقدا ومركبا هو دور معتوه متعلق براقصة، يذكره حضورها الأنثوي بأمه، وهذا التعلق لم يحدث في الدنيا، بل في منطقة بين الجنة والنار، ما بين الواقع والخيال، ما بين الظلام والنور وبين الحكمة والجنون·· هي منطقة البرزخ·· وكان عليه أن يخفي داخل نفسه، داخل مخيلته ليؤثثها من جديد بصوره وأحاسيسه وكل ألوان شجونه وأفراحه·· اندلق صوت عبد القادر، وهو يلهث·· ''إنني هنا في سلامندر·· جئنا لنتضامن مع الجيلالي وفرقة الموجة·· قرروا اليوم، هدم المسرح···''· أجبت '' وهل هناك فنانون؟''· قال عبد القادر'' الكثير من الأصدقاء الفنانين هم هنا·· سلامندر محاصرة من قبل القوات المكافحة للشغب، هنا تظاهرة واحتجاجات·· لابد أن تكتبوا···''· تحدثت مع جيلالي بوجمعة، مؤسس مسرح الموجة، كان مضطربا، قلقا، تحدث إلي بصوت متقطع·· سألته ''صحيح يا جيلالي، قرروا أن يهدموا المسرح؟!''· قال لي: '' كلهم جاؤوا·· إنهم يحاصرون سلامندر؟ أقدموا البلدوزارات، والجرافات وعربات القوات المكافحة للشغب··''· في تلك اللحظة، قررت أن أذهب رأسا إلى سلامندر، عدت إلى الجريدة، حملت أوراقي وتوجهت رفقة السائق أحمد إلى مستغانم، كانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف عندما غادرت العاصمة·· بدأت الصور تتهاطل من مخيلتي على مخيلتي·· قلت في نفسي ''ماذا سأكتب؟! عن عملية الهدم؟·· شهادة عن لحظة اغتيال ذاكرة؟! أن أحضر عملية قتل فريدة من نوعها·· لماذا الإصرار على استئصال مثل هذا المعلم؟! هل هو الجهل أم التعسف؟! قلت في نفسي كلاهما··· اكتشفت مسرح الموجة في سلامندر، عام ,.1995 كان ذلك في الصيف، أيام مهرجان مسرح الهواة بمستغانم·· كنت قد غادرت العاصمة منذ وقت قليل، وعدت إلى سيدي بلعباس·· ذهبت يومها، مع شاب جميل الروح، كان يدرس الفلسفة ويحب الفن ويغرق معي في نقاشات حول الجسد والروح والتصوف،، إسمه مصطفى·· وصلت إلى سلامندر·· وفي ذلك الوقت بعد منتصف النهار·· استقبلني رئيس جمعية مسرح الموجة آنذاك، عبد الرحمن مصطفى، فنان، باحث ومصور من طراز فريد·· يتجاوز الخمسين ذو شعر أبيض وصوت متدفق كالوادي الجارف، كان يلبس سروالا قصيرا وتريكو ملونا، ويضع على جبهته نظارات سوداء·· ما إن رآني حتى أغرقني في ذكريات عن عبد الرحمن كاكي، وهو الذي اشتغل معه ورافقه عن كثب، وعن الشيخ حمادة، وعن معسكرات التعذيب أيام الاستعمار·· كان عبد الرحمن مسكونا بالذاكرة ومسكونا بالاشتغال عليها، بالصورة والكتابة معا·· كانت تلك اللحظات الأولى مع عبد الرحمن مصطفى، بمثابة الدخول في عالم يصعب عليك بعد نسيانه أو تجاوزه·· ثم جاء الجيلالي بوجمعة، ذو عيون نسر، قصير القامة، نحيل، نظراته حادة ومليئة بالحياة·· هذا الرجل خلخلني، بعث في حبا مجددا للأمكنة·· يعرف كيف يجعل منها وهو يتحدث عنها، فضاءات للخلق والحب والابتكار، قادني إلى معبده، وهو مسرح صغير مطل على البحر·· كان بمثابة مخبر حقيقي·· مخبر ذو شاعرية باهرة·· منذ أول ملامسة للمكان يتفجر فيك كل حب الدنيا·· حبا يطهرك من كل الدنس الذي يعكرنابه اليومي·· يلهو بك من نفسك على نفسك·· يوم عرفته كان الجيلالي بوجمعة يتجاوز الخمسين بقليل، كل أفراد أسرته، من زوجته المعلمة إلى بناته وأبنائه تحولوا إلى ممثلين، إلى ملائكة وشياطين هذا الركح، هذا المسرح الذي عقد حلفا مقدسا بينه وبين بحر سلامندر··· ربما كان هنا كل هذا السحر الذي حرك كل حب زائريه له، من الفنان الراحل عبد القادر علولة، والممثل سيراط بومدين، والكاتب المسرحي محمد بن قطاف، ومجنونة الخشبة الرائعة فضيلة عسوس، هنا على خشبة مسرح الموجة أدت فضيلة عسوس صاحبة دور الكاهنة في مسرحية كاتب ياسين ''حرب الألف سنة'' منودرامتها ''البسمة المجروحة'' لعلولة، وهنا على هذه الخشبة أدى سيراط بومدين مسرحية ''التفاح'' لعلولة، وهنا كانت لحظاته الأخيرة في الحياة·· وهنا اكتشفت أطفال الموجة، اكتشفت الحاجة، تلك الشابة التي اعتدى عليها أحد أفرادها بالنار، لأنها رفضت أن تكف عن التمثيل، وعن مغادرة مسرح الموجة، واكتشفت حنان وعمرها آنذاك كان لا يتجاوز الحادية عشر، وهي اليوم خريجة الجامعة ومخرجة صاعدة، وهنا اكتشفت الطفل بشير، وخولة ومنصور والحسين ومختار وغيرهم كثير·· هنا قضيت مع هؤلاء الأطفال تجارب لا تنسى في التمرين على الجسد والصوت، وخلق ذلك التلاقي العجيب في خضم لعبة الروح والجسد·· هنا قرأت للجمهور أشياء من فتوحات ابن العربي، وأديت قراءة مقاطع من نصوص السيوطي حول الطاعون والحمى والورد··· '' كم هي رهيبة سلطة ذاكرة المكان؟!''· قلت ذلك لنفسي وأنا أتفرج على ذلك الفيلم الذي اكتسحني، فيلم، أهاجه ذلك الخبر غير السار·· منذ أيام عندما أخبرني الجيلالي، عن تصميم الإدارة المحلية على هدم المسرح، بحجة إقامة مشروع جديد؟! سألت الجيلالي ''هل أنت جاد؟!'' أكد لي حديثه بينما كانت عيناه مغرورقتين بالدموع التي جاهد عبثا للتحكم فيها··· كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساء، عندما وصلت إلى مستغانم، مررت على صابلات، كان البحر هادئا وحزينا وكانت الأرصفة تغص بالمصطافين·· رن هاتفي النقال·· كان الفنان التشكيلي والمهندس أحمد زرهوني على الخط·· قلت له ''إنني وصلت''· وأضفت ''لم أعد بعيدا عن سلامندر''·· عند مدخل سلامندر، أشار رجال الشرطة للسائق أن يأخذ الطريق الآخر المؤدي إلى سلامندر·· حاول السائق أحمد أن يفهمهم أننا من الصحافة، لكنني قلت له '' لا داعي لذلك···''· وصلت إلى سلامندر·· لم أجد الكثير من الأصدقاء الفنانين·· ابتهجت لأنني وجدت المسرح على قيد الحياة·· دخلت الصالة·· وجدت أبناء الموجة مسكونين بالحزن والحداد·· حاولت مواساتهم، لكنني لم أجد الكلمات·· جلست على الخشبة التي ستختفي بعد وقت قليل·· شرقت نحو البحر·· كان يبدو من وراء نافذة المسرح حزينا هو أيضا وكئيبا·· سألت مدير جمعية مسرح الموجة إذا ما تفاوضوا مع السلطات المحلية من جديد؟''·· قال لي ''إنهم لا يريدون التراجع عن قرار الهدم· لقد استغرق التفاوض وقتا طويلا، لكنه لم يكن مجديا''·· ثم أشار إلى شاب كان يقف أمام النافذة ووجهه مليئ بالغضب·· ''هذا الشاب أيضا سيهدمون منزلهم·· رفضوا تعويضه···''·· وعندما لاحظ الاستغراب على وجهي نادى على الشاب وأراني الشاب وثائق البيت، وقال لي ''لقد رفض رئيس الدائرة تعويضنا بحجة أن لنا منزلان '' قلت ''غير معقول''، ابتسم الشاب وقال لي ''الغير معقول، تحول إلى معقول يا سيدي''· كان الفنان سيد أحمد زرهوني يقف إلى جنبي وهو يحمل كاميرته، كان يسعى عبثا إلى تخليد هذا الجزء من ذاكرة البلد، وجمال هذا البلد·· كان يصور وجوه الممثلات المليئة بالدموع، وغضب الشباب الذي ضاعت منه الكلمات، كان يصور الجدران الملونة الأكسوسوار المزركش، الستائر السوداء، الأثاث القديم· الأكسسوارات، الشاهدة على حياة ما، كانت هنا·· قال لي سيد أحمد·· ''لقد اختاروا الإسمنت على الحياة'' ثم أطلق ضحكته الصبيانية الملتوية والمتقطعة كالبراءة الجريحة··· على الساعة التاسعة جاء أحد موظفي الإدارة المحلية ووعدهم أن الأثاث والديكورات ستنقلها شاحنات البلدية وبالمجان إلى مكان آمن··· على الساعة العاشرة مساء، كلهم كانوا هناك، محافظ الشرطة ورجال الأمن المدنيون وغير المدنيين ورئيس الدائرة الذي راح يعد الجيلالي بوجمعة بمكان آخر·· وهو عبارة عن مدرسة مهجورة لتكون بديلا عن هذا المسرح الذي سيختفي من الحياة بعد قليل· موظف آخر، كان يتلقى التعليمات عن طريق التليفون النقال وراح يطمئن صاحب التعليمات، أن كل الأمور ستجري على ما يرام، وعندما أشارت الساعة إلى العاشرة مساء·· بدأت البيلدوزارات والجرافات تتقدم محدثة أصواتا مدوية كالنعيق، وارتفع معها بكاء ونواح الممثلات والممثلين والفنانين الذين جاؤوا للتضامن وليكونوا شهودا على لحظة مرعبة وتعيسة كهذه! أخذ الشباب كاميراتهم وتلفوناتهم وراحوا يصورون ويؤرخون لتلك اللحظات الغريبة والمظلمة، قالت لي حنان وعيناها مبللتان بالدمع بصوت متهدج '' سأصور كل شيء ، تأكد أن الجمال في نهاية المطاف هو الذي سينتصر·· أليس كذلك··؟!''· كانت تصور الجرافات وهي تبكي، تنظر إلى وجوه المسؤولين المحليين بقوة وتحد·· لم يتجرأ أحد على منع الشباب من التصوير، كانت الكاميرات هي سلاحهم العظيم والعجيب··· رفض شباب الموجة أن يبدأ الغرباء والهدامون بالهدم·· راحوا هم يهدمون الجدران من الداخل نزعوا الخشبة بحنان، ووضعوها على متن الشاحنات·· حملوا البيانو العتيق ووضعوه أمام مبنى المسرح، راح شرطي ينظر إليه، ثم تقدم منه ووضع بحزن غطاء أسودا على البيانو الذي كان هو الآخر يرفض أن ينتهي الغناء·· غناء الحياة المتحولة··· أحد رجال الحماية المدنية وقف غير بعيد عن المبنى، وقال لي بصوت متهدج ''حرام، حرام، هذا جنون··''· كان ينظر إلى الجرافة وكأنه يريد أن يصرخ بصمته ونظراته في وجه هذا الخراب الرهيب·· تعالت أصوات الجرافات·· الوقت يشير إلى الثانية والنصف صباحا·· كل الجيران خرجوا·· سلامندر لم تعد سلامندر الجميلة·· ركام من التراب والحجر ملقي على الشاطئ·· شعر الهدامون بالتعب·· رانت لحظة صمت كبيرة·· بدا الشارع المطل على البحر الكئيب فارغا··· قرروا أن يواصلوا الهدم في الصباح·· لم أنم سوى ثلاث ساعات·· البعض بات في العراء·· وعلى الساعة الحادية عشر صباحا بدأ الهدم·· بدت الجرافات كالمجنونات وهي تحاول دك الجدران دكا·· وبدأ كل شيء ينهار·· كل العيون كانت تنظر إلى المسرح، مسرح الموجه وهو يختفي كالموجة·· لكن ليعود يوما ما كالموجة بل كالموجات·· في تلك اللحظة، قال لي بو بكر، وهو ممثل شاب لابد أن يخلد ذلك في مسرحية تفضح كل هذا الظلام وهذا الفساد، نظرت إليه، لم أعلق·· كنت استمع إلى تلك الأصوات التي كانت تتصاعد من وراء النظرات، أصوات الغد التي كانت تريد أن تكون أقوى من أصوات الجرافات···