تنبئ المؤشرات المتلاحقة في الحراك الذي تشهده ما عُرف بأحزاب التحالف الرئاسي بحدوث تطورات سريعة في المشهد السياسي مستقبلا. فبعد التململ الذي عرفه التجمع الوطني الديمقراطي قبيل تشريعيات العام الماضي، لاحظنا توسع نطاق هذا التململ لاحقا ليبرز في شكل حركة تصحيحية شملت عددا من القياديين الكبار بما فيهم بعض المناصرين للأمين العام أحمد أويحيى وخصوصا الذين انقلبوا عليه بين عشية وضحاها في الأيام الأخيرة من قيادته للأرندي. والغريب في الأمر أن جل الأسماء الكبيرة معروف عنها أنها تتصرف في مسائل كهذه بمنطق التحفظ وبمنطق من يصفون أنفسهم برجالات الدولة وليس بقناعات المناضلين أو بحسابات السياسيين، إذ أن جل هؤلاء “الكبار" كانوا لا يتحركون عادة إلا بواسطة المهاميز والإشارات التي تأتيهم من هنا أو من هناك. وقد تسارعت الأحداث في هذا الحزب الذي وُلد من رحم الأزمة في مطلع 1997 وقبيل الانتخابات التشريعية التي جرت في نهاية ربيع ذلك العام بعملية توقيعات جرى جلها في جلسات ماراطونية ليلية حتى بدا للبعض أن أشباحا هي التي تسهر بليل على العملية وتحركها للإطاحة بأويحيى. ويبدو أن حاسة الاستشعار لدى أويحيى الذي تربى في دواليب السلطة منذ انتدابه في منتصف سبعينيات القرن الماضي كضابط احتياط من ضباط الخدمة الوطنية في رئاسة الجمهورية وتوليه إثر ذلك عدة مناصب حساسة في الخارجية والرئاسة، ثم رئاسة الحكومة وقربه من مراكز صنع القرار هي التي جعلته يرمي بالمنشفة قبل دورة المجلس الوطني للأرندي في السابع عشر من الشهر الجاري بعد أن أيقن أنه لم يعد يوثق به كرجل إجماع بين صفوف حزبه، وأن مستقبله السياسي بات مهددا إن لم يترك منصب الأمين العام للأرندي عبر الاستقالة. والراجح أن ثقة الرئيس بوتفليقة في رئيس حكومته السابق أويحيى قد تدهورت منذ أن دار بذهن سي أحمد استخلاف بوتفليقة إثر المرض الذي ألم بالرئيس في نهاية عام 2005. فقد بدا لمختلف الأوساط آنذاك أن سلال بات قاب قوسين أو أدنى من مبنى الدكتور سعدان، و قد راحت مختلف الأوساط المتابعة للشأن السياسي في الجزائر تنتظر صدور هذا القرار في تلك الأيام، لكن الرئيس فاجأ هؤلاء وقتها بتعيين بلخادم رئيسا للحكومة بدلا من عبد المالك سلال. ولكن بلخادم الذي كان الرئيس يعول عليه فيما يبدو تمت تنحيته لاحقا بعد أن بات العديد يتحدث عن عجزه على التحكم في مختلف الملفات المطروحة أمامه. ثم إنه يبدو أن الرئيس بوتفليقة ظل منذ أن تمرد عليه رجل ثقته السابق ورئيس الحكومة السيد علي بن فليس في 2003 وترشحه ضده في الانتخابات الرئاسية ل 2004 يتوجس من كل من يكون في قصر سعدان من أن ينسج علاقات مع أطراف من داخل البلد أو من خارجه تمكنه من الوصول لقصر المرادية. ولطمأنة أويحيى وإشعاره مرة أخرى بأن الرئيس نسي ما كان يدور بذهنه بشأنه منذ فترة أعاده الرئيس من جديد لقصر الدكتور سعدان، حيث ظل في المنصب إلى أن أنهى الرئيس مهمته من جديد مبوئا مدير حملته لرئاسيات 2004 و2009 عبد المالك سلال هذا المنصب الذي كان الرجل ينتظره منذ حملة رئاسيات 2004. فهل أن استقالة أويحيى التي تمت قبل أن ينحى الرجل عنوة من الأرندي هي استراحة محارب ومحاولة لتلميع صورته من جديد تمهيدا لمراحل قادمة، أم أن المسألة تعني النهاية السياسية لرجل كان محل جدل منذ فترة من الزمن، بل ومحل ثقة بعض دوائر صنع القرار؟ أم أن المسألة تدخل ضمن العمل على خلق مشهدا سياسيا يريد بلورة خارطة سياسية جديدة تنتهي بإزاحة قادة ما عُرف بأحزاب التحالف الرئاسي، وهم أويحيى وبلخادم وسلطاني من قيادة أحزابهم وتشجيع الأحزاب الناشئة الجديدة لتُمنح لها فرصة العمل في الحقل السياسي على قدم المساواة في الساحة مع ما يمكن تسميته بالأحزاب المدللة سابقا لدى النظام، وهذا استكمالا للإصلاحات التي يقوم بها الرئيس قبل المصادقة على وثيقة الدستور القادم الذي ينتظر أن يبلور ملامح السياسية في المرحلة القادمة. ولعل ما جرى في الأرندي هو مقدمة لما يجري منذ عامين من حراك في الأفلان و إن كان ذلك بشكل مختلف . فإذا كان ما يجرى في الأفلان ناتج أساسا عن تذمر بسبب سوء تسيير في هذا الحزب بعد انتهاك الأدبيات التي كانت سائدة، فإن ما جرى في الأرندي يؤشر لمرحلة جديدة قد تشمل كل أحزاب السلطة. لقد قرر الرجل التاريخي وزعيم الأفافاس حسين آيت أحمد من تلقاء نفسه وبحسه وتجربته الثرية الطويلة وعمق نظرته للسياسة في الجزائر الاستقالة طوعا من قيادة حزبه بعد أن حكم هذا الحزب في السر والعلن على امتداد ما يقرب من خمسين عاما، وفضل تسليم المشعل لقيادة جديدة. وإذا كان أويحيى قد استبق عملية إسقاطه وقرر القفز من المنصة وخرج من عملية القفز سالما، وربما بأقل الأضرار فيما يبدو، فإنه يبدو أن بلخادم لم يفهم الدرس بعد حيث مازال يجري ضد التيار متذرعا بأن من يعطيه إشارة الانسحاب من قيادة الأفلان هو رئيس الحزب شخصيا. فالرجل الذي توهم أنه حقق نصرا مبينا في تشريعيات 2012 بعد أن خرج قبل ذلك منتصرا من المؤتمر التاسع في 2010 جمع شتاتا من مكتب سياسي كانت كل الاحتمالات تشير آنذاك إلى أن عددا من أعضائه المتعطشين للسلطة سَيُدْخل الحزب العتيد في دوامة من المشاكل والصراعات والتهميش للمناضلين والكفاءات. وأزعم شخصيا أن علاقتي التي كانت طيبة مع الرجل إلى غاية انعقاد ذلك المؤتمر إذ كنتُ حسب البعض سامحهم الله محسوبا على بلخادم وليس على أدبيات الجبهة التي ترعرعتُ فيها منذ كنت شابا أن تلك العلاقة تدهورت منذ إعلان تشكيلة المكتب السياسي. فقد وجهتُ لبلخادم رسالة مطولة أكدت له فيها أن تشكيلة المكتب تلك ستدخل الأفلان في دوامة من الصراعات والمشاكل، وقد تنهي حياة بلخادم السياسية نفسه وتضعف الأفلان وتشتت قدراته وتدخلها في صراعات وتصفية حسابات وتكتلات ولوبيات. ويشهد الإخوة الذين التقوا بي آنذاك في بيتي مرارا وخارجه والذين اطلعوا على محتوى تلك الرسالة عن موقفي ذلك، لأنني كنت أعرف طبيعة معظم الذين مكنهم بلخادم إن طوعا أو كرها كما زعم لي ذلك أو ضمن استراتيجية بعيدة المدى في نفسه أن معظم مَنْ في التشكيلة معروفون بطموحات شخصية قاتلة وأن بعضهم سيعملون على التمكين لأشخاصهم وللوبيات المال والرداءة والرشوة وإبعاد الكفاءات وأنهم سيُغرقون الحزب في النهاية في صراعات تضعف دوره القيادي. وبالرغم من أنني قد دفعت الثمن بتهميشي وإقصائي ظلما مثل العديد من الكفاءات لموقفي ذلك، فإنني مع ذلك أجد الآن أن ضميري مرتاح، إذ أحمد الله أن تلك التخمينات والتحليلات قد صدقت الآن بعد أن وقع عدد من أعضاء المكتب السياسي لبلخادم على رسالة يطالبونه فيها بالاستقالة، وقد كان من الأخلاق السياسية بهم أن يتحمّلوا المسؤولية مع الرجل وهم شركاؤه فيما جرى من سوء تسيير للحزب، بل مسؤولون جميعا على الظلم والتعسف الذي لحق بخيرة المناضلين وخصوصا بالكفاءات، وعلى الوضعية التي آل إليها حزب جبهة التحرير الوطني جراء فرض الرداءة وتغول المال الفاسد في هذا الحزب الذي كان مدرسة في الأخلاق والوطنية الصادقة وفي اختيار الرجال. ويبدو لي الآن أن بلخادم إذا لم يستقل قبل انعقاد دورة اللجنة المركزية المقبلة في نهاية الشهر الجاري ومطلع الشهر القادم سيجد نفسه معزولا بسحب الثقة منه من طرف قيادة الحزب إن لم يتم إنقاذه بفعل فاعل. وإن من شأن ذلك أن يضعف الرجل وينهي مستقبله السياسي للأبد، فلو أنه استقال فقد يحفظ بذلك ماء وجهه من جهة، كما أنه سيترك المستقبل السياسي مفتوحا أمامه من جهة أخرى. ومهما يكن فإن المشهد السياسي لأحزاب السلطة بات مطروحا الآن على كل الاحتمالات، فاستقالة أويحيى واتساع رقعة المطالبين برحيل بلخادم قبل الاجتماع الحاسم القادم للجنة المركزية قد ينتهي كذلك بانتفاضة جديدة في وسط البقية الباقية من مناضلي حمس لتنحية بوجرة سلطاني، الذي قد تكون عملية سقوطه الآن أسهل بكثير من سقوط نظيريه في التحالف رغم احتماء بوجرة بتحالف الخضراء التي لم تستطع إقناع الإسلاميين بالتصويت لصالح هذا التحالف الإسلامي سواء في التشريعيات أو في المحليات، وكذا الاستنزاف الذي تشهده حمس في قيادتها إثر الصعود الوهمي لتاج غول الذي يبدو بأن قوته تتم بفعل فاعل خصوصا بعد انضمام عدد من المناضلين والمناضلات الموسميين لهذا الحزب، ومن بينهم زملاء غول في حمس. ومهما يكن من أمر، فإن المشهد السياسي في بلادنا بات يحتمل التغيير على الأقل بالنسبة لبعض الوجوه التي اعتاد المواطن رؤيتها باستمرار منذ تسعينيات القرن الماضي، ولكن التغيير الحقيقي لن يتم إلا ببروز جيل يؤمن حقيقة أن الديمقراطية ليست بقبر الكفاءات أو التغيير من أجل التغيير بل تغيير الذهنيات التي تريد أن تجعل من اللعبة الانتخابية ومن السياسة عموما مجرد عملية ريع مربحة، تماما كالريع من ثروة المحروقات الآيلة للزوال. محمد بوعزارة هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته