الصحراء فضاء نصي بامتياز، وفضاء مثير لكل الأسئلة التي تؤجج الانغماس في فيض ما، لا يتناهى من الإشارات. السرد يمتد كالصحراء.. والصحراء سرد يكتب المحو. السرد مقترن في الأصول الدلالية بالدرع، في الآية 11 من سورة سبأ نقرأ: “أن اعمل سابغات وقدّر في السرد واعملوا صالحا إني بما تعملون بصير". يقول الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره: «والسرد: صنع درع الحديد، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تشد شقق الدرع بعضها ببعض، فهي للحديد كالخياطة للثوب، والدرع توصف بالمسرودة كالسابغة، قال أبو ذويب الهذلي: وعليهما مسرودتان قضاهما داود وصنع التوابع تبّع في “القاموس البسيط في معاني القرآن" الذي أعده محمد الرفاعي أبو زيد، يذكر في تعريف السرد: «تصنيع الدروع لا بالخفيفة فلا تحمي لابسها ولا بالثقيلة فيصعب على لابسها الحركة والدفاع والجهاد فقدر حجمها وسطا". فالسرد يحبك السكن في عوالم تتشكل لتكون الحصن والملاذ، وذلك ما صاغته الحكايات عبر العصور، حكايات كانت تحبك كل ليل فتحبك معها حياة تظل مستمرة ومتحدية لكل تقلبات الزمن. والصحراء كما كتب شريف هزاع شريف في مدونته: “صور تخيلية خصبة تعزز قدرة الكتابة والاستمرارية كونها مبطونة بالحكايات والخرافات والصور الشعرية". ويقول: “إذا أخذنا الكتابة في معناها التخيلي، فصحراء الكتابة هي دوما صورة متخيلة يمتزج فيها الخيال والواقع، ولا ينفي هذا وجود أعمال في أدب الرحلة حاولت بطابعها الوصفي والتوثيقي أن تنقل صحراء الواقع، وما تتميز به من مناخ وتضاريس وعادات وأسلوب حياة. لكن سياق كلامنا يقتضي الحديث عن الصحراء التي تنتمي إلى السجل الخيالي أكثر مما يقتضي الحديث عن تلك التي تنتمي إلى السجل الواقعي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الصحراء الواقعية هي بهذا الشكل أو ذاك من العناصر الأساسية في تكوين الصحراء المتخيلة". يقول الشاعر أحمد عبد الكريم: “كتابة الصحراء، لا تعني الوصف الخارجي لجغرافيا الصحراء بطريقة وثائقية، وإنما تعني نقل روح الصحراء من خلال تفاعل الإنسان مع المكان والتعبير عنها بشكل عميق بعيدا عن النظرة الايكزوتيكية". ويذكر في مقاله عن رواية ربيعة جلطي “نادي الصنوبر" التي تتناول عالم التوارڤ ما ورد على لسان عثمان بالي في كلامه للجمهور في إحدى الحفلات: “الليلة إن شاء الله ما قدرناش نجيبوا لكم الصحراء.. ندوكم أنتم للصحراء". من نصوص الصحراء لعله لا يختلف المتابعون على اسم “إبراهيم الكوني" كأهم الذين كتبوا الصحراء واستحضروها في نصوصهم، نصوص امتصت عوالم التوارڤ وحبكتها، نصوص بنينت نصيا هوية ظلت ملتبسة بجدل الحضور الغياب، حضور مرتبط بما تكرس من صور نمطية مرتبطة بمنتوج الايكزوتيك الاستشراقي، وغياب لخصوصيات وأسرار... الكوني التفت للغائب فجعله هاجسا مركزيا لما تراكم من نصوصه التي صهرت العرفاني بالأسطوري، صهرا أنطولوجيا يؤسس جماليا للحضور، حضور الغائب في ما يتصل بالتوارق. والكوني كما يرى الروائي المالي عمر الأنصاري هو “المنحة الالهية للصحراء، فالطوارق حوصروا بالجهل والأمية والقتل والتعتيم الإعلامي، خصوصا في العالم العربي، والكوني هو جائزة تلك الصحراء". وقال: “لأننا أمة ليس لديها مؤرخون ولا كتاب ولا صحافيون منحنا الله الكوني الذي يساوي عندنا مليون كاتب، فقد قدم ذاكرتنا ووجداننا في أدب عالمي، وخلد وجدان الطوارق في الذاكرة الإنسانية. وأسعى كما يسعى غيري من شباب الصحراء إلى تلمس خطاه والاحتذاء بتجربته الإبداعية ما أمكننا". عندما نقرأ الكوني ندخل المتاهة التي تمزج الجلال والحيرة والجذب في حضرة الفناء في المطلق، فناء يجرد ليجسد رؤية تستوعب المعادلة، معادلة الحرية التي تتلخص في الخلاص من التملك ومن المكوث، الحرية انطلاق وانعتاق، والحرية هي محور هوية التارقي، يقول الروائي المالي عمر الأنصاري: “حركة الطارقي لم تكن عبثا في أي وقت من الأوقات، فالطارقي كرس حياته بحثا عن الحرية والانعتاق والتحرر، وكانت الصحراء مجاله الواسع الذي أمكنه من خلاله تحقيق ذلك. فمشكلة هذا الشعب تتلخص في بحثه الدائم عن الذات من خلال الصحراء. وتاريخيا كانت قبائل الطوارق القديمة قريبة إلى المناطق الخصبة في شواطئ المتوسط لكن مضايقة الغزاة الرومان والوندال والبيزنطيين وغيرهم جعلتهم يوغلون في الصحراء ولم يصدهم سوى ثنية نهر النيجر أي الغابة الأفريقية. ولو تحول كل أديم الأرض إلى صحراء فإن الطوارق خير من يمكنهم بناء أي صحراء مهما كانت قاحلة ومهما كانت مميتة". في نصوص الكوني يحضر ما أشار إليه الأنصاري، ويصبح الفقد في الصحراء هو الوجود، وجودا يتحقق ببحث عن مفقود في واحة واو، عن مفقود لن يحضر فإذا حضر تبدد الوجود لأن الهاجس تبدد. فالطارقي كما يقول الأنصاري: “لا يمل من البحث عن نفسه في تلك المتاهة الكبرى، مستعينا بفيض من الوجدان الحميمي الذي يستمد منه الرغبة في البقاء. ذلك هو الجزء العبثي في حياة الطارقي، عبث البحث الدائم عن كنزه المفقود، كنزه المتمثل في تلك المجابة الصحراوية التي حولها أهل الكيد إلى قفص مميت للرجال الزرق، الذين حسدوا لأنهم اختاروا الفقدان. وحينما وجدهم العدو أراد إذلالهم بإرجاعهم من ضياعهم، ووضعهم في قفص محكم الإغلاق، لن يفتح إلا بمعجزة". بفيض الصحراء كان النبع الملهم الذي ألهم ويلهم ومثل الكوني يمكن أن نذكر في هذا السياق ما كتبه الروائي الموريتاني موسى ولد ابنو كروايته “مدينة الرياح"، والروائي المالي عمر الأنصاري صاحب رواية “الرجال الزرق" ويحضر لرواية بعنوان “طبيب تومبكتو"، من الذين شغلتهم الصحراء وكانت هاجسا لهم ويذكر في تصريح له بأن “تاريخ الطوارق لم يكتب بعد، فهو تاريخ ينتظر من يزيح عنه اللثام، وما عدا الكتابات الاستعمارية فإن أحدا لم يكتب عن تاريخ الطوارق ولا عن قضاياهم أو واقعهم إلا ما ندر". ويقول: “يحتم عليّ واجب الانتماء إلى الصحراء حمل هذه الرسالة قدر مستطاعي وقد عملت طوال 15 عاما آملا في إيقاظ هذه القضية المنسية عند أصحاب الضمائر الحية في عالمنا وإيصال صوت الطوارق إليهم". والحديث عن الصحراء يجعلنا نلتفت إلى تجربة مهمة، هي تجربة الكاتب الجزائري السايح حبيب، الذي عرفت فترة إقامته بأدرار تحولا نوعيا في لغة ومعمارية وتيمات رواياته وفي تبلور رؤية عبر تلك اللغة التي تعرج فتغص وتغص فتعرج، رؤية تنسكب كلمات معجونة بالرمل، رمل المحو الذي يعيد الصياغة.. رؤية تحبكها معمارية بمقامات حضرة الجذب في مقامات مسكونة بالأنسنة الحقيقية، أنسنة الصفاء الموصولة بالإلهي في مكابدة الرحلة نحو التحقق اكتمالا. رؤية بنسيج لغوي يأخذ طوبوغرافية الصحراء وسنحاول، لاحقا، التوقف عند تجربة الكاتب السايح بتفصيل.