*على الشاشة مشهد يومي آخذ في التكرار، مرعب، قاهر وغلاب، عالم ظالم وظلامي منهك.. أية توصيفات لا تكفيه عالم السيارات.. القتامة والإسوداد، التلوث والزعيق، الصفارات والتزمير، اخترعها الكائن لحاجته في أن يقصر المسافة، في أن يرتاح من عناء وشقاء وأن يوصل ما أمرت به الحياة أن يوصل، الرفاهية والنزهة، شغف العائلة والحب، الهواية والرياضة وسلوة المريض.. لكنها هي المرض الآن، العصاب، لها استعباد الآلهة ومفعول المخدر الساحق، إنها الموت في حتميته، السيارة هي الموت الرمزي، هي اللاأنسنة والاستلابات والاختلال.. إن علماءها الخبثاء وأرباب التصاميم ومدراء التسويق برعوا في هذا الذي يجب أن يبرعوا فيه باستنفاد أواخر الطاقة عند هذا الحي الذي يموت كل يوم بدهسات السيارات، بطوارئ التشغيل السيئ للعربة الميكانيكية، بعدم دقة الكونترول ونظام التوقيف، بعورات الطرقات وحدباتها اللامنتهية كما في الدول السائرة نوما في طريق الحداثة فلا تنهض أبدا، إن هؤلاء الصناع الأبطال لهم عشرة على عشرة في فن مزاولة الاحتلال لدماغ الإنسان عبر السيارة، غير آبهين لا بهواء سلس ولا بنسيمات دافقة، ولا بشمس سنغافورة، وإني لأنعطف بها يمنة ويسر، أعرج بها على كل الموضوعات، أتفرع بحقولها، أنزاح، أحرك محركاتها، أستخدم وظائفها.. السيارة هي عالم الرمزيات، كل الرمزيات، إبداع وخلق، هندسة وتصميم، إدارة وقيادة، اشتهاء وإيروس، بيت وسقف، معنى ومفهم، حداثة وأصالة.. في واحدة من مقالاتي التنويهية أرى فيها موتتي الغبية، مختبر جبني وخوفي، شراسة معاركي، غريزة أساسية، تيمة سينمائية، فما استقامت خيالات الأدب وفنتازمات الإخراج الخوارقي الهوليوودي إلا على حركية السيارة داخل الأجواء المفعمة.. أجواء مفعمة حقا، الصخب، القلق، الإصطفاف في الطوابير، جنون المتروبول، شيء من 1984 حسب جورج أورويل، شيء من هنري ميلر البليد، الفج، المغامر، الوقح، القاتل، الصادم، الداهس.. يتصور الواحد أن حداثتنا في “2013" تفتقد إلى سيارة، مقود وعجلات وألسنة خطرة، وحقارة سلوكية واعتداءات، لا لا.. لا يصلح حال العالم كذلك دونها إنها المؤشر والترمومتر، تصيغ النص المديني، تؤلف شبكتها المفهومية، وتتوسع في المنظومة والاداء، حاضرة أبدية في الحاضرة وفي الخاصرة.. قياسا إلى مشاكل متعاظمة على هذا الكوكب تنحو السيارة بعقلها الأداتي الاحتلالي نحو الصدارة، حوادثها القاتلة، تلويثاتها للبسيطة وإتيانها على الأخضر واليابس، تشغيلها للفضاء العمومي وامتلاكها متنفس التعبير والإنوجاد على الحجم الذي يفوق رغبة الإنسان نفسه، سلطة المكان صارت لها، الزمان، قوة العبور والانسياب.. تنبئ المهارة الليبرالية اللامحدودة لطاقم العولميين الجدد عن شراسة داخلية، ونوايا مبطنة لقتل الفرد داخل سياراته، داخل فرنه البلاستيكي، داخل معدنه الغريب الملئ بالأزرار والقفل وأوعية الاستبدال، حسنا يا لغرابة التنميط، الموت في طريقه السريع لا في السياقة ونظمها، أو قوانينها التي تشهد مراجعات دائمة، بل في الاقتناع نفسه، بهذا الخيار المسمى سيارة، والذي لا تتسمى دونها وسيلة أخرى بأسماء الاستعارات والكنايات والمبالغات اللغوية الطريفة منها والقبيحة.. في المخيال الشعبي العربي والغربي كانت على الأدوم هي مقرونة بصدمة الموت، فقد كان يقال إن فلانا “مات موت ربي" وآخر في حادثة سيارة، أي أنها فعلا مهددة للبقاء، عاجلة الدنيا وموئل الآخرة ولذلك أشدد في فكرتي هذه على انزياحاتها المفهومية ومقارباتها الحياتية والفكرية.. تعني خطاطة كهذه الإلماح إلى عالم مفترض دون سيارة، فلسفيا وأخلاقيا، إعادة بعث العالم دون هذه المركبات التي تأكل من مساحة الأرض ما تأكل، تخلق اليأس، تدفع إلى الإنتحارات وتفضي إلى أقرب القبور، في الغرب تنشط هيئات وجمعيات وتتحفز أقلام وتنصرف مقالات إلى نقد السيارة والتنبيه إلى مخاطرها واستلاباتها وسمومها المؤذية، سموم من كل صنف ونوع، نشوة امتلاك وغصة، ووفرة موديلات لا يلحقها البائس البشري، الكلفة المعتبرة لقطع الغيار، الكلفة على التأمين، ضيق الطرقات ووعرتها، ثم انعدامها في كذا دولة متخلفة، حيث تمثل السيارة اللامعنى، واللاجدوى.. إن الآلة الدعائية تتحرك بشأنها، وتروج لثقافة سيارة متفاخرة وادعائية، إنها سنوبيزم وتعال وزهو يتخلق في نفوس هؤلاء المالكين الجدد لسيارات ضخمة وجبارة من هذا النوع.. الرانج روفر، واللاند، والتويوتا كامري والليكزوس بأسطولها المرقم الدائب على التطوير ومطاردة الساحرات.. فضلا عن المرسيدس والبي أم، والفولكسفاڤن والفورد والفولفو.. شيء مهيب، عظمة ومجد وسنوبيزم كالذي قلناه، فأنا حضرت جلسات عمرها الوقتي ساعات وموضوعها الواحد المتعدد، العجلات، قوة المحركات، قياسات السرعة.. لهانئي البال والسذج المطروحين على رأسهم وبطنهم، العاشقين للسيارات حتى الوله والكلف والتدله.. هؤلاء يبتلعون الطعم كما لو أنه في طعم “الكافيار" والمقولات وتوصيفات الجمل هي.. هي إذ السيارة هي مجلبة الأمان والراحة، التنزه الفردي، مرافقة العائلة ومرافقة الموسيقى، حب مغادرة المدينة واصطحاب الأولاد، والمغري هو هذا، أي في اغتلامات الرومانسية، والإحساس الخافت المنسرب فجأة، الدعة والاسترخاء الرفاهية، نوم الأولاد داخلها، القبلات والبصبصة الإجتماعية وشمس أيام العطل كشمس سنغافورة التي غناها خوليو ايغليزياس.. السيارة سلطة حتى في الأدب، السيارة القديمة المحملة بالمفارش والتي ذكرها جون شتاينيك في عناقيد الغضب، السيارة التي قادها العمدة “دين" في “41 هدسون"، وكذلك السيارة التي تظهر في رواية كيرواك على الطريق، القرش الأحمر الكبير من رواية هنتر أس، بينما تعدم وقد يفرغ الأدب العربي من حضوراتها وإنما ذلك راجع لأصوله وأصول العاملين في الحقل الأدبي ولا يعطف ذلك ضيق المخيال وتكرارية الموضوعات. يلحظ مراقبون لموضوعة السيارة كأدب وكسوسيولوجيات، أن الإبداع الذي اختزنته والدلالات القوية التي تتركها والآفاق المفتوحة ونحن بصدد التفكير فيها أو نحن داخلها أو على مرمى من اقتناء واحدة من إياهن الساحرات القاتلات، أن كل هذا أساسا هو ما يخلق هذه المشاعر الضدية والكراهية لدى ساكنة المدن وحتى الأرياف، اليوم، إنها أقفلت طاقاتنا الداخلية بدل من أن تحررها، كبلت العقل وأركست الروح إذ هي صارت رباطنا الذهبي،المقرف، هوس التعلق المرضي، الفيتشزم والشيئية بل منطق التكديس.. إن المساحات تتضاءل، وتهندس الطرقات على الوجهة الكاريكاتورية المسماة بالمتاهة، تغلى الأسعار وتستحيل الفضاءات إلى جحيم، لينقم الناس أو يهربون أو ينتحرون أو يصطفون مستسلمين في بلادة قوم استعمرتهم سياراتهم وما أفلحوا انفكاكا عنها بل إن بعضهم يمتلك هذا المسكن المرفه المعدني المتوحش وهو لا يملك المسكن، أو يملكه على ضيقه واتساع أبعاد سيارته، وصلت الأمور إلى هذا الحد من السوء والسوءة، إذ صار يشار بالبنان عن جمالية المدينة وهناءة عيش أصحابها وسعادة أطفالها ورونق نسائها وراحة مسنيها وعواجيزها بالكلمة الدالة، السيارة، صنفها ومصفها، بل مصيفها وعطلتها، فندقها ومكان نومها، ماؤها وزيتها، غسلها وتشحيمها، تزيينها ومكيجتها، استلاب العصر الحديث المفتون وما يئس قادة العولمة وأنبيائها في المضي قدما بنا نحو حتفنا ومتحفنا، في 1894، في شهر تسعة، حدث هذا في أمريكا، رجل يترجل من سيارة أجرة قاصدا منزله، الرجل اسمه بلس، تقاطع الشارع 74 غربا مع سنترال بارك أي على مسافة قريبة من منزله، لكن سيارة أجرة أخرى انحرفت نحوه كي تتجنب الاصطدام بشاحنة كانت تسير على خط اليمين، أسقطته الصدمة سحقت رأسه وصدره، مات الرجل في اليوم الثاني للحادث، كان بلس أول ضحية من ضحايا السيارات في أمريكا.. إن السائق الجيد لا يفاجئ ولا يفاجأ، على مهل وعلى مكث يسير يؤقت للقدر مقداره، فينجو حامدا ربه متذكرا موته وهادم لذته كم صانه الموت من الموت لحظة الحذر والحيطة، إن السيارة حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك وإن السائق الجيد لا يفاجئ ولا يفاجأ، بيد أن في الدقيقتين اللتين مرتا الآن ضحية على هذا الكوكب، تقتل السيارات في كل سنة تمر مليونا ومائتي ألف إنسان في أنحاء شتى من هذا العالم، كما تجرح عشرين مليونا، وهي مذبحة تعادل سقوط 12 طائرة من طراز جمبوجت مليئة بركابها كل يوم.. يبدو الأمر عادي جدا وكأن الهلاك عن طريق المعدن والزجاج يدخل ضمن “أسباب الموت الطبيعي" وينبغي لساكنة هذا الكوكب القيامي التعس التكيف مع ذلك إلا أن الأمر فاق عدد الذين يموتون أثناء النزاعات المسلحة.. أدت صناعة السيارات ورقيها إلى هجمة وسحق للإنسان سحقا أبعد من فسحة مضيئة ومن حياة تخلو من الكدر المزمن، وإننا سنظل نكتب في مقالاتنا وجرائدنا وكتبنا وعلى صفحات الويب لنتركها هذه الملعونة ولنفكر في تمدين وسائل النقل العام وحدثنتها وسيكون في ذلك وبسببه موت أقل.. a_maouchi@live. Com