عادت بي الذاكرة هذه الأيام إلى بعض ما عشناه في الجزائر خلال تسعينيات القرن الماضي حيث راح بعض الدخلاء على الدين والأمور الفقهية خصوصا في تلك الفترة يفتون كيفما يشاءون، ويُشرعُون كيفما يحلو لهم، إذ يحللون الحرام، ويحرمو ما لا يجوز أصلا وشرعا وكأنهم علماء أفذاذ وفقهاء في الدين. وقد التف حول هذا الصنف من المتفقهين آنذاك العديد من الناس الجاهلين بأمور الدين والناقمون على بعض التجاوزات التي كانت تحدث في تلك الفترة. كانت المساجد في مختلف أنحاء الجزائر تكتظ بدعاة الفتوى الجدد حتى رأيناهم يفتون في كل شيء، مثلما راح البعض يقيمون الحلقات هنا وهناك حتى أصبح كلام العلماء لا قيمة ولا معنى له، بل لا يجد حتى بعض الذين يسمعونه أو يصدقون ما يصدر منهم بدعوى أن أولئك العلماء كلهم من فقهاء السلطان. كان التحريض على النظام ومن يسير في فلكه وركبه يأخذ منحى خطيرا حتى أصبح تكفير الآخر خصوصا ممن لا يؤمن بالفكر الجديد لأولئك الفقهاء الجدد هو الموضة الجديدة في تلك الأيام المريرة في تاريخ الشعب الجزائري. وأصبحت عبارة الطغاة تجاه كل من يعمل في الدولة ولصالح مؤسساتها مهما كانت صفته حتى لو كان موظفا بسيطا هي المصطلح السائد الذي يطال كل من لا يوافق هوى أصحاب تلك الموجة الوافدة على الجزائر بفعل “الأفغنة" التي توغلت في عمق البلد عن طريق بعض الشبان الذين التحقوا بجبال “التورا بورا" مجاهدين مع جماعة بن لادن باسم الإسلام لدحر الشيوعية ونصرة الإسلام ضد نظام النظام القائم آنذاك بأفغانستان وهذا بدعم من السناتور الأمريكي تشارلي ويلسون، الذي كان يجمع الأموال الطائلة من أمريكا ويحث على دعم تلك الجماعات الإسلامية التي رعتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. وقد كان مما قاله وزير الدفاع الأمريكي السابق غيتس ورئيس المخابرات المركزية الأمريكية في فترة الحرب الأفغانية وهو ينعي تشارلي ويلسون إثر وفاته في فيفري 2010 وصفه ب “الرجل الوطني الشجاع وغير الاعتيادي الذي غير مجرى التاريخ". كانت اللحى على غير عادة الجزائريين السنة في أغلبهم وخاصة الشبان منهم تزداد طولا، وكانت السراويل الأفغانية القصيرة التي غزت الشارع الجزائري تكاد تصبح موضة جديدة في جزائر التسعينيات لأولئك الشبان المتأثرين بالفكر الجهادي لكثير من المفكرين المسلمين والإسلاميين الذين راحت فتاويهم وأفكارهم تنتشر بسرعة مذهلة وسط العديد من الشبان الجزائريين بشكل مغلوط في عمومياته. كانت الأفكار السلفية بما فيها بعض الأفكار التكفيرية الوافدة تنتشر بسرعة النار في الهشيم. وانقسم الناس بين مؤمن إلى حد التزمت المقيت بما يسمع من فتاوى محاولا تطبيق الكثير منها في الميدان، وبين محتار بشأنها خاصة فيما يتعلق ببعض الأفكار التكفيرية لكل مخالف لآراء واجتهادات أولئك الدعاة وطرهاتهم. وقد كان مما أذكر في هذا الصدد حوارا دار بيني وبين أحد المتفقهين في بداية الأزمة التي عاشتها الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، فقد راح أحدهم يقول لي في نبرة تحد إنهم قادمون للحكم وإنهم سيواجهون دبابات الجيش بصدورهم العارية وبحفنات التراب ويسقطون طائرات النظام بأحجارهم. ثم توقف هذا المدعي وقال: ألا تعرف أن إخواننا المجاهدين في أفغانستان حطموا الدبابات السوفياتية ودبابات النظام بواسطة التراب، وأنهم أسقطوا الطائرات السوفياتية بالحجر وبوسائل هي من المعجزات الربانية. وعند هذا الحد وجدتني كمن يصاب بالدوار إذ كدت أفقد أعصابي لولا بقية من صبر وإيمان، لكنني مع ذلك لم أعد قادرا على مواصلة حوار الطرشان مع “إنسان" أقرب هو أقرب منه إلى الدروشة لا إلى العقل، إذ بعد أن أكدت له بأن المعجزات انتهت مع الرسل والأنبياء، وأن آخر أصحاب المعجزات هو النبي المصطفى محمد عليه أزكى الصلاة والسلام وجدتني أقول له بأنني لستُ على استعداد لتضييع وقتي ومواصلة الحديث مع الدراويش في هذا العصر العلمي بامتياز. لقد تذكرتُ تلك المشاهد عادت للذاكرة صورها المرعبة وأنا أطالع هذه الأيام ردود الفعل التي أعقبت الدعوات الجديدة التي أطلقها بعض دراويش التدين السياسي الجدد في مصر وفي جهات أخرى من العالم العربي بهدم الأهرامات وأبو الهول وكل التماثيل الأخرى في مصر، التي تمثل جزءا ثقافيا وفكريا وعمرانيا وحضاريا من تاريخ مصر والعالم ككل، فالأهرامات واحدة من عجائب الدنيا السبع التي يزورها الناس من كل أصقاع الدنيا وتدر على شعب مصر الفقير بثرواته، الغني بحضارته الملايين من العملة الصعبة وتشغل آلاف العمال وتطعم عائلاتهم وتترك مئات العلماء والباحثين من كل أصقاع الدنيا يأتون لمصر سائحين وباحثين في عظمة الحضارة المصرية التي تمكنت من تحنيط الكائن البشري بوسائل ما يزال العلم المعاصر عاجزا عليها لحد الآن. فلو أن عمرو بن العاص عندما فتح مصر في العام العشرين من الهجرة النبوية كان يعلم أن أهرامات مصر وأبا الهول هي من الوثنيات كما يزعم الوثنيون الجدد لما تردد لحظة في تهديمها، وقد كان معه وقتها قادة مسلمون كبار من أمثال الزبير بن العوام والمقداد بن عمر وعبادة بن الصامت. ثم إن الفاروق عمر بن الخطاب الذي فُتحت مصر في ظل خلافته لو شك في وثنية الأهرام وأبا الهول لما تردد لحظة واحدة في إعطاء الأوامر الصارمة لعمرو بن العاص وجند الإسلام بهدم تلك المعالم التي أصبحت في عرف المتفقهين الجدد من الأوثان التي يجب هدمها. لقد ابتُلي العالم العربي والإسلامي منذ العشريات الأخيرة من القرن الماضي بموجة جديدة من “فلاسفة" فكر جامد ومنطق لا صلة له بالعلم والمنطق والعقل، فكر كاسد لا يعرف بابا للمعرفة والاجتهاد، بل ولا يمت أصلا بصلة إلى الإسلام في عصوره الزاهية، ففي وقت كانت فيه أوروبا غارقة في الشعوذة والدجل والجهل، كان فيه المفكرون والعلماء العرب والمسلمون قد جعلوا من بغداد ودمشق والقاهرة وتلمسان وبجاية وقرطبة والأندلس عموما حواضر للعلم والمعرفة والفلسفة الراقية، وعواصم يحج لها الطلبة من كل مكان ويتزودون منها وفيها بشتى المعارف وبالعلوم بما فيها الموسيقى التي كانت علوما دقيقة مثلها مثل الرياضيات تماما، بينما أصبحت الموسيقى اليوم من المحرمات في الفقه الجديد لفلاسفة الردة هؤلاء. لقد سمعت خلال شهر سبتمبر الماضي، ومن على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الأخيرة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وهو يتطاول على العرب ويتفاخر عليهم بما حققته إسرائيل في شتى العلوم والمعارف وفي الاكتشافات بما فيها التقدم الطبي، فأصابني الذي قد أصابني من ألم وصداع، ثم أحسست بدوار ووجع في الرأس وأنا أشاهد هذه الفتاوى الجديدة الغارقة في الردة والشعوذة والتخلف وهي تنزل علينا كالصاعقة من بعض الشاشات الباحثة عن الإثارة وقد بات أصحابُها يفتون في فكر بليد غارق في التخلف والشعوذة والدجل. فهل أن مثل هذه الأهرامات هي مكان يذهب الناس إليه للعبادة مثلما كان عليه الأمر قبل الإسلام حيث كان الجاهليون يتخذون من اللات والعزى ومن هبل مزارات وعبادات حتى جاء الإسلام ووضع لها حدا لتلك الأوثان وقام بهدم تلك الأصنام والأزلام لأنها كانت قمة الإشراك بوحدانية المولى جلت قدرته الذي لا يعبد أحد سواه. أما أهراماتُ مصر وأهراماتُ النوبة في السودان والمعالم السياحية والأثرية في مختلف مناطق الوطن العربي خصوصا سوريا والعراق والأردن وليبيا واليمن والجزائر بما فيها المعالم التي تبرز حضارتنا وحتى حضارة الآخرين ومن بينهم الرومان والفرنسيون والإيطاليون والإنجليز الذين احتلوا بلداننا وتركوا بها بعض الآثار والمعالم فإنها مع ذلك كله تشكل تراثا إنسانيا وحضاريا مشتركا لا يمكن لنا نكرانه أو تجاهله. فما يُعرف اليوم في صحراء الجزائر الفسيحة برسومات التاسيلي والهقار وإينغر عبر فضاء ومتحف مفتوح على الطبيعة يشكل لوحة كبيرة تمتد على مسافات كبيرة في صحراء الجزائر، وتعد من المعالم السياحية الهامة حيث يجد الباحث هياكل عظيمة للإنسان القديم تعود إلى آلاف السنين التي سبقت الإسلام، مثلما يجد فيها رسومات نادرة لحيوانات منقرضة تكون قد عاشت في الزمن الغابر حيث يجد فيها السائح الأجنبي متعة وفرصة للاستزادة العلمية والمعرفية، بينما يجد فيها الزائر الوطني الراحة والسكينة إذ هي تذكره بأمجاد أجداده. فهو لا يأتيها للتعبد وبعث الوثنية الجديدة، لأنه مسلم مؤمن وليس من عبدة الحيوانات ولا من عبدة الأصنام والأوثان مثلما يزعم المتفقهون الجدد. لذلك فإذا كان الناس قد ظلوا على امتداد عدة قرون يرفضون الفتاوى الجاهزة التي تبيح كل ما يأتي به الحاكم المستبد الظالم فيخرجها علماء الحاكم المستبد والسلطان الجائر في أبهة وحلة مزركشة ليتقبلها الناس حتى يصبح الحاكم حاكما بأمره لا بأمر الله، و تصبح فتاوى “عالمه وفقيهه" وسيلة للتخدير وإطالة أمد الحكم والاستبداد، فإن دراويش العصر الجديد صاروا يتفننون في فتاوى تناقض العقل والمنطق وتحجر على العقل والفكر وتكفر الناس من حيث هم مؤمنون وتدخل علينا بأبواب مشرعة وتعبر الحدود والأوطان بعد أن كانت بالأمس تعيش في الدهاليز وتخاف أن يسمع كلامها أكثر من شخصين اثنين. ولذلك فإذا كنا ما نزال نرفض منطق فقهاء السلطان، فإننا نقول لدراويش اليوم كفوا هرطقة عنا، فقد مللنا من فتاويكم الجاهلة بعدما أوصلتمونا إلى بحور من الدماء والدموع في ظل الجهل الذي يرفضه عصر اليوم. هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته