من أين يجيء عبيدو باشا بهذا الزخم والانفعالية واللهث، لهث حقيقي لا يتعب، لا يملٌ، رغم أنَّه يمهل في غير ما مرة كي يضع نقطة أو فاصلة أو استفهام، حلاَّق بيروت، مترجمها الرسمي، حامل خشبتها وحامل أبطالها عبيدو باشا، إذا قرأت كتابه الأخير /هكذا·· انقلاب التغيير على أبطال التغيير في المسرح/ أحسست بهذه الروح الإمتلاكيَّة التي تصعد منه وتتصاعد ولا يموت، كمدينته بيروت، ربما هو يكتب بقصد التنظير أو التأريخ أو بقصد خلق كتابة ثقافية، استثنائيَّة، للمسرح وعن المسرح، لا ريب في ذلك في مدينة تشكل الساحة، والمفهوم المطلق للساحة، الناس بوصفهم أبطالا، الركح وألاعيب النار، الحكاية والحكواتيين، امتياز يدقٌ بمسامير الحسد على قلوب الخائفين من المدينة، وبثلاث دقَّات كما هو الطقس المسرحي·· بدأ النص المسرحي كرجل رفيع النشأة، ترقَّى طبقيًّا بمساعدة كودات ومحمولات ورموز اجتماعية واضحة المعالم، لبنان المصرف، الطبقة المرذولة (البروليتاريا)، تنامي الحياة السياسية في الأحزاب ومعاقل الطلاب·· هكذا يدشنه عبيدو ويعتبر به ويؤالفه بالمدينة·· في مدينة بشوشة، طالعها مزهر، لغتها سكرى بالحياة لم تتأن في صناعة الأبطال من هجائن مختلفة وكمونات ظلت تتكون وتتكور باستمرار، كانوا يقفزن إلى الخشبة لا يخجلهم حب النظرة الأولى، فالمسرح هو مسرح جورج شحادة، والحكاية هي حكاية الحب الأول واللقاء الأول والعبث الأول، شخصية مسرحية، داهية عبث، هذا جورج صاحب مقدرات فذة ورؤى بنت عصرها، كفاه أن يكون وجيها لبيكيت وآداموف ويونسكو وبيرنديللو· هي المساءلة الواعية بدأت تتحرك تحت سراديب المدينة وأغطيتها السميكة المحشوة بالكمبرادور وأشرار المال، إنَّ بيروت خالقة الوهج ومصدرة استثناءات يجب أن تتجاوز أساليب التماهي والتنميق، الاقتباس والترجمة، النقل والانتحال، كما يجب أن تترك الطاولات القديمة وأقلام الرصاص المهترئة، مدينة هاجمها الكل، باغتها الكل، انهال عليها الكل لثما وتقبيلا، سحقا وتدميرا، بالمال وبالسياسة وبحطام الثقافة وهي المختبر، مختبر اللحظة المسرحية الكبرى والتأليف المكثف الذي يهدَّم الأسوار الكلاسيكية ويحلق في سماءات عمل مميزة، /تجربة مصرف بيروت للمسرح/ حلقة استعانت بالدهشة، ذهب خالص مربك، /خرجت مسرحيات ملغومة باسم الكتابة الجماعية أصدر الكتاب هؤلاء المسرحيات في نصوص أنيقة، ساهموا في طلائها بالكلمات والعمل/· وكما تأتي مرحلة ما بعد الثورة زاخرة بأقاصيص الفدائيين الكذَّابين ومقدسي الرعونات والأوسمة التافهة وقعت التجربة في مهوى غرورها ولهوها· عبيدو باشا وليد المسرح وغاوية كتب /هكذا/ عن أول التجارب كأنَّه في أتون الاحتراق، في معمل المناجم، مصبوغ بغبار الأداء وغبار المرحلة، مسكون بالكتابة حول الكتابة، النط على الخشبة، القفز تاليا فوق المرحلة وفوق بيروت وفوق ضجيجها الذي يحدثه أبطال الحقيقة الأيديولوجية والمرجفين من الطائفيين الضيَّقي الأفق والنظر، وبفضل هذه المتابعة اللصيقة، المنصتة، تحسنت السوق المسرحية، كتب عصام محفوظ /الديكتاتور/ و/الزنزبخت/ و/ماذا حدث لسرحان سرحان/، وهي أعمال ترجمت في /الفصحى العامية/، أسامة العارف كتب /إضراب الحرامية/ وكتب ادوارد أمين البستاني عن المسرح السياسي، ولأن الأجيال التي تلت هؤلاء أبانت استمساكا بالدربة وبالمناهج الحديثية، غادر هؤلاء إلى المحاماة والسياسة والعسكر حيث هي وكالة فريدة، محزنة، وتدعو للابتسام، هذا الترك للكتابة /من أجل/ سلوك عربي نظيف، صك على بياض يخلص إليه كل كاتب أنهكته الأوراق وطقوسها، أنهكه الوسط ومسخراته· /محترف بيروت المسرحي/ بدا الأرض التي صلب عليها أدعياؤه فهو وإن تحسَّن نحو الأفضل وأعطى الثمرة الناضجة لم يمنع أيٌ مانع من التعثرات التي أعاقت استكمال التجربة في نقاوتها ونصاعتها، لكن ظلَّت ثنائية /المدينة، المسرح/، /المسرح، المدينة/ تسعَّر شهوات عطاء وتدلق بالمياه صيفا وشتاءا، ولا شيء يؤخر أو يقدر على أن يؤخر مواسم الحصاد والنماء، سيرة مسرح مغمور ومنغمر بعناصر الجدَّة واليفاعة وجبال التوصيل إلى أبعد من قرية من قرى الجنوب وإلى أبعد من ثلج صنَّين· كانت الحرب تشتعل، الماكينات تفجر، الدم يسيح في الساحة لكن التلامذة كانوا قد وصلوا أيضا، تلامذة صمويل بيكيب وبريخت وشانسلافسكي وآداموف، وصلوا تأصيلاتهم، قدم روجيه عسَّاف خلاصة تجاربه في /مسرح الحكواتي/، /بالعبر والإبر/ و/أيام الخيام/ و/حكواتي من جبل عال/، قدم يعقوب الشدراوي /جبران والقاعدة/ و/ميخائيل نعيمة/ و/الطرطور/ و/العتب عالبصر/، قدم زياد الرحباني /بالنسبة لبكره شو؟/ وفيلم /أمريكي طويل/ و/شي فاشل/، قدم ريمون جبارة أبرز أعماله في الحرب /محاكمة يسوع/ و/صانع الأحلام/، تجارب وراء تجارب تخضَّبت بالحرب وصعابها كما يعبر عبيدو باشا، لقد انزرعوا وسط المدفعيات والآليات الثقيلة، لطفاء، وسيمون غالبا، أصواتهم رقيقة، تترنم وهم ليسوا على سذاجة وغباء، لم تأسرهم الحرب، بل التفٌوا عليها، عملوا تسوية مع الشارع والشوارعيين، صنعوا ريبرتوارا لهم وخارطة طريق تجسر شقة التنافر بين الخيالي والحسي، بين الممثل والمتفرج والمخرج، وهكذا كانت السيرة المسرحية في هذه المدينة التي تشبه حلما، تشبه مناما أبيضا، تشبه نبيذا أحمرا عتَّقه الزمن وأصالته· إنَّ قدرة البيارتة على ترويض المشهد وإلقاء أجسادهم وسط حفلة الألعاب النارية وخروجهم من حروب أكثر استعدادا للمستقبل هو ما حمل مسرحهم على التغيير وحب التغيير، تماسٌ متكرر للأصوات مع بعضها، للإيقاعات مع بعضها، للأرواح مع بعضها وللأجساد مع بعضها لم يجعل من الفعل المسرحي مجرد /شي فاشل/ كما يقول زياد الرحباني بل هو الذي خلق هذه الفلسفة الجاذبة للعيش في المدينة والتحصن بحصونها ويجعل فضائل الكتابة فيها اجتهادا يجلب للمرء الأجر والحسنة وثواب الدنيا والآخرة· لم يسترح عبيدو الباشا في لغته، في كرم أوراقه وفي كرم سيرته الجماعية مع الأصحاب كأنها نوبات صوفية تجلل الكلم وتجلل المسير وهو يتحدث، يحكي هكذا لا رابطات نحوية كثيرة، لا موسيقى ثابتة يجمعها في ترتيباتها لا عود ولا كمان ولا كمنجة، ولا ناي حزين يخرج من كتبه، بارع في لملمة التجارب، بارع في جمع الكرات من الهامش، بارع في نصه على النصوص الأخيرة، يضيف للهوامش ملحقات وللإضافات يزيد عليها بالأحمر·· كأنه تعوَّد على الحفظ والتخزين أولا، ثم الارتجال والصدع بجهورية البحة، عرّيَف بالمسرح ومنطوقه الذي يقوله الجسم وحركاته لا النص الكامل المعطى كي يقرأه الممثلون· في /ممالك من خشب/ وفي /بيت النار/ وفي /الراوي/ وفي /هم/ وفي /موت مدير مسرح/ وفي مصنفه الأخير /هكذا/ أشعر أنَّ عبيدو باشا لاعبا ماهرا في نادي المخابرات، فهو يغرق في التفاصيل الصغيرة حتى يثير الإهتمام، تشعر معه أنت أيضا أيها القارئ أنه جامع حطب، حطب جيد من نوعية مدروسة يجمعه عبيدو في الليل وفي النهار، في آناء الظلمة وفي شموس الظهيرة، كي يبذر كل هذا الكلام الجميل، زخم ببهارات عديدة، وإذ كتب هو يصف أحدهم وحياته مختزلة في دوش سريع وفطور على عجل فإنَّ كاتبنا هذا اللاهي بمسرحة ألفاظه وكلماته، وسينوغرافياتة ليس كذلك بل هو كالفرنسيين يتحمم فقط وتلزمه خمسة وأربعين دقيقة، الفطور والمقبلات والمشي في الشارع الطويل يستغرق بالنسبة له تقريرا من تقارير المخابرات، بل هو يكتب كمشَّاء على دراية بالكل وما يفعلون وما يخفون وإلى أين يذهبون، أين يغشون في اللعب وعلى أيَّ طاولة يتمسرحون، سمرهم، ذلهم في السؤال عند أول الشهر، أكلهم المقانق والزعانف والحمَّص، يكتب عبيدو كزميل دراسة أبدي وكأركيولوجي وكجيولوجي، كما يكتب كتابة الرفقة والملازمة واللصاقة، لا نتوءات ولا أخاديد، ولا اهتمام بالنقط، ولا بسيبويه أو نفطويه أو أبي الأسود الدؤلي· عبيدو المسرحي، فذُ في تمسرحه ويعمل بآلة مغناطيس، تحتار في أمره كما احترت أنا كلما أمعنت في حكاياه إبحارا بلا مجداف أو غاية، الإمتاع هو وحده الذي يتقنه، والحيرة منه كما الحيرة فيه، فنماذجه الكتابية كالرسومات على الجدران، صياغات غير منتهية، نصوصه في الأغنية وفي تجربة الرحابنة تلحظها كسكتش درامي جماعي وكورال يرتجل الحياة وينطلق في المدى، المسرح مع عبيدو باشا يصير كفراشة ويصير كالموت ويصير كالكتابة بلا خلاص والمسرح ليس هو خشبة الخلاص دائما··